“دارفور – حرب الموارد والهوية”، للدكتور محمد سليمان محمد – عن ضرورة التفكير بشجاعة وبطريقة مختلفة

 


 

 

عرض ونقاش: الوليد محمد الأمين

صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في العام 2004. وبالنظر إلى تاريخ صدوره المبكر في بدايات اشتعال أزمة الإقليم، أو معاودة اشتعالها المتكرر في الحقيقة، ولكن بضراوة أكبر هذه المرة - إن شئت الدقة، بالنظر إلى ذلك، يمكننا القول إن هذا الكتاب من أوائل الكتب أو الدراسات الوطنية المتعمقة في الصراع وردِّه إلى العوامل الايكولوجية، رفقة عوامل أخرى بالطبع. سنجد بعد ذلك كاتباً آخر أوْلَى التغيير الايكولوجي أهمية مقدرة في النزاعات في دارفور، وهو الدكتور محمود ممداني في كتابه "دارفور: منقذون وناجون" الصادر في العام 2009. ولكن كتاب الدكتور محمد سليمان الذي نعرضه هنا كان سبّاقا في ذلك. صدر الكتاب عن دار كيمبردج للنشر بالمملكة المتحدة في 79 صفحة، وفي الغلاف كان هناك صورة أُشير إليها داخل الكتاب بأنها تجمُّع احتجاجي أمام مقر رئيس الوزراء بلندن في مايو من العام 2004، نظمته مؤسسة المجتمع المدني السوداني في 11 مايو 2004. ويظهر في الصورة مجموعة صغيرة من الأشخاص (4) يحملون لافتات كتب عليها بالإنجليزية ما يمكن ترجمته ب "أوقفوا التطهير العرقي في دارفور"، وشعارات أخرى عن القتل. وأنا هنا أتحدث عن النسخة الالكترونية التي توفرت لي.
احتوى الكتاب على عدد من العناوين الجانبية عُدِّدَت في صفحة المحتويات دون أن تُسمى بالفصول أو الأبواب أو غير ذلك، بل ظهرت في داخل الكتاب كعناوين في منتصف الصفحات في بعض الأحيان، وفي صفحات غير التي ذُكرت في الترقيم في صفحة المحتويات في أحيان أخرى، وهي: دارفور: لماذا؟ ، آثار التردي الايكولوجي، الجفاف والتصحر، التاريخ السياسي، الحيز المكاني والمناخي والسكاني، الاقتصاد، النزاعات المسلحة السابقة واللاحقة، مراحل الحرب الأهلية، المداخل السائدة لفهم النزاع، الحيف يدعو إلى السيف، رعاة المغانم أم المغارم؟ ، سلام البوران واقتتال دارفور، دروس التجربة الأثيوبية، اقتسام الموارد في أزمنة الندرة، ثم أخيرا: قرار مجلس الأمن 2004.
في بداية الكتاب ذكر الكاتب اهتمامه بما سماه بالبحث في أسباب وتجليات الصراع المسلح في دارفور الكبرى منذ العام 1990. كما أشار الكاتب إلى نشره لورقة بحثية شاملة فيما خص تداعيات الأوضاع في دارفور، نُشرت في العام 1993 وترجمت إلى العربية بعد ذلك، وشكلت بابا في كتابه " السودان حروب الموارد والهوية" الصادر في العام 2000.
في الكتاب الذي نحن بصدده حدّد المؤلف رؤيته بوضوح أن "الجفاف خلال العقد الثامن من القرن الماضي أدى إلى خلخلة النسيج الاجتماعي والأوضاع المتناغمة نسبيا في شمال دارفور". فالفور بحسبه كانوا يدافعون عن حقهم التاريخي في دارهم، بينما كان الرعاة يبحثون عن ملجأ من الجفاف والتصحر الذي أضرّ بهم وبحيواناتهم. وهو الصراع الذي يصفه الكاتب بصراع الضعيف ضد الضعيف. فالحرب في دارفور عند الكاتب تُعبِّر في الأساس عن "محاولة رعاة الماشية الذين أصابهم الجفاف دخول واحة الجبل (جبل مرة)، وإزاحة الفور خارج أراضيهم الخصبة بالسيطرة على كامل المنطقة، وإجلاء سكانها الذين يقاتلون من أجل الحفاظ على ديارهم". ويرُدُّ الكاتب الصدامات العنيفة التي نتجت عن جفاف الثمانينات مقارنة بجفاف السبعينات الأشد ضراوة إلى عدد من الأسباب. منها أن انتاج السودان من الغذاء في السبعينات كان موجها لتلبية احتياجات السوق المحلية، بينما بعدها وبعد توقيع البلاد لأول اتفاق مع صندوق النقد الدولي في العام 1978، فقد اتجه السودان لتصدير انتاجه الغذائي الزراعي. كذلك يرى الكاتب أن الإنتاج المحلي والمخزون الاحتياطي في دارفور في السبعينات خفّف من تأثير الجفاف، ولكنه، في الثمانينات، كان هذا الاحتياطي قد تلاشى. أضاف الكاتب إلى ذلك من الأسباب أيضا أن العقد السابع من القرن الماضي كان فترة سلام نسبي، بينما شهدت الثمانينات انفجار الحرب الأهلية في جنوب السودان، واندلاع الحرب الليبية التشادية، إضافة إلى الحرب الأهلية التشادية التي أدخلت السلاح الحديث إلى دارفور وساهمت في تدريب المقاتلين من الجانبين. لقد انتشر السلاح في دارفور، يذكر الكاتب، إلى حد أن السلاح من نوع إيه كي كان يباع بلوازمه بنحو 40 دولاراً، وهو سعر أقل بكثير من سعره العالمي، وقدّرت منظمة "راصد افريقيا" في العام 1990، بحسب المؤلف، أن السلاح أصبح متوفرا في دارفور بواقع قطعة سلاح لكل شخص فوق ال 16 سنة. سبب آخر يذكره الكتاب عند المقارنة بين السبعينات والثمانينات في دارفور هو أن الإدارات الأهلية المحلية التقليدية خلال السبعينات كانت لا تزال تعمل بكفاءة وقدرة على دعم المجتمعات المحلية، ولكنها أُلغيت قبل عقد الثمانينات على يد الجنرال نميري بحسب تعبير الكاتب. وتاليا لكل ذلك انهارت العلاقات الاقتصادية القوية بين الزراع والرعاة. في الحقيقة بدا لي هذا السبب الأخير ملتبسا بعض الشيء رغم معقوليته، فالاعتماد على الإدارات الأهلية هو في النهاية اعتماد على حكمة أشخاص بعينهم وليس استنادا على قوانين مكتوبة أو مرجعيات معتمدة، ولكنه من جهة أخرى يوضح غياب دور الدولة أو قل عدم تقبل تلك المجتمعات للدولة الحديثة بتفضيلها للقبائلية على السلطة المدنية (وذلك بالطبع مبحث معقد ليس الكتاب مثار نقاشنا ولا هذا النقاش مكان تناوله)، وهو على كل حال نظام يستمد جذوره من تقاليد افريقية قديمة في احترام شيخ القبيلة وتوقيره.
