حوار الثعالب: الثنائي الخطير: برهان وحميدتي!

 


 

 



كنا في غفلة ساذجة من أمرنا في بادئ الأمر، (يعني بالدارجة: شالتنا الهاشمية)، إذ تسلل لنفوسنا الإعجاب بكليهما، ف. أ. "مشاة" برهان وف. أ. "جربندي" حميدتي، بسبب دورهما يومي 11 و12 أبريل عندما رفضا قتل الجماهير المحتشدة أمام رئاسة القوات، ثم أجبرا البشير على التنازل، ومن بعده إبن عوف؛ ودبجنا المقالات مشيدين بهذين "البطلين" الثائرين، وضربنا صفحاً عن ماضيهما الملطخ بدماء قبائل الزرقة الدارفورية، وبدماء نيف ومئتي شهيد في انتفاضة سبتمبر 2013، (ولعل لسان حالنا كان يردد: ما في شدرةً ما هباها الريح)؛ ولم يثنني شخصياً عن ذلك الإعجاب الفطير تحفظ صديقي بروف م ج هاشم الذى حباه المولي ببعد النظر وبصيرة الأولياء الصالحين القاصعين، والذى كثيراً ما ذكرنا بمجازر دار فور منذ 2003، وبخلفية حميدتي بالذات، وخلفية أهله العربان الأبالة المنحدرين من ثقافة الهمبتة والصعلكة البدوية المتفلتة وقطع الطرق بجيوب ومنعرجات الصحراء الكبرى، الذين تكأكأوا على جنوب دارفور كالغزاة الهكسوس.

كما طالعت مقالا البارحة بForeign Affairs نثر المزيد من الضوء على ما ارتكبه الضابط برهان من جرائم حرب بدار فور في الفترة 2003/ 2005، وعلي دوره كقائد للكتيبة التى أرسلها الجيش السوداني لتساهم في عاصفة الحزم باليمن منذ بدايتها، قبل الاستنجاد أيضاً بكتيبة الدعم السريع الجنجويدية التابعة لحميدتي، وكيف أن الرجلين التقيا وتوافقا مرة أخرى في حلبات الوغى اليمنية، استمراراً لرفقة السلاح القديمة منذ أيام دارفور؛ وهاهما يلتقيان للمرة الثالثة بالمجلس العسكري الإنتقالي.

ويبدو أن من شب على شيء شاب عليه؛ ومن ارتكب مثل تلك الفظائع بدارفور – قتل ثلاثمائة ألف نفس واغتصاب النساء وذبح الأطفال وحرق القرى وتشريد ملايين السكان بمتاهات النزوح واللجوء بدول الجوار وبأرجاء المعمورة كافة، دون أن يبدى ندماً أو أسفاً أو اعترافاً بما فعل، ووعداً بما سيفعل من باب الاستغفار ورد المظالم وإحقاق الحق وتعويض المتضررين، ودون أن يمارس نقداً ذاتياً يغسل ضميره بموجبه ويسمح له بفتح صفحة جديدة في العمل العام، لا يستطيع أن يواجه الناس إلا بكثير من الخجل، ناهيك عن قيادة أمة بحالها وتزعم شعب ثائر على نظام استبدادي فاسد، ومتطلع لدولة مدنية ديمقراطية أساسها العدل والشفافية والمساواة، ورفض العنصرية والاستعلاء الإثني والاسترقاق والبطش بالمهمشين.

ثم تسلل الشك إلى نفوسنا فيما يختص بضباط المجلس الانتقالي بصفة عامة، والفريقين المذكورين بصفة خاصة، إثر عملية تراكمية ملامحها الرئيسية كالآتي:
• ظلت المفاوضات مع مندوبي نداء الحرية والتغيير تراوح مكانها لأكثر من شهر دون سبب يذكر، (غير التشبث والاستهبال والمناورة الهادفة لاستنساخ النظام البائد)، إذ أن الأجندة واضحة وضوح الشمس، عاكسة لرغبة الشارع المنتفض في وضع نهاية لنظام الكيزان، وتنفيذ البرنامج الانتقالي المتفق عليه عبر الآلية الثلاثية: مجلس سيادة مدني بتمثيل عسكري محدود، ومجلس وزراء من الكفاءات الوطنية النظيفة، ومجلس تشريعي. وآثر المجلس العسكري أن يترك البلاد في حالة فراغ دستوري تسمح له بالتحرك حيث وكيفما شاء، ممارساً كل السلطات – السيادية والتنفيذية والتشريعية - بلا كابح أو ناقد موضوعي أو إعلام حر جديد بعيد عن أبواق النظام البائد (مثل الرزيقي والهندي عز الدين وهلمجرا).
• ما انفك جندرمة الدعم السريع يعودون لطبعهم العدواني الأصلي بين الفينة والأخرى، ويطلقون النار نحو المتظاهرين المعتصمين هنا وهناك، ثم تتعالى الأصوات المربكة والمشوشة لحقيقة ما حدث، والتى توجه سهام الاتهام لجهات أخرى ك(المندسين) أو كتائب الظل، وهكذا يتوزع دم الشهداء بين القبائل، وتضيع الحقيقة وسط مثار النقع الكثيف فوق رؤوس الثوار.

