خواطر حول الحرب !

 


 

 

1

بحكم موقع منزل الأسرة الذى لا يبعد كثيرا عن مقر أذاعة و تلفزيون السودان فقد عاصرت كل الأنقلابات – و هى كُثر - و التى كانت تستهدف استلام السلطة و إذاعة البيان الأول، إبتداءا من الجنرال عبود و الى آخر القائمة الطويلة، ما عدا انقلاب 19 يوليو و كنت وقتها خارج الوطن و انقلاب حسن حسين و الذى كنت وقتها معتقلا فى سجن كوبر.
جالت بخاطرى تلك الذكريات و صرت أقارن بين سلوك جنود تلك الأنقلابات – برغم ان كل الانقلابات تتساوى فى سوءآتها - و سلوك الجنود فى الحرب الدائرة اليوم بين جيش البرهان و تنظيم الأخوان المسلمين " الكيزان " من جانب ، و الجنجويد من الجانب الآخر و انعكاس حدة المصالح و التغيير السلبى الذى تركه حكم الأخوان على سلوك المتصارعين و تصرفاتهم العامة.
ابتداءا أريد أن أقول أن هنالك كثير من الصفات تجمع بين الفريقين و توحد بينهما و أن خلافهما الحالى الذى تجسده الحرب الدائرة اليوم، يتمحور فقط حول السلطة و قسمة الموارد، كما ان القاسم المشترك بينهما يتمثل فى الآتى :
1- الفكر الإنقلابي : الطرفان لا يؤمنان بالديمقراطية و يتوسلان الى السلطة عن طريق السلاح، و قد نفذا من قبل انقلابهم فى 25 اكتوبر 2021 قبل أن يدب الخلاف بينهما و الذى كانت نتيجته الحرب، الذى يعيش الشعب السودانى ويلاتها و مآسيها اليوم.الديمقراطية فى عرفهم التشدق بالكلمة فقط ، لإقناع البسطاء و المجتمع الدولى حتى يستمر و يستدام حكمهم.
2- العنصرية :كلا الطرفين سجلهما ملطخ و عامر بالسلوك العنصرى، الذى وصل حد التصفية و الابادة ( الجونسايد ) للعرق الذى يعتبرونه أدنى درجة منهم. فقد قام الجنجويد ( الدعم السريع ) بقتل ما يقرب من نصف مليون مواطن فى دارفور على أساس عنصرى تجاه من تطلق عليهم " الزرقة " و هى القبائل الأفريقية، و هم يصفون انفسهم بالإعراب ليؤكدوا جدارتهم بالتفوق العرقى على غِرار و نهج " الجنس الآرى " عند نازيى هتلر !
استخدم الجنجويد فى سلوكهم المخزى ذلك، سلاح الاغتصاب بغرض تغير العرق و طمس معالمه، التعذيب ، حرق القرى و أغتيال النساء و الأطفال مما حدا بالمحكمة الجنائية الدولية بإقامة دعاوى فى مواجهة قادتهم المطلوبين حاليا امامها.
أما الأخوان المسلمين فقد مارس جيشهم القتل الممنهج فى الجنوب " سابقا "، جبال النوبة ، النيل الأزرق و كانت تلك الحروب تمارس على أسس تمييزية، عرقية و دينية، هذا غير الأعدمات الجزافية التى طالت معارضيها.....أعدام 28 ضابطا فى ظرف ساعات فى محاكم صورية ....قتل مئات الطلاب فى معسكر العيلفون كما تعاون البرهان مع الجنجويد عندما عمل فى دارفور و أطلق على نفسه اسم ( رب الفور )! ....الخ
أما فى زمن حكمهم فقد كان التعيين فى كل المؤسسات على الأساس العرقى والتوجه الأيدولجى الدينى و انحصر فى ثلاث قبائل شمالية فقط !!
3- الكذب، النفاق و أستغلال الدين الذى يتاجرون به ....." لصوص " و يتعاملون مع ممتلكات الدولة و مواردها كأنها ملك لهم...... منهم من أمتلك مئات القطع السكنية عن طريق استغلال النفوذ و منهم من أمتلك جبلا من الذهب !!!!!...كما ذهبت أموال النفط الى جيوبهم من قبل.
4- معاداة الثقافة بمفهومها العام و توجهات الحداثة : الاخوان المسلمين هم ضد الحداثة و سيادة الديمقراطية و التطور بكل اشكاله يعملون الى ارجاع المجتمع الى العصر السادس الهجري و لا يهمهم فى ذلك اذا تم اغتيالهم " لتلت " الشعب أو حتى نصفه، فهم على الدوام لديهم الفتوى لتبرير سلوكهم الدموى و الرغبوى.
أما الجنجويد و بعقلية البدو المتنقل الذى هو فى صراع دائم مع كل من حوله، فهو عاشق للتقليد رافض للحداثة بكل اشكالها فولائه الدائم مبنى على الارتباط بمؤسسة القبيلة الرافضه لكل توجه يسلب إرادتها و ادارتها و سلطتها المتوارثة.
يتضح من السرد أعلاه ان نقطة النزاع الوحيدة المختلف عليها و التى أشعلت نيران هذه الحرب الكارثية و الدموية، هى الصراع حول السلطة و قسمة موارد الدولة التى يتعاملون معها كأنها ملك خاص لهم و ليست ملكُ للشعب السودانى!!