وبتركيزه على الدور الكبير للعامل البيئي في الصراع في دارفور، يقطع الكاتب أن النزاع الدموي الذي ظل متأججا منذ منتصف الثمانينات من القرن العشرين في منطقة جبل مرة بدارفور، هو "نزاع إيكولوجي تقليدي يجري على امتداد حدود أيكولوجية بعينها". وبالطبع فقد صدر الكتاب في العام 2004، أي قبل تصاعد حدة الحرب في دارفور وتصاعد التدخلات الإقليمية والدولية فيها، وقبل حرب الخرطوم الأخيرة بالطبع في أبريل من العام 2023. وعطفا على هذا العامل في الصراع، أي العامل الايكولوجي، يذكر المؤلف أنه على الرغم من أنه قد أجريت العديد من الدراسات عن آثار الجفاف الاقتصادية والاجتماعية على سكان تلك المناطق، فإنه لم يُعطَ سوى القليل من الاهتمام لتأثير ذلك على النزاعات الدموية، واسعة النطاق والمحدودة، ما أنتج تصورات خاطئة، فمن ناحية أُرجع التردي البيئي إلى أسباب اقتصادية واجتماعية، ومن ناحية أخرى فُسِّرت النزاعات الناجمة عنه من منطلقات عرقية وسياسية.
هناك العديد من الأسباب التي يرى الكاتب أنها فاقمت من آثار التردي الأيكولوجي في دارفور، من ذلك الزيادة الكبيرة التي طرأت على عدد السكان وعلى حجم الثروة الحيوانية، بالإضافة إلى توسع الزراعة الآلية الذي وصفه بالجائر- في منطقة الزراعة المطرية، بما يتجاوز حدود تأقلمها ايكولوجيا، فاتحد هنا عاملان، التغير المناخي والاستنزاف البيئي الجائر. لا يدخل الكتاب في تفاصيل الزيادة السكانية التي حدثت في دارفور والتي يرى أنها وصلت إلى معدلات عالية إلى حد أن تُفاقِم من آثار التردي الايكولوجي، وهي في الحقيقة (أي الزيادة هذه)، مسألة لا تنفصل عن النزاعات والحروب في المنطقة المحيطة بدارفور، إذ أشار محمود ممداني في كتابه الذي أشرنا إليه أعلاه، إلى أن عدد السكان في دارفور ارتفع من 1,33 مليون نسمة في تعداد العام 1956 إلى نحو 6,5 مليون نسمة في العام 2004، في معدل يفوق بالطبع أي معدل طبيعي للزيادة، ما يوحي بأن الهجرة من التشاد ربما تكون عاملا رئيسا في هذا التغيير بحسب ممداني الذي أورد تقديرات تشير إلى أنه وبنهاية التسعينات كان ما لا يقل عن 10% من سكان تشاد يعيشون في دارفور.
يعتقد الكاتب أن الحكومات في السودان لطالما وقفت في الجانب الخاطئ من المعادلة، فبدلا من العمل على حل الصراع ومعالجة أسبابه بحسبانها وسيطا محايدا كما قال، كانت الحكومة تقف مع طرف ضد الآخر. ويدلل على ذلك بما سماه وقوف حكومة السيد الصادق المهدي في جانب الرعاة، وتكرار حكومات الإنقاذ لذلك بطريقة أشد خطورة. وفي الحقيقة يرى المؤلف أن الحكومة فعلت ذلك، أي الوقوف مع الرعاة، لأن مساهمة دارفور الرئيسة في الاقتصاد الوطني تكمن في ثروتها الحيوانية، حيث يفوق عائد الماشية المصدرة عائد القطن المصدر منذ العام 1985، فهي إذن لم تأخذ جانب الرعاة باعتبارهم من الأعراب بل لأنهم مصدر دخل عال لمؤسسة الجلابة المسيطرة على مقادير البلاد بحسب وصف الكاتب وتعريفه، ويدلل على ذلك بأن الحكومة في شرق البلاد مالت إلى جانب الزراع ببساطة لأن الزراعة هي العائد المادي في الشرق لا الثروة الحيوانية. وعلى الرغم من تكرار المؤلف لرؤيته من أن منع الزراع للرعاة من دخول واحتهم دفع الأخيرين لاستخدام القوة، فإنه يرى أن الوزر الأكبر يقع على الرعاة ومناصريهم في الدولة، وأن الجبهة الإسلامية الحاكمة وقتها ارتكبت جرما كبيرا في حق دارفور وأهلها خاصة. وفي موضع آخر من الكتاب يذكر المؤلف أن حكومة الإنقاذ الإسلامية دفعت بالعامل العرقي إلى الصدارة قبل أن تستولي على الحكم بانقلاب عسكري في العام 1989 (بدا لي أن هناك خلطا هنا، فكيف تسمى بالحكومة قبل الاستيلاء على الحكم!)، وتدفع بالعامل العرقي في حرب الزغاوة والمهيرية (الماهرية) إلى الصدارة، مما دفع بعض نواب البرلمان والعضوية للاستقالة من صفوف الجبهة القومية الإسلامية (البرلمان المقصود هنا هو برلمان الفترة الديمقراطية الثانية، 1986-1989، والتي انتهت باستيلاء الجبهة الإسلامية على الحكم بانقلاب عسكري). وفي هذا الإطار يرى الدكتور محمد سليمان أن الحكومات المتعاقبة ساهمت في تكثيف حدة الصراع، أما حكومة الإنقاذ الإسلامية حسب وصفه، فقد قررت أن تمارس سياسة الأرض المحروقة "لتحرير" الأرض من ملاكها، وبذلك تحول الصراع من حرب على الموارد إلى صراع من أجل الموارد والهوية.
