حِميْدتي: هـلْ يُصلِحَ صـوْرةَ السّودان في اليمَـن؟
(1)
الناظر للتصعيد في العداءِ بين الولايات المتحدة والحمهورية الإسلامية في إيران، لن يصعب عليه أن يرى أن ذلك العداء ، أعمق ممّا قد يبدو في تجليّاته الماثلة. ثمّة تراكمات تاريخية شكّلتْ محطات قي تلك العلاقة، من تداعياتها ما يعود إلى الأيام الأولى لاندلاع الثورة التي قادها آية الله العظمى الخميني عام 1979، وسقط على إثرها النظام الشاهنشاهي. ذلك نظام أدرك أن ديمومته رهن بالحماية الأمريكية، فجعل الشاه رضا بهلوي من عاصمته طهران، مركزاً للمخابرات الأمريكية في المنطقة ، حسب إفادة أدبيات تاريخ الثورة الإسلامية وراصدي تطوراتها ، مثل كتابات فهمي هويدي ومحمد حسنين هيكل. ولمّا كان شعار الثورة وقتذاك ، بلسان أهل فارس: "مَـرك بَـر أمريكا"، أي الموت لأمريكا، فقد أقدم طلاب طهران باحتجاز بعض دبلوماسيّي السفارة الأمريكية هناك لفترةٍ بلغت أربعمائة وأربعة وأربعين يوماً حسوما. ذلك تاريخ محفور في الذاكرة الأمريكية، ولا يتسى. .
(2)
مِـنْ تجلـيّـات تلك الثورة ، إقدامها على اتباع مبدأ تصدير ثورتها الإسلامية "الشيعية"، برفع رايات الجهاد، إلى ما جاورها من بلدان وشعوب ، هي في الأغلب الأعمّ بلدان تتبع المذهب السنّي. تلك خلافات مذهبية برزت على السطح بعد تلك الإجتراءات، وأحيتْ بوتيرة متصاعدة، صراعات في المنطقة ظلت دفينة لعقودٍ طويلة . بقيتْ الجيوب الشيعية تتعايش في المجتمعات السنية ، المنتشرة في منطقة الشرق الأوسط ، دون أن تتجوّل اختلافاتها المذهبية إلى صراعات وأزمات أفضتْ بالعلاقات بين تلك المجتمعات إلى حالة من الشـلل والاستعصاء ، ثم ارتفعت وتيرة الخلافات لتشكّل حافزاً للطامعين من القوى العظمى فيعمدون لإثارة الحروبات لصيد المصالح في بحر تلك العدائيات. .
لم تكن تغذية الخلافات المذهبية بين سنة وشيعة، هيَ من صنع أيدي الأنظمة القائمة في المنطقة وحدها ، بل أيضاً بتشجيع ذوي الغرض من القوى الأجنبية الطامعة. نظرة واحدة إلى الذي دار في الثلاثة عقود الأخيرة، من حروب في منطقة الشرق الأوسط ، تكفيك لتدرك ذلك. الذي يدور حالياً في سوريا وفي العراق وفي اليمن وفي ليبيا، وله وجه من وجوه ذلك الخلاف المذهبي – إضافة لعوامل أخرى- هو السمّ الي تتجرّعه الأنظمة من حولنا بيدها ، لا بيد الآخرين الطامعين. .
ونسأل : هل للسودان من علاقة بكلّ ذلك. . ؟
(3)
يظلّ الإحتلال الإسرائيلي لفاسطين في خاصرة الشرق الأوسط ، جرحاً غائراً ينبغي على المجروحين أن يتضامنوا لمواجهته، وعلى المغلوبين أن تتضافر جهودهم لاستعادة ما نهب من أرض ، وأن يضعوا حداً لعلوِّ إسرائيل في تلك الأرض السليبة .
