حل المليشيات الحكومية وغير الحكومية أحد الشروط الضرورية للحوار الجاد و للإنتخابات
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المتنبي في صباه:
أبني أبينا نحن أهل منازل أبداً غراب البين فيها ينعق
نبكي على الدنيا وما من معشر جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
أين ألأكاسرة الجبابرة الألى كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا
من كل من ضاق الفضاء بجيشه حتى ثوى فحواه لحد ضيق
فالموت آت والنفوس نفائس والمستعز بما لديه الأحمق.
ولعل فلسفة أبي الطيب تعيننا على الإقتراب المفعم بالحكمة والعمق الصوفي من مسألة الخمائس العرمرم التى تعج بها بلادنا، من تلك المعادية للنظام بدارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، إلى تلك التى ألفت قلوبها واستؤنست واستقدمت للخرطوم كقوة احترافية خاصة وفق منهج ال outsourcing المعمول به فى بعض البلدان، لا سيما الولايات المتحدة. ولدي قناعة راسخة بأن وجود أي من هذه المجموعات كأجسام موازية أو معادية للجيش وللأجهزة الأمنية الرسمية إنما هو خطر ماثل وقنبلة موقوتة سوف تنسف كل ما نتفق عليه من إجراءات وسناريوهات، بدءً بخريطة الطريق التى جاء بها ثابو إمبيكي فى مارس من عام 2014 والتى وقعتها الحكومة على الفور، ووقعتها مجموعة نداء السودان الممثلة للمعارضة في أغسطس من نفس العام. فمهما بدت هذه القوى الحاملة للسلاح بريئة وأليفة ومجافية للإرهاب الداعشي أوالصومالي أواليمني أوالبوكو حرامي، فإنها غير مضمونة العواقب، إذ أن السلاح يغرى باستخدامه، أحياناً بلا سبب يذكر just for the hell of it ، وتاريخ الشرق الأوسط الحديث مكتظ بالنماذج الدالة على ذلك.
فقد كانت معظم الطوائف والأحزاب في لبنان مسلحة – بالخفيف والثقيل – أيام الديمقراطية التى سادت بتلك الدولة منذ عام 1942، مثل المسيحيين الموارنة وكتائب الجميل، وكمال جنبلاط وحزبه التقدمي الإشتراكي المستند على إثنية الدروز وجيشها، والشيعة فى الحقب الأخيرة بزعامة حسن نصر الله وأسلافه، والمسلمين السنة من جانب آخر....إلى أن تفجرت البراكين فى لبنان منذ عام 1974 حتى الآن، فغرق ذلك البلد الجميل فى لجج الحرب البسوسية السرمدية، (وهو البلد الذى قال عنه أحمد شوقي: لبنان ردتني إليك من النوى أقدار سير للحياة دراك......ركز البيان على ذراك لواءه ومشي ملوك الشعر في مغناك)، وخرج من زمرة الدول الديمقراطية الساعية للتقدم الإقتصادي والتصنيع والنجاح، مثل النمور الآسيوية وكافة الدول الأوروبية الشرقية والغربية الديمقراطية التى أصبحت ملاذاً للإخوة الشوام الفارين من أتون الحروب في الهلال الخصيب. وكذا الحال في اليمن السعيد الذي ظلت قبائله مسلحة منذ قديم الزمن، وظلت الدولة قائمة فيه منذ أيام أحمد حميد الدين وآبائه، إلي أن انفرط عقدها فغرقت في دمائها التى ما زالت تنزف منذ خمس سنوات. إن مجرد وجود هذه المليشيات هو إغراء ومقدمة للإنفلات الذى لا مفر منه، كما حدث في الصومال وزائير والعراق...إلخ.
وما دعاني للتعرض لهذه المسألة موضوعان كثر الحديث عنهما في الآونة الأخيرة – (أ) الإنتخابات كتكليل لطريق الحوار الذى ابتدرته الحكومة وولجته أطراف مؤثرة من المعارضة، و (ب) التقرير الذى صدر مؤخراً متناولاً قوات الدعم السريع . ولنبدأ بالأخيرة:
فقد وردت هذه المعلومات عن المصادر المالية لهذه القوات:
1. يتلقي الجندي بقوات الدعم السريع خمسة أضعاف الراتب الذى يستلمه الجندي بالقوات المسلحة.