في الحقيقة لقد تبنى الكثير من المثقفين والفاعلين السودانيين هذه السردية وأمثالها في أحايين كثيرة، نكاية في الإنقاذ ومعارضة لسياساتها. ليست الإنقاذ بالطبع بالنظام حسن السمعة الذي يمكن الدفاع عنه، وقد سام جهاز أمنها المعارضين وعامة الناس من العسف ما ساموه في بيوت الأشباح وفي السجون المختلفة. استهلت عهدها بإعدام ضباط محاولة 28 رمضان الانقلابية وإعدام السيد مجدي محجوب بتهمة حيازة النقد الأجنبي، فإذا بها بعد ذلك يكتنز ساستها والمتنفذون فيها الدولارات وأموال البترول وغيره. لم توفر الإنقاذ شيئا من إذلال السودانيين إلا واقترفته، مرة تحت طائلة قانون النظام العام بحلاقة شعر الشباب في الشوارع وجلد النساء والصبيات بتهم أقلها ارتداء البنطلون، ومرة بمطاردة الأطفال والشباب تحت قانون خدمة الوطن. ذلك بالطبع غير الفساد المصاحب للدولة وبرعايتها في كثير من الأحيان، وهذا بالطبع غير وزرها الأكبر الذي أودى بالدولة السودانية في آخر المطاف، أي ما اتبعته الإنقاذ من إضعاف ممنهج للجيش القومي لصالح المليشيات، وهذه السياسة وإن كانت لم تبتدعها الإنقاذ في السودان أو في العالم، إلا أن مدى إضعاف الجيش الذي حدث في عهدها لم يكن مسبوقا من قبل لا في السودان ولا في المنطقة. أقول كانت الإنقاذ سيئة ولكنها بعض سوئنا لا شك في ذلك، أو لعلها التجلي الأوضح لسواءتنا أو ما ظننا أنه حد المرونة للسوء فينا، حتى إذا اندلعت حرب الخرطوم تعجبنا من جهلنا بالسوء الطالع ممن ضمتنا معهم خريطة الانجليز. أقول حفلت أدبيات المفكرين اليساريين السودانيين بالذات بتحميل وزر غياب التنمية الموروث منذ عهد الانجليز لأقاليم بعينها للحكومات المركزية، والتي كانت لأسباب تاريخية وموضوعية يتكون جلها من الشماليين. وطفقت أقلام الكثير من المفكرين والكتّاب في إطلاق وتبني مصطلحات كالتهميش، والمركز والهامش، واسقاطها على الواقع السوداني المختلف بكلياته أو نسبيا عن مناطق إنتاج هذه المصطلحات، بالطبع لا حدود جغرافية للنظرية، ولكن هناك كذلك المؤثرات المحلية. قادنا لهذا الاستطراد هنا ما ذكره الكاتب وأشرنا إليه أعلاه من قوله بتبني الإنقاذ لسياسة الأرض المحروقة في دارفور لتحرير الأرض من سكانها كما يرى الكاتب. من الصعوبة بمكان الوصول إلى مثل هذه الحقائق الخطيرة بهذه السهولة، وقد تكون للكاتب أدلته وقرائنه التي لم يذكرها هنا لعدم ارتباطها بالموضوع الأساسي للكتاب، وواحد من هذه الأسباب التي استند عليها الكاتب تصريح منسوب للدكتور حسن الترابي أورده المؤلف في كتابه "السودان حروب الموارد والهوية"، حيث ورد في ذلك التصريح (1) لصحيفة سودانية قول الدكتور الترابي بأن لديهم خطة لتأييد القبائل العربية وتهجير الفور قسريا من جبل مرة ونزع سلاحهم، غير أن المسألة دون شك أكثر تعقيدا. وحديث الترابي ذلك للصحيفة وخطته هذه كانت في غالب الظن في إطار تصوره للدولة الإسلامية التي تمثلها عنده الحركة الإسلامية وليس سواها.
راج في فترة من الفترات مثل هذا القول وأن حكومة الإسلاميين في السودان عملت على توطين العرب في دارفور لتقليص نفوذ الزرقة! وهذا قول في الحقيقة لا يتعمق في طبيعة الصراع والتداخلات بين القبائل في تلك المنطقة، فمن قبل الإسلاميين ظلت حركة القبائل العربية من تشاد وغرب القارة في العموم، وتحديدا من منطقة السهل الإفريقي (تكتب خطأ الساحل في تعريب لكلمة Sahel الإنجليزية)، ظلت في ديناميكية مستمرة. من ذلك أن جماعات من قبيلة السلامات التشادية قد انتقلت من تشاد إلى دارفور واستوطنت هناك، ومثل ذلك فعلت قبيلة الحوطية التي قدمت من تشاد هي الأخرى (2). كما أن اتهام حكومة الإنقاذ باتباع سياسة الأرض المحروقة كما ذُكر في الكتاب، ينفيه أو يقلل من حدته تاريخ الصراع بين المجموعات العرقية في دارفور من قبل الإنقاذ، إذ تذكر جولي فلنت في كتابها "الحرب الأخرى، الصراع العربي الداخلي في دارفور) (2) ، أن المسيرية من تشاد أحرقوا في ليلة واحدة عشر قرى في غرب كاس في أكتوبر من العام 1987، كما أحرق بنو حسين من المسيرية والسلامات من تشاد عددا أكبر من القرى في الشمال الغربي لكاس، ونشأت قرى جديدة سكنها المهاجرون، حتى أن واحدة منها سميت نجامينا في جنوب غرب كاس!
وإذا افترضنا جدلا بأن الإنقاذ فعلت ذلك لسبب ما، فواقع الأمر أن ذلك ما كان ليحدث لولا تحفيز النافذين من تلك المكونات العرقية للحكومة لفعل ذلك، أو لنكن أكثر تحديدا استغلالهم جهل الحكومة المركزية لطبيعة الصراع لتحقيق مآربهم الخاصة.
نجم ذلك في الغالب عن جهل المركز بطبيعة الصراع والتداخل القبلي هناك كما أسلفنا، وفاقم منه ضعف النخب السياسية التي تولت أمر السودان باختلاف أطيافها وميلها الدائم للشعور بالدونية تجاه الآخر الخارجي وتبنيها لقضايا المنطقة والاقليم، خاصة العربية منها، مقابل اهمال الداخل السوداني المعقد. وقريبا من ذلك يقول الدكتور منصور خالد:" مصدر الأزمة السياسية فيما نرى ليس هو أن آباء الاستقلال والجيل الذي أعقبهم كانوا قوم سوء، بل هو فقدانهم للرؤية الصائبة للأزمة السودانية" (3).
