ما أنا بحزب أمة لكني لا أبرأ منه. بيني والعديد من قياداته في الداخل والخارج حميمية صدوق بدءاً من الشباب وانتهاء بالإمام في مقامه. محبتي لكل منهم تزداد تصاعداً على مقياس البذل في العمل الوطني. حزب الأمة يستأثر بالاهتمام إذ أنه أحد قطبي تاريخنا السياسي إن لم يكن القطب الأطول باعاً.
بكل هذه الحمولة أقارب مشهد الحزب الداخلي المثقل بجراحٍ بعضها عميق. مثل غيره يتعرض «الأمة» إلى ضغوط واختراقات خارجية. محور الجراح يتجسد في عناصر بنيوية داخلية ذاتية تجرد الحزب العتيد كثيراً من قيمه الجوهرية المتوارثة عن آباء اشتهروا بالولاء والعطاء وإيثار السلاح على اللقاح وأشد ما يكونون حين يغضبون.
من أعمق جروح «الأمة» اعتوار العلاقة بين القيادة والكادر الوسيط على نحو غالب التذمر على الانضباط، وأحدث انحساراً في فيض المحبة والولاء.
أزمات الحزب المزمنة جعلته أقرب إلى الدمية الروسية «ماتريوشكا»، ينشغل المرء بعدد الدمى الخارج منها أكثر من أحجامها. كأنما لا نهاية لهذا التصدع الداخلي،يبدو أن«الأمة» على موعد مع انشقاق حاد مع دنو اجتماع الهيئة المركزية المرتقب مطلع مايو.
مع اقتراب الاجتماع يتصاعد استقطاب حاد داخل مكونات الحزب مشحون بتضاعيف أزمات مفتوحة وساكنة، تشمل إشكاليات تنظيمية وفكرية بدءاً من شرعية الاجتماع المرتقب، مروراً بكيفية إدارة الحوار داخل مؤسسات الحزب وبينها وبين بعض، وانتهاء من زج الحزب تحت مظلة النظام وفي نص خطابه الرسمي. تلك تضاعيف تجرد الأمة من ثوابته الوطنية.
ما ظل يميز «الأمة» مكانة الإمام فيه سلطة طائفية تستوجب التبجيل والانصياع، ومرجعية سياسية لها القول الفصل. معروف عن الأمام المؤسس أنه كان يستمع ثم يُسمع فيُستمَع إليه. على قدر التجارب المتتابعة تأتي الاستجابة فيفوز الإمام ويكسب من خارج دائرة نفوذه التقليدي.
هذا كان حال الإمام عبدالرحمن مع الخريجين، فجر الحركة الوطنية «استطاع تحويل طاقات أتباع والده إلى طاقات خلاقة»، كما نقل الراحل جعفر بخيت عن الإدارة البريطانية التي وصفت الإمام بأنه «أصبح رجلاً عصرياً مستنيراً».
واحتفظ الرجل بصداقة كوكبة من الكفاءات من خارج قواعده،أمثال: محمد صالح الشنقيطي، محمد علي شوقي، عبدالرحمن علي طه، ومحمد أحمد المحجوب كما يعدد حيدر إبراهيم علي.
الإمام الصديق وسّع كسبه الشخصي السياسي ببناء الجبهة الوطنية المتحدة إبان الحكم العسكري الأول. اصطدام الصديق بنظام عبود بلغ ذروته ليلة المولد الشهيرة في 21 أغسطس 1961. برحيل الصديق انفرط عقد القوى السياسية وغلب التدابر على التقارب، كما برز التصدع داخل بيت المهدي وبيت الأمة على نحو رأسي من القمة إلى القاعدة.
لما صعد الصادق إلى المسرح السياسي اجتذب هو الآخر شرائح من خارج نفوذه التقليدي بفكر عصري حداثي. هذا الكسب اخذ اتجاهاً مغايراً – لا أقول معاكساً – لحركة التاريخ. بدلاً عن النمو أصاب الكسب الجمود ثم التآكل مع التوغل في التاريخ وفي متون أزمات الوطن.
في ظل الأزمات دفع الحزب وقيادته بما فيها الإمام فاتورة باهظة. عديد من المراقبين يحملون الصادق مسؤولية كبرى في خسائر الحزب المتوالية. على عهده شهد الأمة انشقاقات جماعية وانسلاخات فردية. خصوم الإمام يتهمونه بفقدان الثبات المعهود عن الأنصار في المواقف. بعض هؤلاء يتهمونه بفقدان البوصلة. مقربون إلى الإمام يعزون هذا التراجع إلى خسارة الصادق معاونين أكفاء راجحين مرجحين من طراز الراحل عمر نور الدائم والراحلة سارة الفاضل.