• أخذ صاحب الحضور المفرط، الفريق أول حميدتي، يخاطب جميع المنابر كأنه الناطق الأوحد بإسم المجلس، وأخذ يوزع الأعطيات والهبات المليارية ذات اليمين وذات اليسار، كأنه النبي الخضر عليه السلام، دون أن يوضح ما هو مصدر تلك الأموال الطائلة في بلاد ينعدم فيها الكاش، وما برحت طوابير المنتظرين ممتدة أمام الصرافات الآلية منذ ستة أشهر بلا ضوء في آخر النفق. وقد ذكر حميدتي لإحدى القنوات بعظمة لسانه أنهم ورثوا خزائن فارغة تماماً كفؤاد أم موسي. وتقول الشائعات إنه أبرم صفقات أسلحة ثقيلة (دبابات)، ولتدريب أبناء الرزيقات على الطيران العسكري بإثيوبيا، (فيما يشبه علوق الشدة)، وأنه أرسل من يجند أبناء الزبيدية والبني عامر والشكرية لصفوف الدعم السريع، بتمويل مباشر من الدول الخليجية المعنية.

• كانت ثالثة الأثافي تهديد حميدتي للمشاركين في العصيان المزمع بالفصل من العمل؛ أي أنه لم يستوعب الركيزة الأساسية للثورة التى اندلعت من أجل حرية التعبير والتنظيم، وحق الإضراب هو سلاح مشروع في النظام الديمقراطي، مثله مثل التظاهر والاعتصام sit-in وكذلك الpicketing وغير ذلك من الممارسات المتحضرة التى ألفتها المجتمعات الحرة المتقدمة منذ الثورة الفرنسية بالقرن الثامن عشر. وبهذا التهديد المنفلت أعاد حميدتي للذاكرة ممارسات الدكتاتور البائد البشير الذى كان يتخذ القرارات كيفما اتفق بمزاجية وارتجال ورغبة ذاتية لا رجوع فيها لمؤسسية او جهة استشارية، فهو الواحد الأحد الذى لا يسأل عما يفعل؛ ويبدو أن هذه الثقافة الاستبدادية والاستعلائية هي منهج الحكم الذى تربي عليه وتشرب منه حميدتي في كنف الإخوان المسلمين، والذى أوحي له بهذه التجليات، بوعي منه أو بدون وعي.

• وكانت الطامة الكبرى هي حج حميدتي لآل سلمان بمكة، والبرهان للسيسي بالقاهرة: ما كان هذا وقت هاتين الزيارتين والدولة الجديدة في حالة تخلق عبر مخاض متعسر، والبلاد تمر بثورة عارمة لم تصل لنهايتها بعد، وملايين الثوار مرابطين في نهار رمضان ذى الحر القائظ أمام رئاسة القوات. وما كان هذا وقتها والحكومة الجديدة لم تظهر للوجود بعد، ولم تفصح عن نوعية السياسة الخارجية التى ستتبعها، وعن موقفها من المحاور التى تكتنف المنطقة، والتى عادت بموجبها الدول العربية شعوباً وقبائل متناحرة ومتشاكسة، بينها ما طرق الحداد، مع انعدام الوسيط العاقل الذى قد يؤلف بين القلوب ويلم الشعث ويبشر بالسلام. ولربما تسعى الحكومة الثورية الجديدة لتقمص هذا الدور الحيادي الإيجابي بحكم قبولها لدى كل الأطراف، بحكم ابتعادها عن المحاور والتكتلات المتباغضة، والذى يجعلها ذات مصداقية تفوق مصداقية الجامعة العربية (المهزوزة) بعدة فراسخ؛ فلماذا يستبق البرهان ورفيقه حميدتي كل هذه الاعتبارات الإستراتيجية ويتهالكان ويتهافتان على الدولتين المذكورتين ويعلنان عداءهما لإيران هنا، ولكل الدول التى لا تحبها مصر، هناك؟ ربما يكون لنا رأي آخر، فنحن نعادي من يعادينا وليس من يعادي مصر. وإذا سرنا مع منطق البرهان لنهايته، وإذا شرعنا كما أراد لنا برهان في معاداة الدول التى تسبب أذى لمصر (من هي بالتحديد؟ وأي نوع من الأذى؟)، فلماذا لا نصادق الدول الصديقة لمصر؟ لماذا لا نتبادل التمثيل الدبلوماسي مع إسرائيل كما ظلت مصر تفعل منذ اتفاقيات كامب ديفيد بين أنور السادات ومناحيم بيقن واتفاقية السلام في 1979؟ ولماذا لا نصادق أمريكا ونعقد معها صفقة كتلك التى تنعم مصر بموجبها بملياري دولار سنوياً كدعم اقتصادي؟ ولماذا نشارك في حرب اليمن التى نأت عنها مصر ورفضتها وقللت من جدواها وقالت عنها ما لم يقله مالك في الخمر؟

