خواطر بشأن العلمانية والدولة المدنية (٣)

 


 

طلعت الطيب
11 September, 2020

 

 

talaat1706@gmail.com

 

في الحلقه السابقه تناولت مثال من التجربه الكنديه تمثل في منع النساء المسلمات من ارتداء الطرحه او الحجاب في محافظه كويبيك باسم العلمانيه، منبها الي حقيقه ان الخطا ليس في تطبيق العلمنه بل في فكره العلمانيه نفسها كثقافه تميل الي تجفيف منابع التدين والممارسات المرتبطة به بقدر الإمكان . اواصل ما انقطع من حديث في الحلقه الأولي والذي كان يدور حول الأفكار الوارده في كتاب شارلز تيلور " عصر علماني".
لاحظ جون باتريك في تقديمه لهذا الكتاب المهم، أن كلمه التحرر من الوهم او التحرر من السحر disenchantment المنسوبه الي المفكر الألماني ماكس فيبر Max Weber قد تكررت كثيرا في الكتاب . وكان فيبر يري أن عصر التنوير الذي تبني السبب reason بدلا عن التقليد tradition الذي كان سائدا في العصور الوسطي، هو المسؤول عن صياغه عقلانيه الحداثه التي تسود اليوم لان الذكاء البشري لم يتم استخدامه من أجل الوصول الي قاع الظواهر والاشياء بغرض معرفتها، ولكنه استخدم لتنظيم الحياه من اعلي الي أسفل عبر اشكال وتراتبيه وتخصص وتنظيم وضبط. هذا التحرر من السحر والخيال disenchantment قد ترك لنا عالم ممل وروتين تسيره القواعد واللوائح اكثر مما تقوده الأفكار اوالخيال الخصب وهي عمليه تمخضت عن بيروقراطية يديرها اختصاصيون متبلدي الاحساس بلا روح، وطالبي لذه دون قلب. وهو وضع وصفه فيبر ب "الاقفاص الحديدية للعالم الحديث".
ولأن آفاق ماكس فيبر كئيبه فقد ازاحها تيلور جانبا لمصلحة رؤيه تستطيع أن تبث روح الامل في سوسيولوجيا اميلي دوركايم. بعكس فيبر، فإن دوركايم استطاع أن يري بدلا عن مجتمع بارد خالي من المشاعر الفرديه ، ممارسات وطقوس مقدسه مغروسه عميقا ، وان يري للإيمان جذور ممتده في الادوار والقواعد للانظمه الاجتماعيه الحديثه تستطيع أن تقاوم ما اسماه بقشعريره الاحساس بالاغتراب.
ايا كان ما يعتقده المثقف، فإن قيمه الدين تبقي في ايجاد إطار للمعاني، وواقع لتوحيد الرموز والاحساس بالانتماء .
يستغرب بعض المراقبين من تزايد المشاعر الدينيه مؤخرا وقد لاحظ تيلور ان هذه الظاهره هي بعض ما يحرك ما اسماه بالأغلبية الاخلاقيه التي استطاعت تحفيز اليمين المسيحي في الولايات المتحده، وان تجعل من ذلك مصدر إلهام لاعاده تأسيس المفاهيم الدوركايميه الجديده في تعريف الامه. ولذلك يصبح مره اخري مفهوم أن تكون امريكيا له ارتباط بالإيمان الديني، اي أن تكون جزء من امه واحده تحت عنايه رب واحد.
بعكس شارلز تيلور ، فقد اعتقد الآباء المؤسسون للولايات المتحده الامريكيه أنهم يؤسسون جمهوريه فتيه تتكون من فصائل متصارعه وليس من امه واحده. فالدين في رأيهم يزيد من انقسام وتشظي البلاد بدلا عن توحيدها تحت اله واحد. ذلك الإله الذي أطل أكثر من مره في اعلان الاستقلال ولكنه غاب تماما عن الدستور. حتي أن جيفرسون كتب عن رجال الدين الذين أظهروا خوفا من تقدم العلوم، تماما مثلما تخاف الساحرات حلول الفجر واقتراب ضوء النهار.