عند وفاة نور الدائم كتبت ناعياً مقالاً بعنوان «المهدي يتيماً». في شخصية الراحل عمر قيادي حصيف، سياسي محنك، شيخ عرب أصيل مستشار وفيّ عميق. نور الدائم اتصف بتوقير الإمام في العلن ومكاشفة ناصح أمين في السر. الكوادر القيادية الوسيطة النشطة أدركت حجم خسارة الراحل إذ افتقدت مهارته في التكتيك وعلى إطفاء الخلافات التنظيمية والسياسية داخل الحزب. عن سارة أسألوا رباح.
عمر نور الدائم ليس استثناء. رحيل مبارك زروق أربك الأزهري وأحدث فراغاً وسط الاتحاديين. تصفية أحمد ياسين دفعت حركة حماس إلى نفقها الحالي. اغتيال أبو جهاد هز خيارات عرفات وأحدث صدعاً في حركة منظمة التحرير المقاومة. عمر نور الدائم ليس آخر الرجال المحترمين في الأمة. بعض من هؤلاء آثروا الفرجة والسلامة على الاصطدام بالإمام.
حال الحزب عبر عنه القيادي صديق بولاد في مقال معنون «اسمعونا مرة»،إذ قال «تعصف به الانقسامات والخلافات وتضارب الاختصاصات وصلاحيات الأجهزة». لذلك حذر بولاد من مغبة عقد اجتماع الهيئة المركزية،إذ لم ير من منفاه الجليدي في القطب الشمالي على نسق إحساس الشاعر الأموي نصر بن سيار «وميض نار» بل «لهباً يشتعل تحت السطح له كل مقومات الانفجار الداوي».
بينما يستهدف الإمام من الاجتماع المرتقب تفكيك أمانة الدكتور إبراهيم الأمين، فإن الاجتماع يهدد بما ينطوي عليه من تضاعيف أزمات تفجر كل المسكوت عنه والمكبوت داخل الحزب. ثمة غضب عارم تجاه تقارب الإمام والنظام في أجواء ضبابية وإسباغ مسحة عسكرية وعائلية على واجهة الحزب. غافل من يتوهم عدم إدراك الإمام كل ذلك. لهذا ربما يبرر البعض فقدان الصادق مؤخراً بعضاً من رحابة صدر اتسم بها، وشيئاً من وقار آسر يحرص عليه، وقدراً من الشفافية ظلت تطبع أداءه.
إبراهيم الأمين لا يستحق ما يواجه من استهداف. فهو سياسي ينعم بالقبول فرغم أنه مكبل في الداخل ظل قادراً على المناورة في الخارج على نحو ينتزع التقدير ويزيد من كسب الحزب. دكتور الأمين ظل في مهمته ملتزماً بقرار الهيئة المركزية عند انتخابه بالعمل على جمع الشمل داخل الحزب والبذل من أجل إسقاط النظام. كثير من هؤلاء وأولئك على قناعة بأن خطيئة الرجل تكمن في اصطدامه بحزام الإمام العائلي هذا مفصل حديث الإمام عن «امانة توفيقية». حين ينجح الإمام في تفكيك أمانة الأمين يحق للطبيب استعارة لسان المحجوب يوم قال: «نشهد أزمة في ديمقراطيتنا وأزمة أخلاقية وأزمة في العلاقات الإنسانية».
في هذه الأجواء أستعيد مقولة أحد عقلاء النظام من خصوم الإمام، إذ قال لي: «الغريب في الصادق أنه أفضل ما يكون ديمقراطية في المشهد العام وأكثر ما يكون ديكتاتورية داخل حزبه».
للإمام رصيد من المهارة والقدرة على المناورة، ما يؤمن الخروج من اجتماع الهيئة المركزية بأقل الخسائر. الاحتمالات تظل قائمة بانقسام يقلب معادلة الأغلبية والأقلية. ماذا لو اتجه الخارجون الجدد نحو إعادة اصطفاف السابقين تحت جناح موحد؟ نتائج الاجتماع المرتقب تحدد بوصلات عديدة للحزب وقياداته وكوادره.