باختصار، لقد أبدى كل من حميدتي وبرهان ما يشير إلى أنهما ينفذان أجندة أجنية، وأنهما مشبعين بالطموح للإنفراد بالأمر على طريقة السيسي الذى ورث ثورة 30 يونيو 2013 الشعبية المصرية، وأنهما مثل علي عبد الله صالح يرقصان فوق رؤوس الأفاعي، ويلعبان الروليت مع مناديب الحرية والتغيير، حتى يجعل الله أمراً كان مفعولا.
وهنا لا بد أن نذكرهما بأن الثورة السودانية أمر مختلف، وعلى رأسها شباب شديد المراس وقوي الشكيمة، ويستند على إرث ثوري ليس هنالك مثله في تاريخ المنطقة برمتها. كما نذكر برهان بأن الروح الحقيقية للجيش هي التى عبر عنها الضباط الذين وقفوا مع الشعب ضد الأمن والشبيحة، وهي التى جعلت الجماهير تلوذ بالقيادة العامة وتقيم بها ما أقام عسيب، مطمئنة البال وثابتة الجنان.
ولا بد أن نذكر حميدتي بالذات بأن ظهره مكشوف تماماً أمام القوات المسلحة، ما لم تذب مليشيته فيها وتتماهي مع عقيدتها؛ فهي بوضعها الراهن مجرد مجموعة محدودة الهوية والعدد والعتاد والحيز الجغرافي (أي موجودة بالعاصمة فقط)، وتتألف من سيارات ذات دفع رباعي محملة بأسلحة المشاة؛ وهي ليست إلا مجرد وجبة من البسكويت مع الشاي بالحليب أمام أسلحة كالمدرعات والطيران والمدفعية والقوات المحولة جواً والقوات الخاصة والمشاة. وإذا شعر الجيش بأن حميدتي لا يتحدي الشارع فقط، إنما يتحدي الجيش ويسخر منه ويستفزه ويحتقره، فإن الصدام لا مفر منه، وسوف يكون من العسير لمليشياrag tag كهذه أن تقف في وجه جيش بعراقة ورسوخ الجيش السوداني، مهما فعل الإخوان المسلمون فيه الأفاعيل من تخريب وتزييف لإرادته وتطويع وتدجين لمنسوبيه. ولا بد أن الثورة الشعبية التى أشاعت اليقظة والوعي والبسالة والتجرد تترك أثرها على أفراد القوات المسلحة، فهم جزء من نسيج المجتمع ومن الثقافة السائدة التى جلبتها ثورته الشعبية المستمرة منذ منتصف ديسمبر المنصرم.

والحالة هذه، فإننا جميعاً، مثلما ظل يذكرنا المناضل علي محمود حسنين حتى رمقه الأخير، مع تسليم المجلس العسكري قائمة بمطالب قوى الحرية والتغيير، ولسنا مع الجلوس معهم حول أي طاولة للمفاوضات والمزايدات واللف والدوران. هؤلاء القوم يتذاكون على الثوار، ويسعون للإستقواء عليهم بدول الجوار. وأرجو أن أذكر برهان بما قاله يوليوس قيصر (كما ترجمه شكسبير) لساعده الأيمن كاسيوس ذى العينين الحادتين والجسم النحيل، (وقد صدقت نبوءته إذ تآمر كاسيوس مع أعضاء مجلس الشيوخ (السيادة) واغتالورا قيصر أمام باب المجلس، وأدخل الجميع سيوفهم فيه، وأولهم مساعده كاسيوس وصديقه بروتس، ليتوزع دمه بين القبائل:-
Let me have men about me that are fat,
Sleek-headed as sleep over night!
You Cassius have a lean and hungry look.
Such men are dangerous!

أرى أن كلا الفريقين المذكورين من الخطورة بمكان، ولا بد من مجلس سيادة مدني بالكامل، مع تمثيل عسكري يختاره مندوبو قوى الحرية والتغيير من الضباط المفصولين من القوات المسلحة بواسطة نظام البشير المباد.

والسلام.


fdil.abbas@gmail.com

 

آراء