دردشة مع حفيد سلاطين باشا في دارفور
28 December, 2009
زيارة جديدة للتاريخ (1)
Kha_daf@yahoo.com
أبتسم الحاج آدم عمر أحد قيادات معسكر عطاش للنازحين في نيالا، حين عرف أن هذا الخواجة الأشقر الذي يجلس أمامه بقامته الفارعة هو حفيد سلاطين باشا.وقد أثار ذلك أستغراب الدكتور فاسيل آبن رئيس الوفد النمساوي الزائر ،ووزير الدفاع السابق وهو يلحظ أن الأبتسامة قد سرت عدواها في وجوه القوم وهم يصدرون همهمات المعرفة والفضول.إذ سرعان ما عرف قادة معسكر النازحين الذين أجتمعوا في قطية كبيرة أن مستر بول هو حفيد سلاطين باشا المشهور في تاريخ المنطقة الذي تولي حكم دارفور عام 1884، قبل أن يلقي عليه جيش المهدي القبض ويبقي أسيرا في أم درمان مدعيا الأسلام والأيمان بالمهدية الي حين فراره عام 1895.. وفي مكتب والي جنوب دارفور بنيالا قال الوالي آدم محمود بحركة درامية وهو يعرف للتو هوية الخواجة: إذا كنت أنت سلاطين باشا فأنا الخليفة عبدالله. ربما أعتري الوالي الخجل من أن ينادي ضيفه بأسم شويطين كما كان ينادي الخليفة عبدالله جده سلاطين وهو في جدر الأسر بأم درمان. توجهت بالسؤال الي المهندس بول سلاطين عن شعوره وأحساسه وهو يشاهد ردة فعل النازحين في أحد المعسكرات حين علموا بهويته وصلته بسلاطين باشا. فأجاب أنه توقع ردة فعل عدائية ولكنه أندهش لذلك الأحتفاء والحميمية إذ سرعان ما كانت تلك العلاقة مدخلا للترحيب به ، والأهتمام بزيارته علي نحو أنساني رفيع، كما أبدي أستغرابه لهذا الوعي التاريخي وهو يلاحظ أن أجيال النزوح والحرب والضياع ما زالت تدرك تاريخ جده في دارفور.
في الوقت الذي كان يزور فيه حفيد سلاطين باشا دارفور ضمن وفد سياسي نمساوي كانت هناك بعثة فنية نمساوية من شركة فيشر فيلم للأنتاج السينمائي تحط رحالها في الخرطوم لتصوير فيلم وثائقي عن حياة سلاطين باشا في السودان.لقد توفيت قبل عامين في لندن السيدة آن ماري الأبنة الوحيدة لسلاطين باشا، وجاء أبناؤها جورج ، و ألسكاندر وكارولين لتصوير مشاهد الفيلم في مواقعه الطبيعية في السودان. يقوم سيناريو الفيلم علي واقعة حقيقية ، وهي الخطاب الذي أرسله الخليفة بخط سلاطين الي أسرته في النمسا يدعوها الي زيارة السودان لتفقد أبنها والعيش معه في السودان.ما زال أصل هذا الخطاب في حيز الأسرة ، وستدور قصة الفيلم الدرامية حول هذا الخطاب .
لقد هاجرت أسرة سلاطين باشا من تشيكوسلوفاكيا في القرن السادس عشر الي النمسا التي كانت أمبراطورية قوية تفرض سيطرتها علي معظم القارة الأروبية.وولد سلاطين باشا ضمن شجرة الجيل الخامس لهذه الأسرة عام 1857. ومن ثم تلقي تدريبا في الجيش النمساوي في مجال المكتبات وحفظ الوثائق والكتب ومسك الدفاتر.سافر الي مصر شأنه شأن المغامرين الأوروبيين وعمره 17 عام ، فأقام فيها بعضا من الوقت ومن ثم ذهب الي السودان حيث زار سواكن ،الخرطوم ، كردفان ، الدلنج حيث مقر البعثة الكاثوليكية النمساوية في جبال النوبة، ومن ثم سار الي دارفور حيث كان يقيم أسماعيل باشا حاكم عام السودان في الفاشر حاضرة أقليم دارفور، إلا أن صدور مرسوم أداري في ذلك الوقت يمنع دخول الأجانب الي الفاشر قد حال دون بغيته، وذلك خوفا عليهم من ثورة عرب الحوازمة الذين رفضوا دفع الضرائب.فعاد الي الخرطوم ، وهناك إلتقي أمين باشا الذي توسط له لدي غردون باشا الذي كان حاكما عاما علي مديريات خط الأستواء . وعاد سلاطين الي النمسا وفاءا لطلب أسرته بعد أصابته بالحمي ولقضاء بقية فترة الخدمة العسكرية.وبعد ثلاث سنوات من عودته الي فيينا ، وعندما كان يخدم مع الجيش النمساوي في جبهة البوسنة تلقي خطابا عام 1878 من غردون يدعوه الي السودان ليعمل في خدمة الحكومة المصرية تحت أدارته.
