دكاترة وبروفيسرات في الدين (2) !!

 


 

 

المركز الإسلامي بالسودان للدعوة والدراسات المقارنة والهجوم الجائر على الفكرة الجمهورية

المقالة الثانية

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

خالد الحاج عبد المحمود

الحلقة (1)

لقد رأينا في المقالة الأولى، ما اذاعه بعض الفقهاء من اقوال ضد الاستاذ محمود، وضد دعوته.. ولقد ركزنا على اقوال بروفيسر عبدالاله كنة، على اعتبار أنها كانت بداية حديث هؤلاء الفقهاء.. والقضية الاساسية لموضوعهم، حسب قولهم نقد كتاب (الرسالة الثانية من الاسلام).. فقد جاء في اول فيديو لهم، قولهم: "هذه السلسلة التي تتناول كتاب الرسالة الثانية من الاسلام .. رؤية نقدية تحليلية.. وهو كتاب مؤلفه محمود محمد طه" وكما راينا لم يتعرض هؤلاء الفقهاء قط لكتاب الرسالة الثانية.. كما لم يتعرضوا قط لمفهوم الرسالة الثانية، وكان هذ امر مدهش في غرابته.
القضية الثانية التي زعموا انهم سيتناولونها، هي دعوة الاستاذ محمود محمد طه، حسب قولهم.. فهم قد قالوا: " المذهبية الاسلامية البناها محمود محمد طه لابد نحن نعرف مصادر المعرفة عنده"، ولم يتعرضوا قط لدعوة الاستاذ محمود ولا لمصادر المعرفة عنده.. ففي جميع فيديوهاتهم التي اذاعوها، وتحدث فيها بروفيسر كنة، ود. اسماعيل صديق عثمان، غيبوا تماما كتاب الرسالة الثانية، وموضوع الرسالة الثانية، كما غيبوا دعوة الاستاذ محمود الى طريق محمد (صلى الله عليه وسلم).. ومصادر المعرفة لهذه الدعوة.. هم غيبوا تماما كل ما اعلنوا انهم سيتناولونه في حديثهم.. كل الذي تحدثوا عنه، فيما تناوله بروفيسر كنة، ومن بعده د. اسماعيل صديق، هو ان الاستاذ محمود لم يتلق أي تعليم ديني نظامي في مؤسسة تعليم ديني، ولا هو صوفي له شيخ.. وقد تناولنا موضوعهم هذا في المقالة الاولى.. كما تعرضنا بالحديث عن المركز الاسلامي للدعوة والدراسات المقارنة.
ونحن هنا سنعقب على ما اذاعه د. اسماعيل صديق، مما لم يرد في مقالتنا الاولى.. فالجزء المشترك بين الرجلين، تناولناه في المقالة الاولى.. ونحن يعنينا فقط ان نعرض الأسلوب الذي تناولوا به الفكرة، لنرى كيف انه مفارق لجميع اسس البحث العلمي الموضوعي، ومفارق لقيم الدين ولذلك سنكتفي بعرض نماذج، وما لم نعرضه جرى بنفس الاسلوب، الأمر الذي يغنينا عن التكرار.
ركز د. اسماعيل صديق على مفهوم الإنسان الكامل، ومفهوم وحدة الوجود.. وكان حديثه اسوأ، من حديث صاحبه كنة، بكثير جداً.. فقد اعتمد على بتر النصوص وتشويهها بسوء الاخراج، وتغيير المعاني، الى الحد الذي يورد فيه النصوص المتعلقة بالعبودية، وادب العبودية، ليقول عنها أنها ادعاء ربوبية.. وهذا تقريبا كل الخط الذي سار فيه، والاسلوب المنحرف والملتوي الذي بنى عليه.. فكل ما قاله هو عبارة عن تكفير للاستاذ محمود والجمهوريين، عن طريق تحريف القول، بالصورة التي أشرنا اليها، وسنذكر نماذج اساسية لها.. هذا مع ملاحظة انه في بداية اقوالهم زعموا انهم سيبعدون عن موضوع التكفير.. فقد جاء في هذا الصدد قولهم: " ونحن في نهجنا في تناول هذا الكتاب ما حندخل في جدليات كفر او اسلام محمود محمد طه.. ولا خطأ او صواب ما ذهب اليه من آراء، نحن فقط حنناقش المنهجية بتاعت محمود محمد طه...".. وكل هذا كذب، فهم لم يفعلوا غير التكفير، ولم يناقشوا أي منهجية او محتوى.

مقدمة

قبل الدخول في التعقيب على د. اسماعيل صديق، الشديد التهافت، سنبدأ بمقدمة عن تصورنا للتوحيد، ولطبيعة الوجود والطبيعة الإنسانية، حسب التوحيد، وسنجعل هذا الحديث الخلفية التي سنعرض عليها مفارقات د. اسماعيل صديق.