2. رصدت ثلاثة مليارات و220 مليون جنيه للدعم السريع فى موازنة 2017 (بينما كان نصيب الخدمات الصحية 555 مليوناً فقط، أي أن نصيب هذه القوات كان ستة أضعاف نصيب وزارات الصحة الإتحادية والولائية، وأربعة أضعاف ما خصص لوزارة التربية)
3. دفع الإتحاد الأوروبي 55 مليون يورو لهذه القوات لمكافحة الهجرة غير الشرعية، بالإضافة ل155 مليون يورو لوجستيات، لإقامة معسكرات إيواء المعتقلين من المهاجرين غير الشرعيين الذين يتم اكتشافهم في بيداء الصحراء الكبري. (ولقد كان من ثمرات هذا النشاط العثور على الإرهابي التونسي الهارب أبو نسيم الذى تم تسليمه للحكومة التونسية).
4. جبل عامر بشمال دارفور عامر بالذهب وخاضع لسيطرة هذه القوات، وبه 400 منجم ذهب (كان يشاركها فيه موسي هلال)، وهي تدر 123 مليون دولار سنوياً، وكانت صادراته فى الفترة 2010 حتى 2014 بقيمة أربعة ونصف مليار دولار، تشرف عليها (شركة الجنيد لتصدير الذهب).
5. تقوم القوات المذكورة بتنفيذ مهام وتكليفات أمنية معقدة، على غرار ما كانت تفعله الشركات الأمنية الأمريكية الخاصة في العراق، مقابل ثمن متفق عليه، ولقد تحججت الحكومة بأن هذه القوات مترابطة ومتلاحمة إثنياً، وتتألف من شباب متحمس وذى شكيمة وعزيمة ومقدرات قتالية عالية، ( وبالطبع يوحي هذا الموقف بالمنظور المقابل: وهو إن القوات الحكومية قد شاخت كوادرها وأصابها الوهن والقنوط من كثرة المعارك بلا طائل، منذ حرب الجنوب التى قادت للهزيمة وفقدان ذلك الجزء الذى يساوي ثلث الوطن).
ولربما نظرت الحكومة لما ظل يحدث للجيش المصري منذ أنور السادات وإتفاقيات كامب ديفيد التى ظلت القوات المسلحة المصرية تتلقي دعماً بموجبها من الولايات المتحدة يبلغ ملياري دولار سنوياً، في شكل لوجستيات ومؤن وبضائع، ومن جراء ذلك تحول الجيش المصري إلي أكبر مؤسسة اقتصادية وتصنيعية بالبلاد، وأخطر منافس للقطاع الخاص، وقوة سياسية ظلت تحكم البلاد طوال فترة السادات وحسني مبارك، وما زالت تفعل نفس الشيء منذ ثورة يونيو 2013 الشعبية التى جاءت بالسيسي لدست الحكم مكرماً معززاً . ولكن هنالك فرق شاسع بين جيش رسمي موحد ينتظم البلاد كلها ويفرد جناحه فوقها، مهما كان رأي الناس في حكم العسكر من حيث هو، وبين مليشيا تم تأسيسها على أرضية إثنية ومناطقية محددة، فى بلاد متعددة الإثنيات والأقاليم والمناخات والشعوب والإحن والمحن والفتن والمماحكات، وبلاد تعاني من عمق الهوة بين المدينة والرف، ومن فظاعة التخلف الإقتصادي والإجتماعي الذي تعاني منه كافة الأقاليم بأطرافها المختلفة، وليس فقط الإقليم الذي استجلبت منه قوات الدعم السريع.
