خواطر شخصية حول حزب “المُندسين”

 


 

 

 

ظللت طول عمري مستقلا لا أنتمي لأي حزب أو تنظيم سياسي، ولم أتعرض أيام الدراسة الثانوية والجامعية (وبعد ذلك) لمحاولات "التجنيد" للإنضمام إلى التنظيمات اليسارية واليمينية، أو للأحزاب التقليدية، أو للتنظيمات العروبية والقومية، أو حتى لتنظيمات "المستقلين" وتنظيمات "الوسط"، رغم وجود عدد كبير من الأصدقاء والزملاء والمعارف والأقارب المنتمين لهذه التنظيمات. كذلك لم أنضم في فترة عملي في وزارة الخارجية للإتحاد الإشتراكي أيام "مايو"، أو إلى المؤتمر الوطني في هذا العهد التعيس، رغم الضغوط والمُغريات المباشرة وغير المباشرة. بيد أن استقلاليتي (وعدم انخراطي في الأحزاب والتنظيمات المختلفة) لم تكن تعني بأي حال من الأحوال أن لا رأي لي في الشأن العام أوالشأن المهني، كما لم تكن تعني فقدان احترامي لخيارات المنتمين لهذه الأحزاب والتنظيمات، مع احتفاظي برأيي الناقد للمرتكزات الفلسفية والفكرية لهذه الأحزاب والتنظيمات، أو لبرامجها وسياساتها، أوأدائها وهي في الحكم أو في المعارضة.

لا يُخامرني مطلقا الشك في أن الغالبية العُظمى من أهل السودان هم من "المستقلين" غير المنتمين للأحزاب والتنظيمات السياسية. وفي البلدان ذات الممارسة الديوقراطية الراسخة (حيث التبادل السلمي للسلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة وشفافة)، يٌحدد المُستقلون عادة نتيجة الانتخابات بانحيازهم لمن يُؤيدون برامجه وأطروحاته. وفي البلدان ذات الديموقراطية الصورية والإنتخابات "المضروبة"، يُحجم المستقلون حتى عن مجرد المشاركة في مثل هذه المسرحيات السياسية المفضوحة. كذلك لا يُخامرني أدنى شك في أن الغالبية العُظمى من أهل السودان لا تؤيد نظام الإنقاذ، بل تُعارضه، لأنها ما رأت منه إلا الإضرار بمصالح البلاد والعباد منذ عام 1989، (وهي أضرار معلومة لا داعي لشرحها هنا).

يُدرك قادة النظام، منذ إنقلابهم في عام 1989 وحنى يوم الناس هذا، أن غالبية أهل السودان تُعارضهم، وهي معارضة انقلبت تدريجيا إلى كراهية عمياء حين تيقن الجميع من طبيعة النظام، ومن لؤمه، وفقدان قادته للحس الوطني والنوازع الإخلاقية والدينية. وفي ضوء علمهم الأكيد برفض جماهير الشعب السوداني لهم، لجأ قادة النظام إلى استراتيجية من عدة شِعَب لحماية النظام، مهما كلّف ذلك، تقوم على تسخير جلّ موارد البلاد وثرواتها لقوات وأدوات القمع والقتل الرسمية وشبه الرسمية، الظاهرة والمُستترة في الظل، وأدوات السيطرة والتحكم (البروباقاندا) وتغبيش الرأي العام، وتقديم صورة كاذبة للوضع في السودان تُقسِّم شعب السودان إلى "فسطاطين": فسطاط "الأغلبية" المؤيدة للنظام (الصحابة والتابعين والمنتفعين والسائرين في الركاب)، وفسطاط "الأفلية" المعارضة (الشيوعيين والبعثيين والعلمانيين والمندسين والمرجفين والخونة والعملاء، وكفّار قريش)، وإسقاط وجود ورأي الأغلبية العُظمى الممسكة بالجمر، التي عِيل صبرها والمكتوية بعسف النظام وفساده وخطل سياساته المُدمرة.

وإلى جانب تسليح القوات النظامية وغير النظامية والمليشيات الحزبية والقبلية، أنشأ النظام جهازا أخطبوطيا للأمن والمخابرات (بميزانيات مفتوحة)، جنّد له مئات الآلاف تم زرعهم في جميع الفئات والطبقات، من سائقي الركشات والأمجادات إلى كبار موظفي الدولة في كافة الوزارات والقوات النظامية، وبين الدبلوماسيين والأكاديميين والإعلاميين والرياضيين و"رجال الأعمال"، في داخل السودان وخارجه، وفي داخل الأحياء والأسواق والمساجد، يحصون أنفاس الجميع، ويقمعون الرأي الحر بكافة الوسائل، ويُفتتون التنظيمات الحزبية والمطلبية، والحركات المسلحة، ويعملون خارج القانون وفوقه، دون مساءلة ولا رقابة، حتى أضحى الجهاز غولا ضخما ابتلع الدولة، وكاد أن يبتلع المجتمع. إلى جانب ذلك، سعى النظام إلى إضعاف دور التعليم والإعلام في تربية الحس الناقد المستقل لدى الشباب، ويسّر الحصول على المخدرات لقتل همّة الشباب وتغييبهم، كما سعى لشراء الذمم والتأييد أو الصمت.

لا عجب إذن أن النظام ارتبك وارتعد لتفجّر المظاهرات واستمرارها بقيادة الشباب، بعد أن حسب أنه دجّنهم وأخرجهم خارج دائرة الفعل والمقاومة والثورة. لجأ أولا لاستخدام القوة المُفرطة والإعتقالات والعنف الوحشي والرصاص الحي لإخماد هذه الفورة (مثلما حدث في مرات سابقة)، ثم عزَف النغمة المعتادة باتهام المخربين والمندسين والعملاء، ثم الشيوعيين والبعثيية والعلمانيين. ثم أخرج من عباءته راية لا إله إلا اللّه وحماية الدين. وحين لم يفلح كل ذلك في تهدئة غضب الجماهير في أصقاع السودان المختلفة، اعترف النظام، على استحياء، بالضائقة الاقتصادية والمعيشية (وكأنها أزمة مؤقتة)، ووعد بإنهاء صفوف الخبز والوقود والصرافات خلال أيام او أسابيع، مُثبتا، مرة أخرى، انفصال قادته وغربتهم عن واقع الشعب السوداني، بظنّهم أن مظاهرات الشباب العفوية خرجت بسبب نقص الخبز وليس نتيجة طبيعية لتراكم ثلاثة عقود من الظلم والفساد والإفساد وغياب الحرية والعدالة، ومن الإذلال و"الحقارة" (وآخرها اتهام المتظاهرين المستقلين الغاضبين بأنهم مخالب قط للعملاء والمخربين والعلمانيين).

الأغلبية التي يسمونها "صامتة" ليست صامتة ("غُبْنَها علّمَها الإفصاح" كما أنشد شاعر الشعب محجوب شريف - والغُبن يصنع المعجزات)، بل هي "مُراقِبَة" وواعية، ولكن حركتها وسكونها يعلمها علّام الغيوب. غير أنني على ثقة أن سكونها لن يدوم لأن الأوضاع غير الطبيعية (كنظام الإنقاذ/الحركة/الجبهة الإسلامية/المؤتمر الوطني/الشعبي) قد تستمر ولكنها قطعا لا تدوم.

aelhassan@gmail.com

 

آراء