دعوة إلى مشروع التواضع الوطني: تواضعٌ على التواضع

 


 

 

أجد نفسي مستعداً لبذل كل غال ونفيس لأثبت أن الإذلال الذي نعيشه الآن، من قتل وتشريد ومسغبة، أحد أسبابه اعتقادنا، الواضح أو المستتر، بأننا أفضل من يمشي على الأرض: أكرم الناس، وأشجع الناس، وأفضل الناس!
هذا الاعتقاد لا يجلب إلا الذلة لكل من يدّعي الإيمان. فهو يناقض أولي شروط الإيمان.
من كفر بالله، ثمّ تكبر في الأرض وتجبّر كما يشاء، سيملي له الله لبعض الوقت ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر.
لكن إياك ثم إياك أن تدّعي أنك عبدٌ خاضع لله، ثم تتكبر!
هنا، سيعجل الله لك بالعقاب لعلك تتذكر أو تخشى فترجع متواضعاً خاضعاً لربك!
يقول ربنا، سبحانه وتعالى، إنّ عباده يمشون على الأرض هوناً فلماذا نريد نحن أن نمشي على الأرض مرحاً؟ أو ليس المرح هو إحساس الإنسان بأنه أعظم من يمشي على الأرض؟ وأنه الأفضل والأكرم والأحسن إسلاما؟
إنْ كنتَ حقاً من "عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا" فلن تقابل مخلوقاً على وجه الأرض إلا وتواضعت له، حتى ولو كان كلباً أجرب، أو كان تراباً تمشي عليه بقدميك. فلعلّ هذا الكلب لم يُغضب ربه، وأنت ربما أغضبت ربك! أو ليس من أغضب ربه يصبح كالأنعام بل أضل سبيلا؟ أو لا يقول الكافر يوم القيامة يا ليتني كنت تراباً؟
ثم بماذا نحن أفضل أهل الأرض؟
أبجيشنا الذي يحارب داخل المدينة ويقصف المواطنين بالطائرات؟
أم بدعمنا السريع الذي طرد المواطنين واحتل بيوتهم؟
أم بتجار الأزمات وصنّاع الغلاء والندرة؟
أم بجموع الناهبين والناهبات في الأسواق والمخازن؟
ألم نصبح عالة على الأمم؟ ألم يصبح قادتنا أذلة يوبِّخهم قادة الأمم الأخرى قائلين لهم: أوقفوا الحرب على شعبكم!
إن هذا الاعتقاد الأجوف بالتفوق جعلنا لا نمشي على الأرض هونا. فخرجنا من العبودية الحقة لله عز وجل، رغم صلاتنا وكثرة مآذننا.
لقد أصبح الكثيرون منا لا يستطيعون العيش إلا من خلال الإحساس بالتميز والتفوق. وهذا هو سر السعي المحموم إلى المناصب، والجري وراء اكتساب الألقاب العلمية حتى ولو من دون شغف حقيقي بالعلم، والحب الجنوني لوضع النياشين والنجوم العسكرية على الصدور والأكتاف، حتى تناسلت الحركات المسلحة، والأحزاب، والتجمعات القبلية وغيرها، وما الهدف من وراء كل ذلك إلا طلب الشهرة والسمعة، والعياذ بالله.
وبعد أن أصبح شعار الكل "السمعة ولا طولة العمر"، ها نحن قد شانت سمعتنا وقصرت أعمارنا!
ولا يستهدف حب التميز الآخر (الأجنبي) فحسب، بل يستهدف الجميع في الوطن، والدين، والقبيلة، والمنطقة، والمهنة، والحي، ولا يزال يتناسل ويتوسع مثل المرض حتى يصل إلى التناحر بين الجارين، وبين الزوجين، وبين الأخوين. فالكِبْر نار لا تنطفئ حتى تحرق كل شئ.
ولما كان الكِبْر هو أصل جميع الشرور، فيجب ألا نضيع الوقت في تعداد مظاهر السلوك السلبي الكثيرة التي تفشت في مجتمعنا، في الريف والحضر، فجميع الذنوب والآثام تخرج من تحت عباءة التكبّر: الغش، الكذب، خيانة الأمانة، السرقة.... فكل هذه وسائل لتحقيق "الأنا" المتضخمة لدى الفرد.
ما هو الحل؟
الحل في أَّلا نحس بالحاجة إلى أن نكون أعظم من يمشي على الأرض، بل أن نكون أتقياء لله وكفى. يقول لنا ربنا إن أكرمكم عند الله أتقاكم، والتقوى محلها القلوب ولا يعلم حقيقتها إلا علام الغيوب. وبالتالي لن يحس التقي الحق بأنه أعظم من يمشي على الأرض.
الحل في ألا نحس بالحاجة إلى وطن نفخر به، بل إلى وطن يعف أبناؤه وبناته عن الفخر والمباهاة.
ليس من أجل الفخر تُبني الأوطان، بل من أجل الحياة وكرامة الإنسان.
.
إنها دعوة عامة أوجهها بصورة شخصية إلى كل مواطني ومواطنات السودان، بل إلى الناس في جميع البلدان،
وأخص بها إخوتي وأخواتي،
وأبنائي وبناتي،
وزملائي وزميلاتي،
وطلابي وطالباتي
دعوة إلى #مشروع التواضع الوطني: تواضعٌ على التواضع.
يقوم المشروع على ركيزتين أساسيتين:
١/محاربة الإحساس بأنني أو أننا أفضل من أي أحد أو أمة، واعتزال كلمة الفخر تماما، وجعل التواضع هو أسمى وأعظم ما نسعى إليه، وأن نفهم من قوله صلى الله عليه وسلم "من تواضع لله رفعه" أن من تكبر أذله. وبذلك يصبح القصد من أي عمل وأي مسعى هو تحقيق منفعة الناس ونيل رضى الله عز وجل، وليس إثبات التفوق والتميز والسمعة والشهرة، أي التفاخر.
٢/قبول الحق مهما كان وأيا كان قائله، والانصياع للحق بدون غضب، أو جدل، أو تبرير، أو أي محاولة للتخفيف.
شعورك بأنك لست أفضل من غيرك يفضي بك إلى السلام الداخلي، وإلى المصالحة مع نفسك ومع غيرك، ويصبح كل مسعاك وعملك ليس من أجل التميز والسمعة، بل من أجل إعمار الأرض ورفاه الإنسان.
لا يمكن أن تقوم المحبة بين أفراد مجتمعٍ يظن كل فرد فيه أنه أفضل من الآخر. هذا هو سبب جميع الحروب. فالحروب لا تندلع بين الجيوش إلا بعد أن تجف قلوب الناس من المحبة، وتمتلئ بالكبر والاحتقار، فترخص الدماء، وتقسو النفس فلا تعود تهتم بمعاناة الناس.
الحل، لنا ولسوانا، في التواضع، فهو أعظم قوة حباها الله للبشرية، بها يرتفعون، وبغيابها يسقطون في الحضيض.
اللهم ارفع البلاء، واكشف الغمة، وردنا إليك مردا جميلا، وارفعنا اللهم بالتواضع، رفعةً لا ذلة بعدها.

elrayahabdelgadir@gmail.com
/////////////////////////

 

آراء