تحت عنوان " في ذكري اكتوبر للشاعر الكبير محمد المكي إبراهيم ، رجاء لا تهدم كل ما بنيته " ، كتب المثني إبراهيم بحر مقالة احسست بأنه كتبها بصدق ، وغيرة وطنية ، وبرؤية واضحة حسب قناعته يقول فيها " بما معناها بأن الذين اتوا باسم الانقاذ قد احدثوا في البلاد الدمار ، شردوا الكفاءات ، واذلوا المبدعين ، وبأن المشروع الحضاري المزعوم قد اثبت فشله ، ودعا الشاعر المكي للإقتداء بالذين رفضوا مهادنة النظام من امثال المبدعين : مصطفي سيد احمد ومحجوب شريف ومحمد حسن سالم حميد . وقد اثارت النقاط التي ذكرها الكاتب كثيرا من الخواطر لدي ، رايت ان اسطر بعضها لنقرأ بهدوء اعصاب ، وترو عقلاني : -جاء ( الإنقاذ ) علي انقاض ( نظام ديمقراطي ) غير متوازن ، طغي خلاله الكيد الحزبي علي ما عاداه من تحديات كبري تواجه الوطن كالحرب والإقتصاد المنهار والإضطراب الإداري . -قدمت مذكرة القوات المسلحة ، لإتخاذ الخطوات الكفيلة بإدخال الوطن في مساره الصحيح ، ولكن تقديمها في ذاك الوقت ، زاد من تفاقم اساليب الكيد بين المكونات السياسية . -تحت ظروف ما احدثته المذكرة من اضطراب في الرأي ، استطاعت الجبهة القومية الإسلامية كتنظيم موحد ومنظم من احداث التغيير في الثلاثين من يونيو دون اظهار هويتها ! . -التغيير الذي حدث وجد تأييدا اقليميا وخارجيا لاسباب لا تخفي عن المتابع . -في بداية ايام التغيير تم اختيار شخصيات عديدة كممثلين في المؤتمر الوطني ، وكبرلمان معين ، لوضع الاسس للحوار الوطني للخروج من ازمات الوطن في شتي المجالات ، ولاسيما في مجال إيقاف الحرب ومواجهة التدهور الاقتصادي ، وقد سمي ( محمد المكي إبراهيم ) ممثلا للدبلوماسيين في هذا البرلمان . -شارك الشاعر المكي في هذا المؤتمر ، قناعة منه بإمكانية المشاركة الفاعلة لإدخال البلاد في مرحلة جديدة ، بعيدا عن الدائرة الشيطانية التي تدور حول ديمقراطية مشوهة ، وحكم عسكري ديكتاتوري . -كانت قناعة الشاعر المكي كما ذكرت . وهو الذي تربي في ايام شبابه علي ايقاعات فكر ثوري ، ورأي بأم عينيه كيف ان الاحلام الوردية التي عاشها الشباب بعد الاستعمار قد شابتها الكثير من الشوائب ، ليتحول نظام الحزب الواحد الي حكومة الفرد الواحد ، بل وتحت جحافل هذه الديكتاتوريات عانت الشعوب التواقة للحرية كثيرا من العنت ، بل وفي ذاك التاريخ بدأ تفكك منظومة الاتحاد السوفيتي ( العظيم ) ، والذي تغني بإنجازاتها الشعراء الألي ظنوا بأنها تمثل أسس العدالة الإجتماعية والديمقراطية الحقة . -لكن بشعور الشاعر .. الصادق الاحساس ، عندما احس بأن ما إنخرط في اتونه داخل نظام الانقاذ ، ما هو إلا صورة جديدة من صور الطغيان ، وأن وجوده مع غيره لا يمثل إلا ديكورا ، آثر الإستقالة من وظيفته المرموقة ، وأعلن أكثر من مرة بأنه لم يفصل ولكنه إستقال . -شد الرحال إلي الولايات المتحدة ليعيش هناك ويبدأ حياة جديدة كشأن كل الذين هاجرو إليها ، وأذكر بأنه قال لي حين قابلته علي هامش مهرجان اصيلة الثقافي في المغرب عند مشاركته في المهرجان بشعره الرصين .. بأ، الحروف الاولي من اسم الولايات المتحده تعني بأن عليك البدأ من جديد (U.Start A.gain) . -لم تغب عنه الروح الثوريه ، ليبدع بكلمات تبدو هي الاقوي والأوضح في مواجهة الديكتاتورية ، فكانت رائعته باللغة الدارجية ( سلمو وما بتسلم ) والتي يقول فهيا . سلم ومابتسلم رحمت متين عشان ترحم سلم مفاتيح البلد سلم عباياتنا ومنافحنا ومصاحفنا ومسابحنا سلم مفاتيح البلد تراث اجدادنا سلمنا عقول اولادنا سلمنا ...الخ -وأذكر في زيارة لي الي القاهرة ، وجدت الفنان الراحل محمد وردي منهمكا في تلحين هذه الكلمات ، ولا عجب فمحمد الوردي كما يسميه الشاعر محمد المكي معجب بالشاعر بإحساسه الصادق ، وكان يحمل ديوان ( أمتي ) أينما حل ، وإعجابا بطرحه العقلاني لحن قصيدته ( مدينتك الهدي والنور ) في مدح سيد المرسلين ــــ ومحمد الوردي بدوره أتي إلي السودان الذي احب بعد طول غياب وحين دعي الي حفل حضره نافذون من الإنقاذ ووجدهم يرقصون علي نغمات اغانيه قال بعفويته المعروفة .. ( والله ما كنت اعرف انكم بتحبوا الاغاني والموسيقي بالشكل دا ! ) . -يتضح مما ذكرت بأن الشاعر لم يكن من الذين يبيعون المواقف من اجل المصلحة الشخصية ، وكان ذلك سهلا حين ذاك .. فما كان عليه الأ ان يبدي بعض كلمات الثناء للنافذين في السلطة ليصل الي ما يريد الوصول اليه ، وهناك نماذج عدة لآخرين ليس لديهم شيئا من عطاء شاعرنا ، ولكنهم ركبوا الموجة وأشادوا وداهنوا بعد ان بلعوا الكثير من حبوب النفاق . -ملخص القول بأن شاعرنا عاش فترة محفوفة بالصعوبات في الولايات المتحدة ، وجاء خياره هذا تأكيدا لروحه المتحدية لكل من يريد ان يكسر في داخله حب الوطن والصدق والتوجه . ويأتي السؤال ، ما الذي حدث ليأتي محمد المكي إبراهيم للسودان ويذعن راضيا بأمر تكريمه في ولاية شمال كردفان ، ويرضي بأن يقام مهرجان ثقافي بإسمه في الولاية . -أولا كانت هناك دعوات عدة من مبدعين ، ومن رابطة سفراء السودان لعودة الشاعر ليساهم في إثراء وجدان الناس كما عهدناه . -الشاعر المكي دبلوماسي ، وظيفة وسلوكا ، وقد علمته الدبلوماسية بان مواجهة اية مخاطر سياسية او اجتماعية ليست بالضرورة بإبداء الرفض القاطع ، فمادام هو القائل سلم ومابتسلم ، ويمدون له اليد .. فكيف لا يقبل هذه الدعوه ، ولاسيما وهي متعلقة برجوعه إلي وطنه الأم . -الرفض بالقبول ، سيعني بأن يوضع نفسه في موضع الإقصائي ، واكبر مشاكل عالمنا الثالث هو رفضنا لبعضنا البعض ، فأنا هنا علي هذا الشاطئ ، ولا يمكن ان اقبل آخرا من الشاطئ الثاني ، ومن هنا تزداد الشقة ، ولكن لو دعاني من هو علي الطرف الاخر فلا بد ان اوضح له .. بأننا يمكن ان نتحاور ، وبالحوار تتبدل القناعات المعوجة ، ويحدث التفاعل والتغيير نحو الاحسن .. ( يتبع ) salahmsai@hotmail.com