يحمل المؤلف على مؤسسة الجلابة الذين حسب وصفه يستخلصون أرباحهم من الدور الذي تلعبه الثروة الحيوانية في اقتصاد دارفور، وعليه كان لذلك أثر كبير فيما سماه بقرار الحكومة المركزية بالانحياز للرعاة ضد المزارعين. ويصف المؤلف الجلابة في شرق السودان بأصحاب المشاريع الزراعية الآلية المتغيبين(!). وغالب الظن أنه يعني هنا بشرق السودان منطقة القضارف الزراعية، ولكن متى كان يتوجب على أصحاب المشاريع الكبيرة البقاء في مناطق مشاريعهم، على الأخص إن كانت لهم نشاطات تجارية واقتصادية أخرى ومتعددة. ويرى المؤلف أن موقف الحكومة كانت دائما ما تحدده بشكل واضح مصالح القوى الاجتماعية التي تسعى إلى استغلال الفائض الاقتصادي الكامن، "إنهم فئات الجلابة الذين نجدهم كملاك للأراضي في المناطق الزراعية في الشرق وتجار المواشي في الغرب"، والوصف بين الأقواس للكاتب.
وفي الحقيقة فقد دار لغط كبير حول الدور الذي لعبته ما سميت أو ما تواطأت الغالبية على تسميته بالجلابة. كان غالب ذلك اللغط متركزا في الدور السلبي لهذه الجماعة التجارية أو الرأسمالية، دون النظر لأي أدوار إيجابية من المؤكد أن هذه الجماعة قد قامت بها. ربما كان مرد ذلك لمسألة أن غالب من تناول هذه المسألة بالنقد كانوا هم من الكُتّاب ذوي الميول اليسارية الذين راكموا عداء فطريا ضد رأس المال الوطني والأجنبي وصل إلى قرارات التأميم في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري أيام شيوعيته أو قل يساريته قبل أن ينتهي به الأمر إماما للمسلمين. إن الجلّابة هم في الأصل وبحسب التوصيف السائد جماعات التجار من الشماليين الذين مارسوا التجارة في مناطق البلاد المختلفة، ولكن هذه الجماعة لم يتم النظر إليها أبدا كجماعة ساعية للربح والريع وتحليل سلوكياتها وفق ذلك، سواء كان ذلك باستخدام أدوات التحليل الماركسي أو بغيره، لقد نُظر إليها على الدوام كجماعة استغلالية استغلت السلطة في تحقيق مآربها، وكأن ذلك سلوك غريب على رأس المال على وجه العموم. أجدني حين التحدث عن الجلابة كمؤسسة أتفق مع البروفيسور منتصر الطيب إبراهيم (4) في تصوره بأن "تقييما واقعياً وموضوعياً للدور الذي لعبه رأس المال التجاري للمجموعات الشمالية لا بد من إنجازه يوما" بدلا عن الاكتفاء بتخصيص مصطلح الجلابة " للشماليين القميئين".
وتحت العنوان الفرعي "التاريخ السياسي"، يذكر المؤلف أن دارفور كانت دولة ذات سيادة مستقلة خلال الفترة 1650 إلى 1917، وقتما ضمها الانجليز للدولة السودانية. ومن وقتها، يقول، وحتى بعد استقلال السودان لم تشهد سوى محاولات ضئيلة للتنمية الاقتصادية، "مما ساهم في عزلها عن بقية القطر على المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية، واستمرت كواحدة من أقل أجزاء السودان اندماجا في إطار الوطن وأكثرها استعصاء على الحكم". ساهم في ذلك غير ضعف التنمية بحسبه، بُعدها عن المركز وضعف الروابط التي تصلها به من وسائل التواصل والاتصال، ولكنه أضاف أن بُعد المنطقة يعود لعوامل أخرى جغرافية وثقافية وتاريخية. ورغم أنه لم يُفصِّل فيما سماها بالعوامل الجغرافية والثقافية والتاريخية التي عزلت دارفور من بقية القطر، فإنني أظن أن هذه العوامل هي من الأهمية بمكان، بل إنها تتفوق في الأهمية على العامل الذي لطالما مثّل قميص يعقوب للباحثين في أسباب هذه العزلة وهذا الانقطاع، أي ما ظل يتردد بسماجة من سيطرة الشماليين على مقاليد الحكم في السودان وتهميشهم لدارفور عمدا، بل إنني هنا أكاد أجزم بأن الشماليين العاديين لم تكن مسألة الوحدة مع دارفور التي ضمها الانجليز إليهم، لم تكن تشكل أمرا ذا بال عندهم لأسباب متعددة وكثيرة، بل يمكن القول كذلك إن قطاعا كبيرا منهم كان يرى أنه من الأفضل للبلدين أن يعودا منفصلين كما كانا قبل ضم الانجليز دارفور للسودان. ولكن النخب السودانية التي كانت دائما منبتّة عن واقعها ومأخوذة بشعارات القومية والمشاريع الأممية عابرة الحدود والأفكار الرومانسية الثورية فترة الحرب الباردة وحلف دول عدم الانحياز وغير ذلك، هذه النخب ظلت هي المهمومة ببقاء السودان بحدوده التي رسمها الانجليز، بل وعدّت ذلك من ثوابت خطاباتها السياسية، ولا أقول برامجها. وفيما خص العوامل الجغرافية التي ساهمت في جعل دارفور أقل أجزاء الوطن اندماجا فيه كما ذكر مؤلف الكتاب، نجد الدكتور حسين آدم الحاج (5) يذكر أن دارفور ظلت على الدوام منقطعة عن السودان النهري بالعوامل الطبيعية، ولكنها بالمقابل منفتحة على السهل الإفريقي ودوله. وهذا الانفتاح على السهل الأفريقي مقابل الانقطاع النهري أشار إليه السيد يوسف عزت الماهري، الناشط المنتمي لعرب دارفور ومستشار قائد قوات الدعم السريع بعيد اندلاع حرب الخرطوم في أبريل 2023، أشار إليه قبل ذلك بوقت طويل، ففي العام 2013 ذكر السيد يوسف ما نصّه:" حيث يسير أيا منا في أسواق نواكشوط أو تمبكتو أو انجمينا دون الشعور بغربة في الملامح أو اللسان، فما الذي يجبرنا للشراب من البحر؟". وكذلك ما نصه:" إن الاتجاه غربا وشمالا (يعني غرب وشمال القارة) سيحل الأزمة من جذورها، لأن إمكانية التعايش وفق الشروط الراهنة مفقودة تماما" (6). من الواضح أن السيد عزت وقومه في النهاية وعوض الاتجاه نحو غرب وشمال القارة عملوا على تغيير ما سماها بالشروط الراهنة بقوة القتل والتغيير الديمغرافي، ومن الواضح أكثر أن الانجليز ارتكبوا خطأ كبيرا بضمهم سلطنة دارفور إلى السودان، خطأ دفع ثمنه الجانبان، سكان السودان التاريخي وسكان السلطنة، ولكن لا أحد يلوم الانجليز!
