لا تخلو ثقافة من ثقافات العالم من خرافة عودة أرواح أو أشباح الموتى إلى هذا العالم بعد الموت. وتسمى هذه الخرافة في اللهجة السودانية العربية (البَعّاتي) وهي عندي من البعث أي الذي ينبعث من الموت وقد جاءت على صيغة المبالغة "بعاثي" على وزن "همباتي" ونحن نبدل الثاء تاءً مثل قولنا: اتنين وتلاتة وتمانية، وتور وتوب وتوم في ثوم إلخ. وقياسا على ذلك لفظت بعاثي بعاتي. وتسمى هذه الخرافة في الانجليزية ghost و specter. والمصطلح العام لظاهرة الارواح والاشباح والعفاريت والسحرة (السحاحير) وكل ما له علاقة بخوارق العادات واللامعقول هو superstition وكان العرب يعتقدون قديما أن طائرا يخرج من رأس القتيل يسمونه "الهامة" وهي البومة، ويظل يصيح فوق بيت القتيل: "اسقوني، اسقوني"، حتى يؤخذ بثأر القتيل. وهي الهامة المذكورة في الحديث: "لا عدوى ولا طِيرة ولا هامة ولا صفر". هذا، ويوجد، في كل أقاليم السودان، اعتقاد ان سلالة بعينها تعرف بـ"تَرَب البِنيّة" (تصغير بنت)، هم من يقومون "بعاعيت" بعد الموت (ولكن من هي هذه البنية، الله أعلم). وأما تَرب بالفتح في لساننا: ذرية أو سلالة، يقولون: تَرب فلان أو ترب عيال فلان أي ذريتهم ونسلهم. وتلفظ في المعاجم العربية بالكسر "تِرْب" من نفس المعنى، وجمعها أتراب: أنداد و لِدْات. ـِترب: خِدن. وتِرب: مَن وَلِد معك". (انظر: القاموس المحيط والصِّحاح ومقاييس اللغة). ونحن هنا لا نريد الخوض في علمية او لا علمية الاعتقاد في هذه الظاهرة ولكنّا نطمح فقط في معالجتها من زاويتين: زواية قانونية، وأخرى أدبية فنية. مثلا كيف يتعامل القانون مع من ضرب او قتل إنسانا ظانا انه شبح أو بعاتي فاتضح لاحقا أنه بني آدم لا يزال حي يرزق؟ ولما كان الاعتقاد في عودة اوراح واشباح الموتي مسالة مثيرة للخيال الأدبي والفني، ننظر كيف وظف الأدباء هذا الاعتقاد او الخرافة (الفانتازيا) في فن القصة.
خرافة البعاتي في القانون: شهدت قاعات المحاكم السودانية عدة قضايا متعلقة بالبعاتي. وكلها تدور حول جرائم قتل عن طريق الخطأ حيث يعتدي المتهم على شبح ما ظنا منه أنه بعاتي فيتضح فيما بعد أنه بني آدم من لحم ودم. ومن أشهر هذه القضايا قضية تدَّرس في كليات القانون بوصفها نموذجا لتطبيق المبدأ القانوني: الخطأ في الوقائع mistake of fact وهي قضية حكومة السودان ضد عبد الله مختار نور المنشورة باللغة الانجليزية بمجلة الأحكام القضائية السودانية لسنة 1959 S.L.J.R. 1959, p.1)) فقد كانت الأحكام القضائية تكتب باللغة الانجليزية حتى سنة 1970. الوقائع: المتهم شاب في العشرينات من عمره، يقيم بحلة اللعيت، ريفي أم كدادة بمنطقة شمال شرق دارفور. والقتيلة المجنى عليها تعيش في قرية أخرى من نفس المنطقة ولا تربطها بالمتهم أي علاقة قرابة أو معرفة سابقة على الحادث. وكان المتهم قد سمع من أهالي القرية ومن والدته شخصيا عن وجود بعاتي في المنطقة وأن هذا البعاتي قد دخل في عراك مع شاهد الاتهام الثاني. وفي ليلة الحادث 26 ابريل 1956 الموافق ليلة الرابع عشر من شهر رمضان كان المتهم قد خرج من منزله وقت السحور راكبا حماره باحثا عن بقرة مفقودة له. وفي طريق عودته الى القرية شاهد شبحا لابسا قميصا اسود ويحمل عصا طويلة يمضي ناحيته. تحدث المتهم مع الشبح الا أنه لم يجب، فانتابه الفزع واعتقد اعتقادا جازما انه بعاتي، فانهال عليه بالضرب بعصاته حتى وقع على الأرض مغشيا عليه بلا حراك. ثم ذهب ليبث الخبر إلى أهل القرية، خبر قتله البعاتي. فذهب أهل القرية معه إلى مكان الحادث فذا بهم يكتشفوا أن المجنى عليها في الحقيقة