هذه الدردشة مع حفيد سلاطين باشا تكشف عن أختلاف وجهات النظر في تفسير التاريخ ، وكنت حريصا في حواراتي معه علي معرفة رأي الشعب النمساوي وأسرة سلاطين عن فترة عمله في خدمة الأستعمار في السودان. الغريب أن أسرة سلاطين في النمسا تعتقد أن أبنها سلاطين باشا لم يكن جزءا من تجربة الأستعمار الأروبي لأفريقيا. لأنه جاء كما تعتقد وليست لديه سلطة عسكرية، بل ساعد غردون في ترتيب الأدارة المدنية عندما أسند إليه مهمة التفتيش المالي. يقول سلاطين في كتابه السيف والنار في السودان (عينني غردون مفتشا ماليا، وطلب مني أن أقوم بالتفتيش في المراكز، وأن أفحص شكايات السودانيين الذين كانوا يعارضون دفع الضرائب. ورفعت تقريري الي الجنرال غردون حيث أوضحت له أن الضرائب غير عادلة ، وأن معظمها يقع علي عاتق أصحاب الملاك الصغيرة ، أما كبار الملاك فكان من السهل عليهم أن يرشوا الجباة بمبالغ صغيرة فينجوا من الضرائب. وأبنت فضلا عن هذا النظام السئ ، أن الأهالي مستاؤون من الطرق الجائرة التي يتبعها جباة الضرائب ومعظمهم من الجنود والباشبوزق والشايقية، للحصول علي الثروة بأسرع ما يمكن علي حساب السكان التعساء الذين يخضعون لسلطتهم الوحشية). وعليه يزعم بول سلاطين حفيد سلاطين باشا أن جده ساهم في أرساء قواعد الخدمة المدنية في وقت مبكر ، ولم يكن مستعمرا بالمعني الحرفي للكلمة ، حيث لم يكن يملك سلطة عسكرية يقمع بها الأهالي ، بل كان ناقدا للنظام الضريبي، وحاول أن يعالج أختلالاته ، وأجراء أصلاحات حقيقية من خلال حماية صغار الملاك ، وأدخال كبار الملاك تحت المظلة الضريبية كما نقول بلغة اليوم التي كانوا يتهربون منها بالرشاوي. وقال سلاطين في كتابه أنه وقف علي تجارة البغاء في المسلمية حيث يؤجر كبار التجار بنات صغيرات في السن بمبالغ كبيرة ، وحار في كيفية فرض الضرائب علي هذا النوع من التجارة. وسرعان ما قدم سلاطين أستقالته من وظيفة المفتش المالي للجنرال غردون عندما فشل في أجراء أصلاحات ضريبية تحمي صغار الملاك لأنه يعتقد أن النظام المالي كان فاسدا بطريقة لا يمكن أصلاحها. وفق هذه الرؤية التي ساقها بول سلاطين دفاعا عن جده والتي دعمناها ببعض ما ورد في كتابه السيف والنار فأن سلاطين لم يكن مستعمرا ، بل كان مصلحا مدنيا ، وبيروقراطيا أمينا حاول أرساء نظام مدني للمعاملات المالية والضريبية بطريقة عادلة.
لقد طبع كتاب سلاطين باشا ( السيف والنار في السودان أكثر من 16 طبعة بلغته الألمانية الأصلية) ومن ثم ترجمه ونجت باشا حاكم عام السودان الي الأنجليزية. وقد عكفت دار البلاغ المصرية علي تعريبه من الأنجليزية وتمت طباعته ونشره عام 1930.
أنجز الأستاذ البحاثة ، والمؤرخ الثبت جمال الدين شريف سفرا عظيما عن الصراع السياسي علي السودان منذ عام 1940.وهو كتاب في غاية الأمتاع ، والأبداع سنتعرض له تفصيلا في الحلقات القادمة، لأنه أعاد كتابة تاريخ السودان الحديث علي نحو فيه كثير من الصدمات المعرفية، و كسر في ثنايا أسطره كثير من قداسة المسلمات التاريخية. يرد الأستاذ جمال الدين شريف الدافع الحقيقي لأعادة فتح السودان الي منع وقوعه في أيدي الفرنسيين الذين كانوا يهددون بالأستيلاء علي فاشودة ، في ظل التنافس الأروبي علي المستعمرات الأفريقية. من جانبه يري بول سلاطين أن كتاب جده ( السيف والنار في السودان) لعب دورا أساسيا في أقناع البرلمان البريطاني بأصدار قراره لأعادة فتح السودان نسبة لأهمية السودان الأستراتيجية حسب المبررات التي ساقها سلاطين في كتابه.