أما فيما خص العوامل الثقافية فيمكننا بكل وضوح ملاحظة التباين الثقافي الكبير بين سكان السودان الشرقي النهري والسودان الغربي في دارفور، كان ذلك في الممارسات الحياتية من طقوس الزواج والموت وغير ذلك، أم كان في طقوس الغناء بل وفي قيم الحياة ومفاهيم حق الآخر وأخلاق الحروب. من المهم هنا الإشارة إلى أن حرب 15 أبريل في الخرطوم التي قامت بها قوات الدعم السريع المتكونة في عظمها الأساسي من قبائل عرب غرب السودان، ضد الجيش السوداني، من المهم الإشارة إلى أن هذه الحرب بينت ضمن ما بينت الفرق الشاسع بين ثقافات السودان النهري شرق النيل والسودان غرب النيل. العامل الأخير من عوامل العزلة الذي أشار إليه الدكتور محمد سليمان هو عامل التاريخ. ورغم أنه لم يفصل فيه أيضا، إلا أنه قد يجوز لنا الافتراض بأن هذا العامل يشمل الضم القسري والمتأخر لدولة دارفور بواسطة الانجليز للسودان القديم. وقد يشمل العامل التاريخي كذلك ما مارسته الحركة المهدية القادمة من دارفور من فظائع على الشماليين أو السودانيين النهريين شرق النيل وصولا إلى شرق السودان البعيد على وجه العموم، وهي فظائع وإن تعامى عنها التاريخ الرسمي للدولة السودانية المتهمة بسيطرة الجلابة(!)، إلا أن هذا التاريخ ظل مبذولا في الكثير من كتابات المؤرخين غير السودانيين، وفي حكايات الأجداد الشفاهية، حتى إذا اندلعت حرب الخرطوم الأخيرة أسفر هذا التاريخ بوجهه الحقيقي دون مساحيق التجميل.
يعتبر الكاتب أن ولايات دارفور تعتبر من مناطق الشدة والتخلف المتأثرة بالوتائر غير العادلة وغير المتوازنة للتنمية في السودان، ولكنه يرد سبب ذلك لاهتمام النخبة الحاكمة المتحيز لسودان وادي النيل الأوسط، أو ما وصفه بمثلث مدن سنار كوستي الخرطوم الغنية نسبيا، والتي يقول إنها ظلت لسنوات عديدة تنعم بنصيب الأسد من مصادر الاستثمار العام والخاص (كيف يسعنا لوم القطاع الخاص هنا؟)، على حساب بقية أرجاء البلاد، وسمى ذلك بالتفاوت الجهوي. يمكننا هنا أن نلاحظ أن ما أشار إليه المؤلف بمثلث سنار كوستي الخرطوم، طغى عليه في أدبيات السياسة السودانية بعد ذلك ما عرف بمثلث حمدي، وذلك نسبة إلى السيد وزير المالية في بعض عهود الإنقاذ، السيد عبد الرحيم حمدي، الذي صرّح في العام 2005، أي بعد صدور الكتاب، بأهمية تركيز جهود التنمية في مثلث دنقلا، سنار، الأبيض، ومن حينها عرفت هذه المنطقة بمثلث حمدي، وأصبحت هدفا لسهام متبنيي مفاهيم التهميش المتعمد.
يعزو الكاتب ما سماها "اللامبالاة على المستويين الوطني والدولي" فيما خص النزاع في دارفور (وهو هنا بالطبع يتحدث عن الفترة ما قبل صدور الكتاب في العام 2004)، يعزوها إلى عاملين رئيسين، أولهما الاعتقاد واسع النطاق بأن ما يحدث هناك هو نزاع قبلي تقليدي يجري في مناطق نائية بعيدة عن المركز، وثانيهما أن حرب الجنوب كانت أعلى صوتا وألقت بظلالها على النزاع وقلّلت من أهميته. وسوء الفهم هذا مصحوبا مع الأخذ في الاعتبار أثر التردي الايكولوجي على المنطقة، يرى الكاتب، أنه هو ما قاد الحكومة لانتهاج سياسة أمنية خاطئة قوامها أنها مجرد مشكلة نهب مسلح وتردٍ أمنيٍ تعالج عسكريا.
لا يتفق الدكتور محمد سليمان مع رأي الحكومة في تفسير الصراع باعتباره مسألة أمنية تعالج عسكريا. بل يرى بالمقابل أن هناك ثلاثة مداخل لفهم هذا النزاع، وهي المدخل الإنساني، والمدخل السلالي- السياسي، والمدخل البيئي التكاملي. فالمدخل الإنساني يتعامل بصورة أساسية مع المشكلات التي تواجهها المنطقة بحصرها في تلبية الاحتياجات الإغاثية الإنسانية التي تسبب فيها التردي الايكولوجي في دارفور، وعليه فالنزاع المسلح يعالج بوصفه تهديدا مباشرا لجهود الإغاثة، وبالتالي فهو، أي النزاع، لا يحظى عادة إلا باهتمام طفيف حينما لا يتعارض مع توزيع الإغاثة أو مع سلامة الممرات. وهذه ملاحظة سليمة ونبيهة من الكاتب، بل أنه يمكننا إسقاطها على كل الحروب التي دارت وتدور في السودان، وكذلك في دول العالم الثالث على وجه العموم، حيث يتعامل العالم الأول مع حروب هذه المناطق على أنها حروب عبثية بين أقوام متخلفين، فيكون الهم الأول للعالم الغربي ووسائط إعلامه إظهار انسانيتهم بتقديم مواد الإغاثة دون إعطاء اهتمام ذي بال لجذور النزاع أو لملابسات الحرب. وكمثال قريب على ذلك في حرب السودان الأخيرة في 15 أبريل يمكننا الإشارة إلى اهتمام الراعي الأمريكي للمفاوضات بتسهيل مرور المساعدات الإنسانية كهدف مهم، دون الاهتمام بالتفاصيل الأخرى المؤدية إلى حل النزاع، أو على الأقل دون اهتمام كاف بها.