" عصر علماني " عمل يتسم باتساع مذهل واطلاع واسع كان غرض شارلز تيلور الأساسي هو إنقاذ الدين من التآكل الذي أصابه بفعل تأثيرات العلمانيه والحداثه. ولكنه كذلك أراد أن يعيد العالم الانجلو أمريكي الاعتبار الي سيرته الليبراليه. بينما يري فلاسفه الفيدرالية أن الحكومه يتلخص دورها في حمايه الحياه والحريه والارض، فان جيمس ماديسون كتب يقول ان القانون السامي للطبيعه وطبيعه الله نفسها تقرر أن " سلامه المجتمع وسعادته تكمن في تحقيق الأهداف التي تسعي الي تحقيقها المؤسسات السياسيه والتي من أجلها فقط يجب التضحيه بكل تلك المؤسسات".
يعتقد تيلور ان الفكر الليبرالي في الغرب الذي بدأ بهوبز ولوك وهيوم وادم سميث ظل يسير في الاتجاه الخطأ. ولدي بعض الكاثوليك، فان التقاليد الفكريه عند ارسطو والقديس توماس الاكويني هي الجديره بالاعتبار حيث معاني التاريخ لا تكون في الحفاظ علي الحياه، بل في خلاص الروح، وهي ليس الحق في العمل والتملك ولكن في الواجب المتعلق بالالتزام بنظام اخلاقي، وليس في جشع السوق ولكن في نعمه المشاعر الدينيه .
لمقاومه انانيه الافراد وانتشار الليبراليه الفرديه ، فإن تيلور كجمهوري كلاسيكي نظر الي مصادر تاريخيه مشكوك في صحتها يكون فيها المواطن مجرد تابع للمصالح الخاصه بدلا عن الفضيله العامه، بل يعتمد نظريه الفضاء العام حيث يفترض أن يلتقي المواطنين لمناقشه القضايا اليوميه وتحويل السياسه الي فعل تواصلي خلاق من اجل خدمه المصلحه العامه.
كذلك اشار تيلور الي ضروره مراجعه أدب العصر الرومانسي لتوضيح اهميه الروح التي تسكن العقل والخيال مهما كان حجم القوي الماديه للعلمنه. ويقول ان اللغه الشعريه تستطيع أن تهتدي بنا الي طريق العوده لاب الأنبياء ابراهيم عليه السلام. أن ما يهدد الدين ليس العلمنه وحدها ولكن المجتمع نفسه, بسبب القلق والأوضاع وعقليه القطيع وندره الاعتماد علي الذات. ومع ذلك ينظر تيلور الي المجتمع في انتظار افتداء ديني ، واحد احتمالات ذلك تكمن في استرجاع الإحساس الذي يربط المتع الذاتيه والرغبات مع حب الله الخالق الموجود في أعماق النص الديني. مهما كانت رغباتنا، فهي من عند الله ، ولذلك نحن في حاله انجذاب دائم الي الله. وصولنا الي أراده الله من خلال تصميمه مساله حاسمه في رأي تيلور لنظام أخلاقي حديث ومفهوم دوركايمي جديد فيما يخص وجود الله بين ظهرانينا. يفترض تيلور اننا يمكن أن نجد طريق العوده الي الله باعاده السحر re-enchanting الي المجتمع واسرار الروح حتي المشاعر الحسيه منها. ولأننا لا نستطيع العوده الي الله عن طريق الفلسفه، فإن تيلور يري التقوي في "تصميم" العالم الاجتماعي كما نعيشه بأخلاقه وأبعاده المثيره. ولكن التساؤل المهم هو هل يمكن أن نثق في التاريخ فيما يتعلق بالإيمان الذي قد نجده في العالم الاجتماعي الذي نعيشه؟.
للمثابره في الموقف الذي يقول ان ذلك ممكن ، علينا أن نتعامل مع مفكرين منذ الإغريقي ثوسيديدس الذي كتب ملاحظاته حول الحرب البيلوبونيسيه بين اسبارطه واثينا خلال القرن الخامس قبل الميلاد وحتي تلستوي وكل من يري أن التصميم في التاريخ يقوم علي سياده السبب بواسطه القوه والحرية بالقضاء والقدر.

 

آراء