إذاً، فلننظر في أمر هذه القوات، الموالية والمعادية للحكومة، ولنشملها بحملة جمع السلاح التى نشطت ثم خبأت مؤخراً، كجزء من إتفاق وطني شامل في إطار الحوار الوطني الذي بدأ النظام السير فيه منذ ثلاث سنوات، والذى نجمت عنه المخرجات التى لم تلتزم بها الحكومة بشكل تام، مما قاد لتوسيع الشقة بين النظام ومجموعة نداء السودان، وللإتهامات والمخاشنات اللفظية بين الحكومة ورئيس نداء السودان الإمام الصادق المهدي. هذه الأجواء المضطربة تحتاج لتهدئة وتؤدة ورزانة عرف بها أهل السودان عبر كافة الحقب والأزمات، ومن هذا المنطلق دعنا نعود للموضوع (أ)، أي الإنتخابات كتكليل لمشروع الحوار الوطني:
فقد أورد البروفسير أحمد إبراهيم أبوشوك في بوسته الأخير بالفيسبوك (الجمعة 30 مارس) تصريحاً للباشمهندس عمر الدقير خص به الصحفي الزين عثمان بصحيفة "اليوم التالي"، فحواه:
(أنا لا أفضل استخدام كلمة تسوية، ونحن لسنا دعاة تسوية، نحن دعاة تغيير هذا الواقع بالكامل، وذلك عبر الحل الأقل تكلفة والحل الأنسب، وهو حل الحوار السياسي الشامل بغية نقل البلاد إلى استقرار يحقق آمال الشعب وطموحاته وهو الخيار الأمثل، لكن هذا الخيار يحتاج لتوفير شروطه الموضوعية، وهي حتى الآن مفقودة من قبل النظام الحاكم. لذلك نحن الآن نقاتل عبر فوهتين: فوهة مركوزة مع الشعب السوداني من أجل المقامومة، والفوهة الأخرى هي فوهة العمل السياسي عبر الحوار من منابره المتعددة داخلياً وخارجياً.)
ولقد خلص البروف أبوشوك إلى أن الإسترتيجية المبتغاة حسب قراءة تصريح الدقير هي (المشاركة السياسية القائمة على آليات التدافع السياسي النزيه).
أرى أن موقف حزب المؤتمر السوداني الذي عبر عنه الباشمهندس الدقير هو موقف معظم أبناء وبنات الشعب السوداني الذين يقفون على الضفة المقابلة للمؤتمر الوطني، وهو عبارة عن الإطار المرجعي للفترة الحالية المؤدية بالضرورة لإنتقال السودان عبر عملية الregime change إلى بلاد تنعم بالسلام والاستقرار والديمقراطية وحكم القانون والشفافية والبعد عن الشوفينية والتطرف والإحتراب القبلي والإثني والفساد الحكومي. وحسب هذه الرؤية فإن المعارضة، كما جاء في إعلان باريس الأخير من قبل نداء السودان، مثابرة في طريق الحوار المجافي للعنف واستخدام السلاح بين أبناء الوطن؛ وهي ماضية في الإلتزام بخريطة الطريق التى وقعتها فى أغسطس 2014؛ وهي سوف تلج أبواب الإنتخابات كافة متى ما التزمت الحكومة بشقها من المعادلة – أي إستيفاء الشروط المهيئة للجو الصحي المناسب للإنتخابات، وذلك تحديداً بإنجاز الآتي على جناح السرعة: (ولو كنت في مكان الحكومة لتذكرت بيت الشعر الذى يقول: تمتع من شميم عرار نجد.....فما بعد العشية من عرار):
• إلغاء القوانين وحزم الإجراءات المقيدة للحريات وكفالة حق التعبير والتنظيم.
• تغيير طاقم لجنة الإنتخابات، ولا داعي للخوض فى الشكوك المزعجة التى تلف اللجنة الحالية ورئيسها. وفي مثل هذا التغيير إبداء لحسن النية صوب القوى المعارضة، وياحبذا لو تم التشاور مع القوى المعارضة حول الترشيحات للطاقم الجديد.
• إلغاء ميزانية 2018 وتعيين وزير مالية تكنوقراطي محايد جديد، من باب إظهار الجدية نحو الإصلاح والإلتزام بمصالح البلاد وتغليبها على المصالح الحزبية الضيقة.
• تستهدف الميزانية الجديدة خفض الإنفاق الحكومي عبر:
أ. إدماج المليشيات الحكومية في القوات المسلحة إذ أن بقاءها على حالها باهظ التكلفة، وربما يقود لنفس النتيجة التى قاد لها الإبقاء على الجيش الشعبي الجون قرنقي بعد إتفاقية نيفاشا، وهي إنفصال الجنوب. وفى الحالة الراهنة إنفصال دارفور.