أما فيما خص المدخل البيئي التكاملي فيرى المؤلف أنه يضع تمييزا واضحا بين ثلاثة تصانيف أساسية متلازمة مع الحرب، وهي وعي مباشر بأشكال النزاع، وتجلياته، وأسبابه. حيث أن الوعي بأسباب النزاع لا يفسر بالضرورة أسبابه. وهو هنا، أي المؤلف، يفسر الصراعات التي ظل الناس فيها يتقاتلون حتى بعد مرور زمن طويل على اختفاء الأسباب الابتدائية للنزاع، بأن الكراهية المتراكمة والمرارات وفقدان الثقة بين المجموعات، تصبح هي ذاتها سببا لتفجر نزاع جديد.
أما المدخل السلالي – السياسي لفهم النزاع، يقول المؤلف: "فهو يتعامل مع النزاع بوصفه نزاعا سلاليا -قبليا". ويشير إلى أن هذا التفسير له متبنوه، ويذكر منهم بالاسم الباحث شريف حرير. ويقول الكاتب إن هذا المدخل رغم فهمه لطبيعة الصراع، إلا أنه فشل في اقتراح الحلول لاحتوائه، رغم استخدامه لعبارات مثل الحقوق التاريخية والعدالة الاجتماعية، ما يراه المؤلف غير ذي صلة وطيدة بديناميكية العمليات الايكولوجية والاقتصادية. كما أنه بالمقابل، أي هذا المدخل السلالي-القبلي، لا يهتم بما سماه المؤلف بالأصوات العاقلة التي تنادي باقتسام وإعادة تأهيل الموارد المتوفرة في زمن الكوارث بدلا عن سيادة عقلية المنتصر بأخذ كل شيء، والتي يرى المؤلف أنها أتت بالكثير من الكوارث على المنطقة. وبالإشارة إلى الدكتور شريف حرير المنتمي لقبائل دارفور والمتخصص في الانثروبولوجيا، فهو كان قد صرح عند تعيين الدكتور إبراهيم دريج في العام 1982 كأول حاكم لدارفور من الفور بعد الاستقلال بأن ذلك هو "بداية نهاية الاستعمار الداخلي" . عين هذا المصطلح استعمله بنصه بعد أكثر من أربعين عاما من ذلك السيد سليمان صندل القيادي في حركة العدل والمساواة الدارفورية في نوفمبر من العام 2023 إبان حرب الخرطوم بتصريحه بأن "وكلاء الاستعمار الداخلي الجدد سوف يلقنهم الشعب درسا في الوطنية" (8)، وذلك في سياق حديثه بأن:" واهمون الذين خططوا ويخططون لإعادة إقليم دارفور لعام 2003، سوف يخيب فألهم ويكون تخطيطهم حسرة عليهم". وبالطبع فقد أعلن السيد صندل وحركته المسلحة حيادهم في تلك الحرب، حتى أذا هددت قوات الدعم السريع مناطقهم التاريخية أعلنت حركات دارفور المسلحة ترك الحياد والاصطفاف مع الجيش، ولكن تلك قصة أخرى لم تنته أو تكتمل فصولها بعد، ومنها أن السيد صندل وآخرون معه قادوا انشقاقا في حركتهم المسلحة. إنه لمن الغريب هذا التصور لدى نخب دارفور بأن الشماليين متمسكون ببقاء دارفور ضمن خريطة الانجليز إلى حد أنهم، أي أولئك النخب، يصفون ذلك بالاستعمار الداخلي!
على كل حال يرى المؤلف أن الموقف العرقي الحالي بين أطراف النزاع في دارفور (وقت صدور الكتاب)، هو نتيجة من نتائج الحرب أكثر من كونه سببا لها، ويستدل على ذلك بأن عدة اشتباكات قد نشبت في الماضي بين القبائل العربية والفور دون الاشتباك في حرب واسعة النطاق. وهو يرى أن المجموعات الدارفورية المختلفة لم تكن أبدا تتميز بنزوع سلالي قبائلي قوي في تصنيفاتها المتبادلة. ذلك على الرغم من قوله في موضع آخر من الكتاب أنه "وعلى الرغم من التقسيم الرسمي للمنطقة إلى محافظات ومجالس، فإن التقسيمات التقليدية تظل هي الأكثر أهمية" في إطار ما سماها بالجماعات السلالية (الإثنية)، وهي "دار زغاوة ودار الفور ودار رزيقات". وأجدني هنا لا أتفق مع المؤلف في هذا الرأي الذي عاد هو نفسه فناقض نفسه فيه، لقد ظلت دارفور على الدوام أرضا للصراعات القبلية والصراعات السلالية والتمييز الحاد بين الأعراق.
يستعرض المؤلف المجموعات السلالية في الإقليم من عربية وغير عربية، ويشير هنا إلى أن المجموعات غير العربية عندما أسست جبهة نهضة دارفور في منتصف الستينات، فقد كان الهدف الأساسي من ذلك هو حماية مصالح سكان دارفور وسط عمليات الصراع والتنافس السياسي التي عانى منها مركز الحكم في الخرطوم. بينما يرى أن التحالف العربي الذي كونته القبائل العربية منتصف الثمانينات قد تكوّن من أجل الحصول على الدعم الرسمي والمالي من الحكومة المركزية ومن الأحزاب السياسية السودانية لقضية العرب في المنطقة. في اعتقادي أن هذه التأويلات لقيام كل من جبهة نهضة دارفور والتحالف العربي ربما لا تحيط بكل الحقيقة، بل ربما يجب أخذ تلك المسألة في أطار التطور التاريخي للصراع بين القبائل الافريقية والقبائل العربية في دارفور ورغبة كل طرف في استئصال الآخر.
