دار الوثائق القومية السودانية: “ما آفة الأخبار إلا رواتها”

 


 

 

(1)
تدفعنا الأخبار الكاذبة أو العارية من الصحة إلى اجترار المأثورة العربية "ما آفة الأخبار إلا رواتها"، وما أكثر الآفات في عهد هذه الثورة التكنولوجية ووسائط التواصل الاجتماعية، حيث يكثر التضليل في تداول الأخبار، وينشط الرواة المضللون، الذين لا يتحرون الصدق والتثبت في تدوين الأخبار ونشرها، وأحياناً يعضدونها ببعض المصادر التي تكسبها نوعاً من المصداقية. ومن الأخبار المضللة المتداولة هذه الأيام، خبر حريق دار الوثائق القومية بالخرطوم، والذي يقرأ نصه هكذا: "حرق دار الوثائق المركزية جريمة غريبة، فهذه الدار فيها جل أرشيف وتاريخ الأمة، ولا قيمة لها للصوص وقطاع الطرق، مما يدل أن ما يجري حالياً في الوطن تدمير ممنهج وليس نتاج الحرب والفوضى التي خلقت بعدها. اللاعبين الحاليين في معركة الموت والحرب والخراب والدمار في الغالب هم أدوات فقط يستخدمهم هذا اللاعب الخفي؛ لتدمير البنية التحتية للدولة، وتحطيم كل مواردها، وتهجير أهلها بخلق حالة فوضي ودمار لا يمكن التعايش معها، وافقارها من كل النواحي الأمنية والاقتصادية والبشرية، والآن عايز يحرمها حتى من تاريخها ووثائقها؛ لتاريخ الدولة الحديثة منذ الاستعمار وبعده. هناك من يريد السودان أرض موارد فقط ليستخدم عملاءه لنهبها دون ضوضاء أو ازعاج، وهناك من يخدمونه بإخلاص في هذا المسعي بوعي منهم أومن دون وعي، وده تدمير ذاتي حتى لكياناتهم أنفسها قبل دمار الوطن، وهم شركاء أصيلين فيه وحسبنا الله ونعم الوكيل." ثم ذُيِّل المقال بوسمٍ: "#اليونيسكو تناشد لإنقاذ دار الوثائق السودانية"، والرابط الإلكتروني الذي وضعه صاحب المقال، الذي حجب اسمه، هو: (https://bit.ly/3OqWLBE). إلا أن الرابط المشار إليه يقودنا إلى مقالٍ نشره أوستن كوبر (Austin Cooper) في صحيفة (The New Arab) الإلكترونية بعنوان: "Precious Sudanese university archives destroyed by fire and looting in Omdurman". وواضح من عنوان المقال والتفاصيل الواردة فيه أن المقصود بالحريق هي مكتبة مركز محمد عمر بشير بجامعة أم درمان الأهلية، الحريق الذي وصفه البروفيسور المعتصم أحمد الحاج، مدير الجامعة، بأنه "عمل مدمر، من شأنه أن يعصف بالإرث الثقافي والأدبي وتاريخ هذا البلد، ونخشى أن يمتد ليشمل مكتبات أخرى مهمةً، تقع داخل نطاق المواجهات المسلحة في الخرطوم ومدينة أمدرمان، وقد باتت ذاكرة السودان مهددةً بأن يمحوها هذا الصراع المتطاول".

(2)
وتأكيداً لهذا الخبر اتصلتُ ببعض الزملاء العاملين في دار الوثائق، الذين نفوا صحته، ولكنهم أكدوا أن الدار تقع في منطقة نزاعٍ مسلحٍ بين القوات المسلحة ومليشيات الدعم السريع. وعضَّد ما ذهبوا إليه الرسالة التي بعثها صديقي الأستاذ عثمان كباشي، مشرف غرفة الأخبار، بموقع الجزيرة نت الإلكتروني، والتي تفيد بأن فريقاً من مرصد بيم (www.beamreports.com/marsad) قد تحقق من صحة الصورة المنسوبة إلى حريق دار الوثائق القومية بالخرطوم، وأرجع مصدرها إلى حرائق غابات مدينة كانبرا بأستراليا عام ٢٠٠٣م، التي أفضت إلى حريق مكتبة جبل ستروملو (Mount Stromlo Observatory)، كما هو موضح في هذا الرابط الإلكتروني (https://bit.ly/3ol7Qtn).

(3)
خلاصة
يقودنا هذا الخبر المضلل عن حريق دار الوثائق القومية إلى ضرورة التأكد من صحة الأخبار المتداولة عن تداعيات الحرب الدائرة في الخرطوم؛ لأن نشر الأخبار المضللة منها يحدث بلبلة في أوساط الرأي، ويفضي أحياناً إلى ردود أفعالٍ سلبيةٍ. ثانياً، يجب التوعية بأهمية دار الوثائق القومية، التي تمثل ذاكرة الأمة السودانية، ويُقدر كم الوثائق الذي تحفظه وترعاه بثلاثين مليون قطعة وثائقية وأرشيفية، تقع في نحو مائتي مجموعة وثائقية وأرشيفية، تُغطى كل الحقب التاريخية في السُّودان باختلاف مناشطها السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية. ونذكر منها: مجموعة سلطنتي الفونج والفور، ومجموعة المهدية التي تقدر بثمانين ألف وثيقة، ومجموعة السكرتير الإداري، ومجموعة المؤسسات التشريعية ابتداءً بالمجلس الاستشاري لشمال السُّودان وانتهاءً بالمجلس الوطني، ومجموعة القصر الجمهوري، ومجموعة الغازيتة والصحافة السودانية، ومجموعة الماسونية، ومجموعة محمد عبد الرحيم، ومجموعة معاوية محمد نور، ومجموعة محمد إبراهيم أبوسليم، ومجموعة حاجة كاشف بدري. وأخيراً نسأل الله العلي القدير أن يحفظ السودان، وأهل السودان، وتراثهم الذي يمثل ذاكرتهم المرجعية.

ahmedabushouk62@hotmail.com

 

آراء