2
- فى الصراعات السابقة فى السودان حول السلطة ( الانقلابات )، كانت القوى حاملة السلاح تنأى عن المساس بالمواطنين أو تعريض حياتهم للخطر، ولم نسمع بمحاولة انقلابية - تمت من قبل - بأنها أستهدفت المواطنين العزل أو تم استخدامهم كدروع بشرية !!..... حتى فى محاولة محمد نور سعد التى تعرف فى مجال التوثيق السياسى باسم " المرتزقة " باعتبار أن جنودها لم يكونوا جنود نظاميين، لم يلحق هؤلاء الجنود الأذى بأى مواطن أو مست بمصالحه كما تفعل القوات المسلحة اليوم بقصف العاصمة بالطيران و تدمير المنازل والمنشآت الحيوية و التاريخية و قتل المئات من المواطنين !
أو كما تفعل قوات الجنجويد عندما تقوم باحتلال المنازل و طرد ساكنيها مع سرقة محتوياتها، أو الأستيلاء بالقوة على عربات المواطنين، اغتصاب النساء و ترويع المواطنين العزل.
أو عندما تقوم القوى المتحاربة باستخدام سلاح الطيران، دانات المدافع و الرشاشات وسط العاصمة المثلثة ألخرطوم ، امدرمان و بحرى ذلك الفعل يعنى بالضرورة تدميرها، و عندما نشاهد الخسائر بين المواطنين القتلى الذى شارف الآلف و الدمار لكل منجزات الشعب السودانى يصاب الشخص بالحسرة..... يكفينا ايراد جزء يسير من الخراب و التدمير الذى تم للعاصمة المثلثة لتصوير و عكس حجم المآساة و الضرر....
جامعة أمدرمان الأهلية، جامعة الأحفاد ، مدارس النصر أمدرمان ، جامعة شرق النيل، المجمع الغذائى بحري، كل البنوك فى العاصمة المثلثة سرقت و نهبت، تدمير و سرق 42 صيدلية، 65 مستشفى فى العاصمة أصبحت خارج الخدمة بسبب القصف الجوى أو احتلالها من قبل الجنجويد بما فيها مستشفيات حيوية و أساسية لحياة المواطن مثل مستشفى الدايات ، مستشفى غسيل الكلى ، مستشفى جرعات السرطان ، المعمل القومى للتحاليل ، مخازن الأمدادات الطبية، سك العملة، المتحف الطبيعى و موت حيونات التجارب ، متحف التاريخ القومى، سوق أمدرمان مقصد السياح، دخول و نهب بيت عبدالله خليل رئيس الوزراء السابق ، اجتياح منزل الزعيم أسماعيل الأزهرى، الأستيلاء على مكتبة جمال محمد أحمد و تخريب مكتبة محمد عمر بشير.....الخ
- يلاحظ القارئ ان المستهدف الأول من قبل الطرفين فى هذه الخراب، هو تدمير البُنى التحتية التى بناها الشعب عبر سنوات طوال و بعرق جبينه، أما المستهدف الثانى فهو تدمير مؤسسات نشر الوعى و المعرفة مصطحبه معها مؤسسات التاريخ الوطنى لمسح الذاكرة المعرفية و ذاكرة الأرتباط بالثقافة الوطنية .
العاصمة المثلثة التى تم تدميرها، ليست مقر لساكنيها فقط و لكنها فضاء للتعدد الثقافى تتلاقح فيه ثقافات جميع السودانيين...... هى تمثل التاريخ المشترك، الثقافة المشتركة و الهموم المشتركة و المتلاقحة مع جميع الثقافات، هى مبتدأ الحداثة و المستقبل....هى المشروع المستمر و المتطور لبناء أمة تجمع ما بين قوس قزح القوميات السودانية .
- يقول الخبراء العسكريون ان سلوك الجنود أو النشاط القتالى ابان الحروب تحدده و تصبط توجهه العقيدة العسكرية للقوى المتحاربة، و ذلك بالطبع ينطبق على القوى المتحاربة اليوم فى السودان.
" عقيدة " القوات المسلحة قد غيرت و حورت بعد سطو الأخوان المسلمين على السلطة فى السودان، قاموا بتغير العقيدة القديمة التى تكونت عبر سنوات، و انبثقت من التجارب لحروب خاض الجنود أحداثها فهم قد شاركوا فى الحربين العُظمتين. بالاضافة الى تغير العقيدة فقد أصاب الترهل بنيتها الأساسية و أدى الى اختلال الانضباط داخلها نتيجة للتميز، كما أضحت القوات المسلحة حكرا لابناء مجموعات عرقية محددة بعينها.
مما " زاد الطين بله " كما يقول السودانيين، هو دخول المؤسسة العسكرية مجال الأستثمار المالى الذى أدى لفسادها فى كل المجالات مما أدى عن تخليها عن تأهيل الجندى و تدريبه، فأضحت تلك القوات ما نشاهده الآن أمامنا من تدهور فى السلوك و ضعف فى الأداء !!
أما الجنجويد فهى مجموعة ميليشا عرقية تنتمى الى قبيلة واحدة، لا عقيدة و لا مبادئ تحكم سلوكها و يصطحب تاريخها القتالى تاريخ مخزى و انتهاكات بشعة لحقوق الأنسان.
يتصدر ذلك التاريخ البشع المجازر التى قامت بها قوات الجنجويد فى دارفور،ارتزاق جنودها فى اليمن و ممارسة القتال نيابة عن دولة العربية السعودية و بمباركة سلطة من يدعون الأسلام حكما فى السودان، اضافة مشاركتها لقوات خليفة حفتر القتال ضد الحكومة الليبية المعترف بها دوليا.
ان المحاولات الجارية من قبل اعلام الجنجويد المأجور ل " تبيض " صورتها امام الشعب على غِرار ما تفعله " المافيا " بالأموال المستجلبة من مصادر مخالفة للقانون، فذلك شئ مستحيل. لقد وقفت هذه القوات و على مدى تاريخها فى الجانب الخطأ المضاد للشعوب، فهى لذلك تفتقد للسند الأخلاقى ، القيمى و الأنسانى لاستمرار وجودها كقوة مسلحة أو قوة سياسية.