امرأة طاعنة في السن ومعروفة لديهم بالاسم وقد وجدوها ميتة. الحكم: فُتِح بلاغ جنائي تحت مادة القتل العمد ضد المتهم، وانعقدت محكمة كبرى لمحاكمته بأم كدادة، برئاسة القاضي، المتميز، حسن عبد الرحيم. وفيما يلي ترجمة القرار الذي كتبه القاضي باللغة الانجليزية: "أخذت المحكمة بأقوال المتهم بأنه قد أخطا حين اعتقد أن المجني عليها القتيلة هي البعاتي نفسه الذي سمع به عند أهل القرية. وقد عُزز زعم المتهم باقوال شهود الادعاء الثالث والسادس. كما أن شاهد الادعاء الثاني أكد أنه شاهد بعاتي بنفسه وتحدث عن مشاهدته تلك لرئيس المحكمة الشعبية (شاهد الاتهام الاول) الذي أكد هو الآخر، اعتقاد أهل المنطقة في وجود بعاعيت وانه هو نفسه شاهد نيران (عفاريت) متحركة في الوادي. كذلك ثبت عدم وجود علاقة من أي نوع بين المتهم والمجني عليها. ولا شك أن الثابت ان المتهم استعمل قوة جنائية مفرطة، ولكن ذلك يعود إلى ان المتهم أصابه الفزع وتصور انه قابل بالقعل البعاتي الذي سمع عنه في المنطقة. وقد ثبت بالبينة ان المجنى عليها كانت تلبس ثوبا اسود وعصا طويلة وكانت في طريقها إلى منزلها بعد منتصف الليل". "بعد أخذنا لكل هذه الوقائع الثابتة بالبينة نصل الى قناعة تامة بان المتهم كانت لديه اسباب معقولة تجعله يعتقد ان من كان يتعامل معه هو بعاتي. بدليل انه بعد الحادث ذهب وبكل عفوية ليعلن خبر انتصاره لأهل القرية. ومن هذا التصرف نستنبط ان المتهم قد تصرف بحسن وانه كان يعتقد بكل صدق انه قتل بعاتيا وبدون ان يكن له أي قصد بقتل إنسان. لقد وجد المتهم نفسه امام الخطر وتصرف بهذه الطريقة بما تمليه عليه غريزة البقاء. إنه كان يتصرف بموجب اعتقاده انه يتعارك مع بعاتي.... لكل ما تقدم نخلص الى ان فعل المتهم لا يشكل جريمة لذا نأمر باطلاق صراحه فورا بموجب أحكام المادة 44 من القانون العقوبات السوداني لسنة 1925". انتهي. (ملحوظة: استشهدت المحكمة في خاتمة قرارها بعدد من القضايا الأجنبية المماثلة ورجعت الى بعض المراجع الإنجليزية والهندية في القانون الجنائي، لتعزيز حكمها بالبراءة). ثم رفعت اوراق القضية لتأييد الحكم، فأيّد محمد احمد ابو رنات، رئيس القضاء آنذاك، الحكم بالبراءة. ولو طرحت هذه القضية بحذافيرها اليوم على المحاكم السودانية بموجب القانوني الجنائي لسنة 1991، فانه على الأرجح سوف يحكم على المتهم بالدية بموجب المادة 132 (بدون عقوبة تعزيرية إضافبة). وذلك لأن القتل الخطأ في الفقه الاسلامي لا يبريء ذمة الجاني ولكن يلزمه دفع الدية.
البعاتي في الأدب: لا يخلو أدب أمة من الأمم من استلهام حكاوي وأحاجي عودة أشباح الموتى وتوظيفها في فن القصص والرواية والسينما والمسرح. وسنقف فيما يلي، على بعض النماذج الكلاسيكية والحديثة المشهورة. يبدأ وليم شكسبير مسرحيته الشهيرة (هاملت) بظهور شبح ملك الدنمارك المقـتول مطالبا ابنه هاملت بالثار له. وكان أخ الملك، قد تأمر مع والدة هاملت لقتل الملك بأن صب السم في أذنه ثم أعتلى العرش وتزوج بالملكة (أم هاملت). ويتجدد ظهور الشبح أكثر من مرة مطالبا هاملت بضرورة الانتقام له من أخيه الملك الغاصب. لكن هاملت يفشل في الأخذ بالثار من عمه الملك رغم تمكنه من الاختلاء به أكثر من مرة وذلك بسبب تردده الوسواسي. وفي قصة (العباءة) للكاتب الروسي الشهير، نيكولاى قوقل، يعود شبح بطل القصة، أكاكي أكاكيفتش، ذلك الموظف المسحوق، من الموت، ليطارد الناس في الشوارع ويختطف منهم عباءتهم ومعاطفهم، انتقاما لموته من البرد بسبب سرقة معطفه الجديد في اليوم الذي اشتراه فيه والذي كلفه مبلغا كبيرا ظل يستقطعه