لقد شهدنا بالطبع بعد سنوات من صدور الكتاب كيف تحولت دارفور من صراع داخلي إلى أزمة دولية حظيت باهتمام العالم، وتشكلت لصالحها أو لصالح سرديات بعينها فيها جماعات ضغط ذات نفوذ كبير ومؤثر. عن بداية هذا التدويل يقول المؤلف "حسن للغاية أن قضية دارفور قد خرجت من الصندوق الذي حاولت حكومة الإنقاذ إدخالها فيه، وكان لها رجع الصدى الإقليمي والعالمي الواسع السائد الآن". ويضيف بأن "القتال والقتل والنهب وتدمير القرى بدأ منذ منتصف عقد الثمانينات من القرن العشرين، ولكن تغير نوعيا بمرور الوقت وبشكل خاص في العامين الأخيرين. لقد تحول من صراع حول الموارد، إلى صراع حول الموارد والهوية". لا يمكننا بالطبع النظر إلى هذا التفاؤل من مؤلف الكتاب بتدويل القضية إلا من باب حسن ظن المؤلف، والكثيرين غيره من السودانيين خاصة السياسيين منهم وقتها، بل وإلى حينه، حسن ظنهم بالعالم وبالنظام الدولي المتشكل فيما بعد الحرب الباردة بل وقبلها، بل وحسن ظنهم فيمن حسبوهم حلفاء لهم من أهل دارفور في قضايا التنمية المتوازنة والقضاء على التهميش في وطن واحد. فبعد مرور كل هذه السنوات لا يمكننا النظر إلى ذلك التدخل إلا على أنه كان جزء من صراعات المحاور في المنطقة، وبعضا من سياسات تدجين حكومة الإنقاذ الإسلامية في السودان قتها باعتبارها جناحا لحركة الاخوان المسلمين المغضوب عليها في المنطقة وواحدا من الأعداء الجدد للعالم الغربي بعد انهيار الشيوعية.
وعوداً إلى التوزيع القبلي لسكان ولايات دارفور يقول المؤلف إن المجموعات ذات الأصول العربية من رعاة الإبل الرحل (الأبّالة) كانوا دائما مشاركين بنشاط في النزاعات الدموية في المنطقة، إما ضد المزارعين المستقرين أو فيما بينهم. وهم، أي الأبّالة، يتكونون من قبائل البديات والزغاوة غير العربية، والمهيريا (رزيقات)، والعريقات، والمحاميد، وبني حسين العربية. وبالمقابل يرى المؤلف أن وتيرة الحياة في مجتمعات الفور وغير العرب من المساليت، والبرتي، والبرقو، والبرقيد، والتاما، والتنجر، يرى أن وتيرة الحياة عند هذه المجتمعات تتميز بالتعايش السلمي والتناغم بين المجموعات السلالية (الإثنية)، ولم يسبق أن وقعت بينها صدامات مسلحة خطيرة. أما قبائل الرزيقات والهبانية وبني هلبة والتعايشة والمسيرية فيصفها المؤلف بأنها تقيم في مناطق أقل استقرارا من مناطق الفور رغم أنها لم تعان من الجفاف إلا القدر اليسير، ولكنه لا يشير إلى طبيعة العلاقات بينها.
يناقش المؤلف مفهوم العروبة في دارفور ويشير في هذا الإطار إلى أن التمايُز الإثني في ولايات دارفور، كما في السودان عموما، ليس شديد الوضوح كما أنه ليس حاداً. ويرى أن أنه يمكن تقسيم سكان دارفور إلى المتحدرين من أصول عربية، وإلى مجموعات حامية من أصول إفريقية. ويقول المؤلف إنه مع أن بعض المجموعات العربية تدعي نقاءها العرقي العربي فإنه يجب ملاحظة أن عروبتها ترتكز على الإرث الثقافي وحده لا على الانتماء العرقي (الدم)، وبالتالي، يقول المؤلف، فإن اسم العرب يعني فقط أولئك المتكلمين باللغة العربية الذين امتزجوا عبر عمليات تاريخية طويلة بالمجموعات الافريقية (غير العربية).
يتعارض هذا التعريف بالطبع ما استعرضه المؤلف في كتابه من تقسيم الباحث شون أوفاهي للمجموعات السلالية، وفيه يرى أوفاهي أن دارفور من ناحية سلالية تعتبر من اقل المناطق انتظاما في توزيعها العرقي في السودان، وأن الذين يعتبرون أنفسهم عربا هناك يتشاركون تصورهم المشترك لأنفسهم على أنهم أعلى مكانة على الصعيد العرقي والثقافي من المجموعات الريفية، مع شعور بالتعالي ونزوع نحو العنف.
ما وجدته وبدا لي خطيرا وجديرا بالملاحظة هنا تشبيه أوفاهي تنظيم المجموعات العربية العسكري في دارفور بالتنظيم العسكري النمطي بين القبائل الألمانية البدائية التي قضت على الإمبراطورية الرومانية، ومن البديهي بالطبع أن هذا الانتباه لم يكن ليخطر لولا ما رأيناه في حرب أبريل الأخيرة في الخرطوم وامتداداتها في السودان وما رافقها من تدمير البنية التحتية للدولة والنهب والسلب واحتلال بيوت المواطنين العاديين غير المحاربين والسكن فيها بل والتزاوج فيها من قبل الجماعات الغازية. ويضيف أوفاهي أنه "وعلى غرار نظائرها الأوروبية فإن هذه المجموعات العسكرية الرعوية لا تتردد ولا تتورع من غزو ونهب المزارعين المحتقرين-حسب نظرتها لهم- خصوصا في أزمنة الندرة وشح الموارد".
يصف المؤلف النزاعات بين القبائل في دارفور قبل منتصف الثمانينات بأنها كانت عبارة عن اشتباكات تميزت بطبيعة خافتة الحدة وموغلة في طابعها المحلي وغير متلاحقة الوتائر. ومن أمثلة ذلك يذكر النزاعات بين الزغاوة والمهيرية (1968)، وبين المعاليا والرزيقات (1968)، وبين الرزيقات والمسيرية (1972-1974)، وبين بني هلبة والمهيريا (1975-1977)، وبين التعايشة والسلامات (1978-1981). ويؤرخ المؤلف للصراع الدموي واسع النطاق بدء من العام 1985، حيث اندلعت الصراعات بين الزغاوة والمهيريا من رعاة الإبل ضد المزارعين المستقرين من الفور، ثم بين المجموعات الزراعية غير العربية من سكان جبل مرة ضد تحالف عريض من الرعاة ذوي الأصول العربية. ويشير إلى أنه على خلاف الاشتباكات السابقة حول المياه والمراعي، فالنزاعات بعد 1985 أظهرت نزوعا منتظما للرعاة لاحتلال أراض في المنطقة الوسطى بجبل مرة مستخدمين أحدث الأسلحة، في نزاعات اتسمت بالضراوة والاستمرارية.