تتشابك الخلافات والصراعات بين أهل المظلمة التاريخية، السنيّ منهم والشيعي، فيكاد يضيع الحق الفلسطيني، فتجد دولة إيران الإسلامية هي من تبادر وتكون في صدارة فيالق المواجهة . تقف مع النظام العلوي في سوريا، ومع "حماس" في قطاع غزة، ومع حزب الله في لبنان، ومع الحوثيين في اليمن الممزق الحزين. إيران هيَ من ترفع عالياً راية القضاء على إسرائيل ، هي من تدعم وتساند المقاومة الفاسطينية ، وتسعى حثيثاً لامتلاك الأسلحة المتقدمة التي تخيف لإسرائيل. أما ظل نتنياهو يروّج لضرورة احتواء مساعي إيران لامتلاك المفاعلات النووية ، ويحرّض القوى العظمى لتحجيم مساعي إيران، فتسعى للحـدِّ من قدرات إيران النووية. . ؟
(4)
كل الذي جئت إلى سرده يحيلنا إلى ذلك السؤال الذي يثير العجب : أين السودان من كلّ ذلك. . ؟
من بين كل البلدان في المنطقة، تجد نظام البشير البائد، حتى قبيل موالاته للمللكة السعودية، متماهياً مع "عاصفة الحزم"، فيقطع علاقاته مع إيران أواخر أيامه، وهو من قبل ذلك، من منح معابره لتحمل السلاح الإيراني إلى المقاومة الفاسطينية. من بين كلّ الأنظمة في المنطقة، هو من يوالي النظام السوري، فيزور بشار الأسد ليثير الدهشة والاستغراب عند أكثر الأنظمة العربية التي قاطعت ذلك النظام البشع. إنّ النظام البائد في الخرطوم ، هو من أقحم أنفه - وبإيعاز من طامعين- في تلك الصراعات الدائرة في ليبيا. الأفدح من كلّ ذلك هو قيام نظام البشير البائد بإرسال جنود سـودانيين للقتال في اليمن ، ضارباً بعرض الحائط بإرث السودان الدبلوماسي الوسطي الذي أوقف في خير مثالٍ له، حرب اليمن في ستينات القرن الماضي، بمصالحة غير مسبوقة بين زعيمين عـربيين كبيرين، هما الملك الراحل فيصل والرئيس الراحل جمال عبدالناصر. أحرق الطاغية البشير ذلك الإرث الدبلوماسي الناصع للسودان، بإرسال فيالق "قوات الدعم السريع" ، وهم بضعة آلاف لا مئات، لطاحونة الموت في بلاد لا يعرفونها. .
(5)
وللسودانيين أن يتساءلوا: إن كان حمدان دقلو حميدتي، هذا الذي استنجد به البشير لينقذه بعد أن دارت عليه الدوائر، فإذا به ينحاز للثورة السودانية ، أهو على علمٍ بموقع السودان إزاء تلك الوقائع والأحداث . .؟
ترى هل يعرف ذلك القائد الشاب، أن السوداني في اليمن – صنعاء او عدن- يعرفه اليمانيون مُدرساً ومعلّماً. . ؟ ليته يدرك أن السوداني سعيد باشا القدال (1903-1975) هو رائد للتعليم في اليمن، وأنه من عظم دوره أن كلفوه ليكون رئيساً لوزراء حضرموت ، ذلك البلد الذي عرف لاحقا بإسم اليمن الجنوبي. ليته يعلم أن قحطان الشعبي أول رئيس لليمن الجنوبي المستقل ، قد تعلم وتخرّج من مؤسسة تعليمية عريقة في مدينة "أم درمان" في السودان . .
ليس للسوداني أن يحمل سلاحاً ليقاتل في اليمن ، مع أو ضد الحوثيين. إن علاقة السودان واليمن هي من أوثق العلاقات التي رسخت بالتصاهر وباقتسام التاريخ والتشارك في المزاج وفي التجارب السياسية . ليس للسودان أن ينحاز إلى هذا الطرف أو ذاك في صراعات المذاهب ، مما حدثنا أعلاه. .
(6)
لعلّ أول مهام الحكومة المدنية القادمة في السودان ، أن تعمد إلى إصلاح علاقات البلاد الخارجية ، مقروءة على ثوابت وعلى خلفيات علاقاته التاريخية مع جواره العربي والأفريقي، وباتكاءٍ صادقٍ على إرثه الدبلوماسي الوسطي ، بعيداً عن التحالفات التي لن تكسبه إلا عداوات أشقاء، أو نفور إخوة حادبين. إنّ على الحكومة المدنية القادمة أن تقرأ كتاب السودان بعمقه التاريخي البعيد والقريب. إن غِـنَى السودان وثراءه، ليسَ في موارده التي حباهُ الله بها فحسب، ولكن أيضاً في كرامته وعزّته. ليس السودان ذلك البلد الذي استخف به من حكمه ثلاثين عاماً فاستحقره من استحقر ، واستهان به من استهان ، فيما هو أرفع شأناً من ذلك وأعزّ هيبةً ومنعة. .
الخرطوم- 14 أغسطس 2019