حميدتي وتسيّد المشهد السرويالي

 


 

 

حديث حميدتي حول أنه لن يسلم جهازي الشرطة والأمن والمخابرات إلا لرئيس منتخب، يجب ألا يُنظر إليه بأنه خرق للوثيقة الدستورية فحسب، فالوثيقة الدستورية قد تم خرقها والتقليل من شأنها في عدة منحنيات، بل حتى أن استحداث المنصب الذي يجلس عليه حميدتي (النائب الأول لرئيس مجلس السيادة) يُعد خرقٌ للوثيقة الدستورية، وقد كان ذلك إيذانا ببدأ الاستهوان بأهم وثيقة تحكم فترة الإنتقال، وقد يًقرأ تصريح حميدتي هذا بأنه لا يقيم للوثيقة وزناً، لأنه يدرك أنها لم تعد المرجعية الدستورية الواجبة الإحترام، فسلام جوبا على سبيل المثال قد تكفل بهذه المهمة بترجيح الاتفاقية على الوثيقة في حالة تعارضهما، وتلك سابقة فريدة من نوعها أن تعلو اتفاقية على الدستور المرجعي. فالمعروف أن الدستور - إن كان دائم أو مؤقت- هو أب القوانين و يجب ألا يتم التفريط أو التضحية به تحت أي ذريعة كانت.
على عموم الأمر، ومهما يكن من شيء فإن حديث حميدتي فوق أنه حديث سياسي ويجب أن يُقرأ في السياق السياسي وبلغة سياسية، ينم عن جهل مطبق بماهية الشرطة، فالشرطة ليست جهاز عسكري بالمعنى القتالي، وإنما هي جهاز مديني، المفترض أن يُعنى بادارته أصلا المدنيون. حتى أن كلمة Police تعنى في جذرها اللغوي (مَدِيني) أو كل ما يتصل بتنظيم شؤون المدينة والحكم، فالرجل ومن خلال حديثه قد نصب نفسه وصياً ليس فقط على جهازي الشرطة والأمن والمخابرات، بل على العملية السياسية برمتها، وتتجلى لهجة الوصايا من السبب الذي ساقه بأنه لن يسمح بأن يضع هذين الجهازين في يد من يريد أن (يبطش) بهما. فهو بذلك يحدد نوايا الآخرين مسبقاً بأنهم يريدون أن يمتلكوا هذين الجهازين" ليبطشوا بهما" وهو "كحارس" و"قيم" و"مانع" لفعل البطش لن يسلمهما إلا لرئيس منتخب. عند هذا الحد تتعطل إمكانات التحليل، وتنعقد ألسن المراقبون بالدهشة، وتكاد تفارق العقل قدرات التمييز، فلا يملك المرء في خضم هذا المشهد السرويالي الذي يتسيَده هذا الحميدتي، إلا أن يستدعي المقولة الإنجليزية الممعنة في السخرية والاستنكار التي تُقال في مثل هذه المواقف... look who is talking والتي تُترجم حرفياً ب(انظر مَن الذي يتحدث). حيث تُقال هذه المقولة في شأن الشخص الذي يمارس ذات الفعل(البطش) ويحاول في نفس الوقت أن يظهر بمظهر المتطهر الذي يستنكر الفعل إذا ما قام به الآخرون كأنه ملاك يتدثر بالعفة والفضيلة.
د. محمد عبد الحميد

 

آراء