لم تكن هذه النزاعات هي الوحيدة التي دارت بين القبائل في دارفور، ففي الجدول رقم 5 في الكتاب والمعنون بالنزاعات القبلية في دارفور، يستعرض المؤلف تاريخ مؤتمر الصلح وأطراف النزاع، وكذلك الأسباب الأساسية للنزاع. من ذلك مثلا أن مؤتمراً انعقد للصلح في العام 1975 في نزاع الميدوب ضد الكبابيش بسبب سرقة الإبل، وفي العام 1968 في نزاع الرزيقات ضد المعاليا بسبب المراعي وسرقة الأبقار، وفي 1969 في نزاع الزغاوة ضد الرزيقات بسبب المرعى والماء وسرقة الحيوانات، وفي 1974 في نزاع الزغاوة ضد البرقيد بسبب الرعي والماء وسرقة الحيوانات، ويستمر الجدول في استعراض النزاعات في الأعوام التالية حتى العام 1990، ليشمل الحروب بين بني هلبة ضد رزيقات الشمال، وبين رزيقات الشمال وأم جلول والمهيريا والعريقات والعطيفات ضد بني هلبة والبرقيد والداجو والفور، وكذلك التعايشة ضد السلامات، ثم الكبابيش والكواهلة ضد الميدوب والبرتي والزيادية ، الخ الخ ، ثم أننا نجد الأسباب محصورة في ذات الأسباب: الرعي والماء وسرقة الحيوانات ودخول أراض واحتلالها.
يضيف المؤلف عاملا إضافيا ساهم في تأجيج الوضع بحسب وجهة نظره، وهو أن الفور كانوا قد طالبوا أحمد إبراهيم دريج حاكم دارفور (المنتمي للفور)، في أوائل الثمانينات، طالبوه بصد الرعاة الرحل الذين كانوا من الزغاوة، والذين قاموا كرد فعل على ذلك بطلب الدعم من ليبيا ومن الحكومة المركزية في السودان ومن بني عمومتهم في تشاد، وبذلك أخذ النزاع الطابع العرقي ذي الطابع الإقليمي العربي-الافريقي.
يورد المؤلف مصطلح "لعنة الموقع الاستراتيجي" لأرض قبيلة الفور مستعيرا هذا التعبير من الباحث شريف حرير، واصفا توثيقه للنزاع بالتوثيق البارع. وهو في ذلك يتفق مع حرير أن منطقة الفور بسبب تمتعها بثروات كبيرة نسبيا صبّت عليها لعنة نزوح موجات متتالية من الرعاة الرحل، وعندما بدأت المرحلة الثانية من النزاع في العام 1987 بمشاركة نحو 27 قبيلة عربية في تحالف " التجمع العربي" فقد كانت الحرب هذه المرة ضد الزرقة بمجملهم وليس الفور وحدهم، وظهرت وقتها مليشيات الجنجويد. وفي تقرير لمنظمة راصد افريقيا لحقوق الانسان في العام 1990، فقد كان الرعاة العرب يعطون مهلة يوم واحد لسكان القرى الفور كي يخلوها ويتركوها لهم. في النصف الثاني من ديسمبر 2023 اجتاحت قوات الدعم السريع مدينة ود مدني حاضرة ولاية الجزيرة في وسط السودان، ومن بعدها اجتاحت القوات قرى الجزيرة واحدة بعد الأخرى مستهدفين سرقة السيارات والذهب وكل شيء، راجت الأنباء بعد ذلك عن الفظائع التي ارتكبت، ولكن ما نود ذكره هنا للمقارنة أن القوات المهاجمة كانت تمهل السكان العزل في بعض القرى يوما واحدا للخروج من القرية وتركها للجنود للقيام بالسرقات، ذلك بالطبع غير ما وُثِّق من الانتهاكات الأخرى.
يرى المؤلف أن محاولات معالجة النزاع والتوصل إلى السلام فشلت لعدة أسباب ، ولكن أكثرها وضوحا هو إقصاء القيادات المحلية من مفاوضات السلام التي هيمن عليها المهنيون من المعلمين والمحامين والأطباء وغيرهم من أبناء المدن من طرفي النزاع، ويرى المؤلف أن "أولاد المدن" الذين تمسكوا في حججهم باستمرار بمفاهيم وشروط نابعة من القوانين الحضرية والغربية (كمفاهيم ملكية الأراضي مثلا)، قد قضوا وقتا طويلا في المناورات والاختصام حول أسس اقتسام السلطة السياسية في الحكومات المحلية والمركزية، إذ أنهم أكثر اهتماما بمصالحهم المباشرة من الاهتمام بالمصالح المشروعة لأهلهم في الريف، بل إنهم لا يترددون في توظيفها لصالحهم في كل فرصة سانحة.
الكتاب جدير بالقراءة والتدبر لفهم أفضل للصراع والنزاعات في دارفور، وفي ظل حرب أبريل الأخيرة وتمددها في السودان، تصبح لقراءة الكتاب أهمية أكثر في فهم السلوكيات والثقافات المحركة لهذه الجماعات والقبائل، مما يفتح نافذة للتفكير الجدي والعقلاني في ضرورة تبني الحلول الصعبة ولكن الضرورية لاستقرار منطقة السودان التي ظلت دوما ومنذ استقلال البلاد عرضة للتجاذب والحروب والصراع، من تلك الحلول بالطبع التخلي عن وهم قداسة خريطة الانجليز، الوهم الذي عشش في عقول الساسة والنخب الحاكمة في مفارقة واضحة لرغبات الشعوب السودانية، ومن ذلك أيضا الاعتراف بفشلنا في تحقيق شعارات الوحدة في التنوع وفي تقبل الآخر المختلف.

1- محمد سليمان محمد، السودان حروب الموارد والهوية، 1999، ص 382، مرجع رقم 36.
2- جولي فلنت، الحرب الأخرى-الصراع العربي الداخلي في دارفور، 2010.
3- منصور خالد، شذرات من سيرة ذاتية، ص 31.
4- منتصر الطيب إبراهيم، تجليات التناقل البشري ما بين الجين والميم ومقالات أخري.
5- حسين آدم الحاج، إشكالية العلاقة بين دارفور ووسط شمال السودان النيلي والكلام المسكوت عنه، سودانايل الالكترونية، 8 يناير 2009.
6- مقالات ومداخلات باسم أبنوس في منبر سودانيزاونلاين على الانترنت (أبنوس هو الاسم الترميزي للسيد يوسف عزت الماهري الذي كان يكتب به في منبر سودانيزاونلاين مرفقا صورته الشخصية).

wmelamin@hotmail.com

 

آراء