بعد الأسر، ظل سلاطين يراسل أسرته سرا وهو يدعي الأسلام والأيمان بالمهدية ، وقد دبرت له أسرته بعض المال للهروب ، وبالفعل أستطاع أن ينفذ خطته ، ولما بلغ النمسا، أستقبل أستقبال الأبطال، وظل يجوب أروبا يحاضر في عواصمها المتفرقة لمدة خمس سنوات عن مغامراته في السودان. وسيطرت قصة هروبه الكبير علي أخبار الصحف وأذهان الشباب والمغامرين ، وجمع أموالا طائلة من هذه المحاضرات. وعندما رافق كتشنر في حملة أعادة فتح السودان وضعه كتنشنر في الصف الثاني وليس الأول ، خوفا منه كارزميته ومعرفته بالسودان والقبائل. وظل سلاطين في قيادة الصف الثاني حتي دخول أم درمان. ويدافع بول عن جده قائلا أنه تولي التفاوض مع زعماء القبائل للتسليم بالوضع الجديد ، ومنعا لسفك الدماء.
لقد غادر سلاطين السودان قبل عام 1912 ، وعندما تقاعد عن الخدمة لم يمنحه الأنجليز معاشه لأنه ظل مقسما بين النمسا وبريطانيا. وعاش في النمسا حياة الشظف والتقشف، ولم يأبه لوجوده أحد. وبعد الحرب العالمية ، أعادت اليه بريطانيا أمواله ومعاشه ، وكرمته بريطانيا ، النمسا وبلجيكا وأنعمت عليه بالنياشين والأوسمة.
وفي مرضه الذي أقعده عن الحراك طلب منه عمدة فيينا أثناء الحرب، أستخدام علاقاته الواسعة في أروبا لأدخال الفحم ، والأطعمة ، و أستطاع بالفعل أن يكسر الحصار المفروض علي فيينا وأدخال المواد الضرورية. وقد أقامت له النمسا جنازة رسمية حضرها الرئيس النمساوي وعمدة فيينا وسار وراء نعشه خلق كثير. توفي سلاطين باشا عام 1932 أي بعد عامين من نشر كتابه باللغة العربية .
يعرف قاطنوا معسكرات النزوح في دارفور سيرة وتاريخ سلاطين باشا في السودان، في الوقت الذي يجهل فيه عامة الشعب النمساوي التاريخ الأستعماري لهذا الرجل في أفريقيا. لهذا يأمل المهتمون بأن يسلط الفيلم الوثائقي الذي يجري تصويره الآن في السودان الضوء مجددا علي سيرة سلاطين باشا الذاتية. يراه السودانيون جزءا من تركة الأستعمار الأروبي للسودان. ويدافع حفيده بول عن تاريخ جده في السودان حيث يري أنه لم يكن عسكريا فظا، بل كان مصلحا مدنيا ، وساعد في تخفيف غلواء الأستعمار ووضع أسس الحياة المدنية في السودان. ويقول بأن جده سلاطين أحب السودانيين وأنصفهم بموضوعية في كتابه السيف والنار في السودان. وسنري في تفاصيل الفيلم الذي يجري تصويره الآن أن أسرة سلاطين جاءت الي السودان أستجابة لدعوة الخليفة عبدالله بعد أن حرر خطاب الدعوة سلاطين بخط يده. لقد توفيت آن ماري الأبنة الوحيدة لسلاطين في لندن قبل سنوات خلت ، ولكن أبنها جورج يمثل دور جده سلاطين باشا في الفيلم الذي تدور أحداثه بالألمانية وسيترجم الي الأنجليزية والعربية. فهل يخفي الفيلم صورة سلاطين كما هي في أذهان السودانيين بأعتباره مستعمرا مخادعا أدعي الأسلام والمهدية وهو يضمر الأنتقام والشر فعاد مع جيش كتشنر مستعمرا تحت راية جديدة. أم أنه فعلا أحب السودانيين ، وخفف من غلواء الأستعمار البريطاني ، وقام بأدوار كبيرة في تأسيس الحياة المدنية في السودان ، وبذل جهودا في الأصلاح الضريبي والمدني ، وتولي التفاوض مع زعماء القبائل تجنبا لسفك الدماء بعد كرري.
(نقلا عن الأحداث)