3

مهما كان الغرض من اثارة هذه الحرب فالشعب السودانى غير معنى بها ، كما أن المحاولات المتتالية و المستمرة من الطرفين لتسويق أنفسهم أمامه و أن - موقف أيهما من الحرب هو السليم - لن تجدى فتيلا. فقد أبانت تصرفاتهم المتعارضعة مع أى سلوك انسانى فى هذه الحرب خططهم المستقبلية تجاه الوطن و المتعارضه مع الديمقراطية و الدولة المدنية.
فى نهاية هذا المقال لا بد أن تقف هذه الحرب فورا، كما يجب التأكيد بعدم أحقية و أهلية أى من الفريقين لحكم السودان. يجب عودة الجيش الى ثكناته مع العمل على " غربلته " و كنس كل العناصر المتحالفة مع الاخوان المسلمين و اعادة بنائه و تأهيله من جديد و التأكيد على مهنيته و قوميته، كما يجب من الجانب الآخر حل ميلشيا الجنجويد فورا فهى غير مؤهلة لتكون جزء من جيش السودان الذى يحمى الوطن.....فى تقديرى ذلك هو الطريق الوحيد لتطور السودان و هو طريق شائك و متعرج، يستلزم التضحيات العظام.
أخيرا أغفلت أن أذكر..... أن بناء العاصمة من جديد و ازالت مخلفات الحرب يحتاج الى وقت طويل.....عزم و جهد..... لكن الشعب السودانى قد أكد على الدوام انه قادر عى انجاز المهام الصعبة و المستحيلة ...انه شعب عظيم !

عدنان زاهر
الأول من يونيو 2023

elsadati2008@gmail.com

 

آراء