ب. إلغاء وزراء الدولة وتقليص الوزارات الإتحادية لما كانت عليه فى حكومة الأزهري عام 1956 وإلغاء الحكومات الولائية والإكتفاء بوال يساعده ثلاثة أو أربعة إداريين. وإلغاء المجلس الوطني الذى جاء بالتعيين، وتلك وسيلة مجافية للديمقراطية، والإستعاضة عنه بمجلس تشريعي إنتقالي ذى صلاحيات محدودة من ثلاثين عضوا ممثلين لكافة ألوان الطيف.
ت. إلغاء وزارة الإعلام وتحويلها إلى هيئة قومية على غرار البي بي سي البريطانية.
• النظر في إمكانية إلغاء المؤتمر الوطني أو سحب الغطاء الحكومي عنه حتى ينافس منافسة حرة بالشارع السياسي مع كافة القوى الأخرى، بمعني إرجاعه لوضعه السابق لإنقلاب 30 يونيو 1989 كحزب إسمه الجبهة القومية الإسلامية.
آخر الكلم:
قد تبدو الآراء المطروحة عاليه مغالية في التفاؤل والرومانسية، ولكن الإحتقان الحاد الذى تمر به البلاد يستوجب إمعان النظر فى البدائل الممكنة التى يمكن أن تخرج البلاد من وهدتها الكارثية الحالية. فنحن على أعتاب الصوملة أو الفوضي الإفريقية التى عمت الكثير من البلدان المجاورة – مثل جنوب السودان وإفريقيا الوسطي ...إلخ. بينما يمكننا أن نحدق في الجانب المشرق الآخر بتاريخ القارة الحديث، مثلما حدث في جنوب إفريقيا حيث أخرج نظام الفصل العنصري المتحكم فى البلاد منذ الأربعينات، أخرج نلسون مانديلا من سجن دام لسبع وعشرين سنة وتفاوض معه بعقلانية وهدوء، إلى أن توصل الطرفان لتفكيك دولة البيض برمتها وإقامة وطن على مبادئ الديمقراطية اللبرالية، ففتحت الأبواب أمام حزب المؤتمر الذى اجتاح انتخابات 1994 وأتي بنلسون مانديلا رئيساً للجمهورية الديمقراطية الجديدة التى ظلت مستقرة ومتطورة منذئذ حتى اليوم. كما أن هنالك نماذج للتحول السلمي الديمقراطي شهدتها السنغال وتنزانيا ورواندا وأخيراً إثيوبيا.
وهنالك في تاريخ السودان نفسه العديد من النماذج للتوافق بين كافة مكونات الشعب عند الملمات – إذ توحد أهل السودان خلف الإمام المهدي عام 1881م وأطاحوا بالحكم التركي العثماني المدجج بالمخابرات البريطانية وعلى رأسها شارلس غردون والجنرال هكس وغيرهم. وتوحدت كل الفصائل السياسية، شمالها وجنوبها، وأعلنت الإستقلال من داخل البرلمان فى ديسمبر 1955. وتوحد الشعب السوداني في أكتوبر 1964 وأطاح بنظام الجنرال عبود وجاء بحكومة انتقالية تألفت من كل الأحزاب والإتحادات العمالية والزراعية. وحدث نفس الشيء مرة أخرى في أبريل 1985 حين تم القضاء على النظام المايوي واتحاده الإشتراكي (العظيم).
إن إمكانية التوافق واردة بين القوى السياسية السودانية، وهذا ما نلمحه في الروح الإنفتاحية لدى حزب المؤتمر السوداني وزعيمه عمر الدقير، وما نلمحه في مخرجات مؤتمر باريس لقوى نداء السودان بباريس قبل أسابيع، وما نلمسه فى كتابات المفكرين الموضوعيين والمحايدين مثل السر سيداحمد والدكتور النور حمد والبروف أبو شوك، وما نستشعره من جلسات المثقفين السودانيين الوطنيين ومداخلاتهم بأجهزة التواصل الإجتماعي. ولقد تقدم الشارع السوداني خطوة نحو الإنفراج والسلام والتصالح الوطني، ويبقي على النظام القائم أن يرد على ذلك بخطوتين مباركتين من رب العامين، وذلك بإظهار الجدية وحسن النية المشار إليها آنفاً. وعلى الله قصد السبيل.
والسلام.
الفاضل عباس محمد علي
ابوظبي 31 مارس 2018
fdil.abbas@gmail.com