شهورا من راتبه الضئيل. ونقولاي قوقل (1809-1852) هو رائد فن االواقعية النقدية وأدب اللامعقول والواقعية السحرية على السواء، حتى قال عنه ديستوفيسكي: "كلنا خرجنا من عباءة قوقل". لاحظ التورية في هذه العبارة: فهي تشير إلى ان كتّاب القصة كلهم تلاميذ قوقل، كما تشير في نفس الوقت إلى ان كل القصص خرجت من قصة (العباءة) أو المعطف والتي تترجم إلى الانجليزية overcoat وcloak . وإذا كانت أوربا لم تعرف أدب العبث واللامعقول إلا في فترة ما بين الحربين، فإن الكتاب الروس قد عرفوا هذا النمط من الكتابة على يد قوقل، فقد تأثر بقصته (الأنف) كل من كافكا وذلك في روايته (المسخ) حيث يستيقظ بطل القصة ويجد نفسه وقد تحول إلى خنفساء كبيرة. كما تأثر بها يوجين يونسكو في مسرحية (الخرتيت أو وحيد القرن) حيث يظهر فجاة خرتيت يطارد الناس في الشوارع وتكتشف الزوجة ان الخرتيت هو زوجها ثم يلبث أن يتحول كل إنسان إلى وحيد قرن. كذلك تأثر القاص السوداني الكبير بشرى الفاضل بقوقل حيث استلهم قصته (حملة عبد القيوم) من قصة قوقل (العباءة) كما استلهم قصة (الغازات) من قصة قوقل (الأنف). ففي قصة (حملة عبد القيوم الانتقامية) لبشرى الفاضل، نجد أن عبد القيوم شاب قروي من أسرة فقيرة، كان مغرماً منذ صباه الباكر بالحديد وكان يحلم دائماً بأن يصير سائق عربة، فيقطع دراسته مبكراً ويعمل مساعد سائق بأحد اللواري السفرية، حتى تعلم القيادة وعمل سائقاً بالخرطوم إلا أن القدر كان لعبد القيوم بالمرصاد، فتصدمه عربة فارهة في قلب الخرطوم وتؤدي إلى وفاته بينما كان يسير راجلاً " وهو الراكب شبابه كله". لكن عبد القيوم يقوم من موته ويعود لينتقم من الذين حرموه الاستمتاع بالحياة فيتوجه إلى أقرب بلدوزر ليمتطيه ويتوجه به إلى قلب الخرطوم حيث يبدأ في دهس الناس والعربات الفارهة في الشـواع ويظل يدهس ويدعس ساحبة نهاره، فلا قوة توقفه، كما المسيح الدجـال . "كان هنالك بلدوزر فرغ به سائقه من العمل وقفل به راجعاً إلى حظيرة الشركة، ورجع السائق إلى الوراء فاقترب من المقابر فهتك قبراً، نزل السائق خائفاً وترك الماكينة دائرة واختفى وكانت بالقبر المهتوك حركة". " أطلت جمجمة من الكوة المتاحة، تلفتت يمنة ويسرة وأعادت رأسها إلى القبر في هدوء.. مثل شوكة سمك البلطي انسلت الجمجمة من القبر متبوعة بالهيكل العظمي المتبقي من كائن ما اسمه عبد القيوم. ومشى تراخ طاخ نحو البلدوزر". "ومن الغضب كان تل عبد القيوم يزعتر حتى امتطى البلدوزر الضخم.. وتحركت الآلة العجيبة من أول إشارة.. كانت الحركة ذلك الصباح مكدسة بالعربات.. وطفق عبد القيوم يدهس في البطاطس البشرية داخل العربات المكتظـة. بعضهم تردد، من كان في آخر الصف في أن يتركوا مارسيدساتهم هكذا، فكان موتهم مسببا بالتردد.. دهس، دهس.. يوم كامل.. هذا البلدوزر العجيب لا توقفه المتاريس ولا طلقات البنادق ولا الدبابات ولا ينضب بتروله". "جليلة مدت رأسها فوق الحائط الذي يفصل بينها وبين الشارع، فرمت طفلها وتخلت عن أمومتها فجأة وصرخت : بسم الله، الليلة، يا شيخي تلحقنا وتنجدنا". "مولانا حبيب الله من فوق مئذنة الجامع في الظهر، أبصر المشهد، فصرخ من خلال الميكرفون: أشهد أن لا إله إلا الله .. يا مسلمين توبوا إلى الله، المسيح الدجال ظهر". "أولاد الكلب تقتلوني؟ هو أنا شفت حاجة في الدنيا؟ انتظروا !! وقرر عبد القيوم أن يرتاح قليلاً فزاد من سرعة مركبته فانطلقت بسرعة فلكية واتجه شرقاً وانعطف بعد أن كنس كل البيوت والعمارات التي قابلته وأطفأ غضبه في النيل.. كان النيل رحباً.. وكان يقبل الجميع ويطيب خاطرهم".