“حلمتُ فى الليلةِ الماضية بأنى فى قريتى، وعندما صحوتُ وجدتُ نفسى هنا!”

 


 

 

* قالت الصبيةُ (مدينة)، ابنةُ جبال النوبة، ذات الأحد عشرة ربيعاً:- " حلمتُ فى الليلةِ الماضية بأنى فى قريتى ، ولكن عندما صحوتُ وجدتُ نفسى هنا! "
* كان ذلك أيام كان سكان الجبال يحتمون ب(الكراكير)، هرباً من عاديات الطائرات الحربية ومدافع ميليشيا الجنجويد..
* كتبتُ في أحد المواقع الإلكترونية، مواسياً الصبية (مدينة)، بقولي:-
"" ما أيسر تحقيق حلمك يا (مدينة) لو كانت قريتك تعرفك الآن، لكن قريتك لم تعد تعرفك.. كل الأشياء صارت تعطي ظهرها لك.. ولأنك من ( هناك)، أصبحت المسافة بينك و بين (هناك) تشتط بعداً.. فكل شيئ (هناك) يحمل انفجاراً تلوَ انفجارٍ و ذعر و هروب.. كل شيئ (هناك) صار عدواً لك.. عدواً غاشماً صار كل شيئ (هناك).. حتى الأغنام والدجاج وأشجار البافرة والباباي.. كل شيئ.. كل شيئ يرفض وجودك (هناك.. وحتى تراب القرية صار قاتلاً أمام مدخلها إذا وطأته!
* أواه! يا (مدينة)! إن حلمك هذا أخذني، فجاءةً، غصباً عني، وعبَر بي إلى زمان غابر في الجنوب (القديم) أسوأ من هذا الزمان.. زمان كان فيه المكان يموج بوحشية أشبه بالوحشية التي لفظتك إلى ( الكراكير) في الجبال بعيداً عن قريتك.. ""
* وواصلتُ حديثيُ للصبية (مدينة)، ابنة جبال النوبة، ذات الأحد عشرة ربيعاً:-
"" كنا نمتطي القطار في أواسط الستينات من القرن المنصرم.. و نحن في طريقنا إلى مدينة ( واو) الجميلة، قادمين من الخرطوم.. و كانت عربة الدرجة الرابعة مكتظة بأبناء الجنوب ( القديم) الذين أدوا ( واجبهم) في بناء و تعمير ( غابة الأسمنت) بالعاصمة السودانية الجميلة.. كانوا من أبناء قبيلة دينكا ( ملوال).. و دينكا (نقونق).. و كانت أهازيجهم تملآ العربة وتدغدني.. و تتخطى أفراحهم، بالعودة، كل المحطات التي في الطريق.. فقد كسبوا نقوداً من أعمال شاقة في الخرطوم.. ويحلمون بزيادة ثرواتهم من الأبقار لترتفع مكانتهم في مجتمع القرية.. كانوا مثلك، يا (مدينة)، يحلمون بالحياة في القرية.. وكنت أذهب إليهم لأستمع إلى أغانٍ طالما أطربتني منذ الطفولة.. أصوات قادمة من عمق أعماق أفريقيا العذراء..
وفي محطة بابنوسة التقاني أحد الأصدقاء من التجار الذين تنشط تجارتهم بين بابنوسة و واو.. أشار صديقي إلى الأعداد الكبيرة من الدينكا، ركاب الدرجة الرابعة، و همس في أذني:- " كتار من ديل ما حيشوفوا أهلهم!"... كان في صوته شيئ من الإشفاق المشوب بحزن قادم من الأعماق..!
من يستطيع تحذيرهم كي لا يستمروا على ظهر هذا القطار، قطار الموت؟! لا أحد من المسافرين يستطيع.. فنحن في بلاد ماتت فيها القوانين و دُفنت في المحاكم، وبندقية (الجيم ثري) هي الخصم والحكم..
وكان المرء من الجنوبيين- وقتها- يعيش آمناً في الحدود الشمالية، و كأنه في بيت (أبي سفيان).. لكن المآسي تكشر عن أنيابها عند بلوغ حدود الجنوب.. ففي أول محطة تَفاجَأنا بكميات من بنادق (الجيم ثري) تدخل عربة الدرجة الرابعة، و دقات ( البوت) تكاد تكسر أرضية العربة ، و أصوات:- "تفتيش..! تفتيش..!تفتيش...!" و جنود من (الكتيبة الغربية) يمطرون بعض الركاب بأسئلة أشد قسوة من ما يقال عن قسوة أسئلة ( منكر) و (نكير).. والمتهمون معروفون من سيماهم.. و(الشلوخ) المرسومة على الجبين تدينهم .. فلا حاجة للبحث عن دليل إدانة.. وكل امرئٍ منهم يرد ،بلغة الدينكا، على المستجوِبين :- ( يِّيْن أكُوْچ أرابي)، ( أنا لا أفهم اللغة العربية)..
إقتيدت مجموعة من المتهمين (المدانين) إلى أقرب دُغل.. ثم لعلع الرصاص.. و لم نرَهم، بعد ذلك.. و تكرر نفس المشهد في عربة ثانية، في المحطة التالية.. نفس الأسئلة ونفس الأجوبة..
لكن، حين بلغنا المحطة الثالثة، تسلل الركاب (المستهدفون)، في العربات الأخرى، واحداً بعد الآخر إلى خارج العربة، قبل أن يبدأ التفتيش.. وخلت عربات الدرجة الرابعة من جميع (المستهدفين) .
قال لي محدثي بأن الجماعة المستهدفة غالباً ما تقرر السير على الأقدام إلى قراها البعيدة عبر الأحراش هرباً من الموت الذي ربما يكون في انتظارهم في المحطات التالية!
كان ما جرى ميلاد قوة داعمة لحركة (أنيانيا وَّنْ).. قوة لا تتكلم عربي، وتترك البندقية تتكلم إنابة عنها.. و يا لميلاد تلك القوة من ميلاد!""
حاشية..... حاشية..... حاشية..... حاشية..... حاشية.....
* والذي يحدث في ما تبقى من السودان اليوم أن ثمة صبايا، نديداتُ الصبية (مدينة)، ابنة جبال النوبة، ذات الاحد عشرة ربيعاً، يحلمن بالتواجد في قراهن ومدنهن التي فروا منها إلى مكانٍ لجوءٍ غريب عنهن، وعندما يصحون، تصدمهن حقيقة أن حلمهن ليس سوى أضغاث أحلام!
* "والشمسُ تجري لمستقرٍ لها ذلك تقديرُ العزيزِ العليم!"

osmanabuasad@gmail.com

 

آراء