التوحيد وطبيعة الوجود

الاسلام كله يقوم على (التوحيد).. والتوحيد مفهوم عرفاني سلوكي.. ففي جانبه العرفاني يقوم على معرفة الله.. اما في جانبه السلوكي، فيقوم على الكيفية العملية لتحقيق هذه المعرفة.. ففي هذا الجانب التوحيد صفة الموحِد (بكسر الحاء).. فالله تعالى من حيث ذاته واحد، ولا يحتاج لمن يوحده.. ولكن نحن البشر منقسمون، كل واحد منّا منقسم الى ظاهر وباطن.. الى جسد وروح.. والمطلوب ان نوحد ذاتنا حتى نعرف الله.. وهذا هو منهج الدين الاساسي، والوحيد.. فالمعرفة في الدين، تقوم على التقوى، والتقوى علم، وعمل بمقتضى العلم.. وهذا العمل هو الذي يكسب معرفة الله..يقول تعالى: "وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ".. فالاسلام بهذا المعنى دين عمل.. والعلم الذي يكون عليه العمل، علم بسيط جدا، هو علم ما لا تصح العبادة الا به.. وهذا العمل نفسه، يؤخذ عن المعصوم بالكيفية (صلوا كما رأيتموني اصلي).
المرجعية الاساسية للإسلام هي (القرآن).. والقرآن هو كلام الله.. ولكن الله تعالى لا يتكلم بجارحة مثلنا، لا يتكلم بلسان او لغة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً.. فالقرآن بين دفتي المصحف، انما هو كلام الله، بمعنى ان الكلام صُبَّ في قوالب اللغة العربية.. يقول تعالى: " حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ".. فهو قد جُعل عربياً بعد أن لم يكن، لعلة ان نعقل نحن الذين نعقل عن طريق اللغة.. فالقرآن بين دفتي المصحف هو تنزل: " وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا" .. أي تنزيل بعد تنزيل.. اما كلام الله في الحقيقة فهو احداث الوجود، فالله تعالى يكلمنا بهذه الاحداث.. ولكن لصعوبة أن نفهم لغة الاحداث في الكون، انزل الله الينا القرآن باللغة العربية، من اجل ان نقيم الصلة به تعالى فندرك ما يحدثنا به.. وسيلة هذه الصلة العبادة (الصلاة صلة بين العبد وربه).. واذا لم تقم هذه الصلة، لن تكون هنالك معرفة بالله، من الله، وهذا هو معنى قوله تعالى: "وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ".. فالله تعالى، في الحقيقة، هو المعلم الوحيد في الوجود، وهو معلم لكل الخلائق، ولكل العلوم..
الله تعالى في ذاته مطلق، والاطلاق يتعلق بالوجود وبالكمال.. فهو تعالى مطلق الوجود، ومطلق الكمال، لا يلحق به العجز او النقص او المحدودية، في أي صورة من الصور.. فبسبب هذا الاطلاق، لا يمكن معرفة الله عن طريق العقل.. فمن اجل المعرفة تنزل تعالى من اطلاقه الى المحدودية، فخلق الخلق، فنحن نعرفه تعالى بخلقه.. فمعرفته تعالى تقع في مستويين: معرفة حق، ومعرفة حقيقة.. اما معرفة الحق فهي معرفة الله تعالى بخلقه.. وهذه سبيلها العقول.. فمن دون العقول من المستحيل معرفة الله.. وبالعقول من المستحيل معرفة الله معرفة حقيقة – معرفة ذات الله.. فمعرفة الذات مجالها القلوب، وسيلة المعرفة الوترية، (ما وسعني ارضي ولا سمائي وانما وسعني قلب عبدي المؤمن).. والسعة هنا سعة معرفة، وهي شهود ذاتي.. وحتى الشهود الذاتي، صورة من المعرفة، تمتنع فيها الاحاطة، امتناعاً تاماً.. وهذا موضوع اساسي في التوحيد، بل هو الموضوع الاساسي.. من المستحيل ان يحيط العبد بمعرفة ذات الله، وهذا سرمداً.. فدائما معرفة الله معرفة نسبية، فيها ما يغيب عنّا اكثر مما نعرفه.. وهذا امر يلحق بالبداهة، فمن المستحيل ان يحيط المحدود بالمطلق، والا اصبح المطلق محدوداً.. هذا عن المعرفة خلِ عنك التخلق.. فنحن قد امرنا ان نتخلق بأخلاق الله، وهذه هي غاية الدين.. يقول المعصوم: "تخلقوا بأخلاق الله أن ربي على سراط مستقيم".. ويقول تعالى: " كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ".. قوله (تخلقوا بأخلاق الله) يفيد ان الأخلاق المعنية هي كل أخلاق الله، وليست جزءاُ منها.. وكما ذكرنا، الله تعالى ذات – حقيقة، وتنزل – حق.. فمن المستحيل ان نتخلق بأخلاق الذات، لأنها مطلقة، وهي فوق العبارة والاشارة ولا تدركها العقول.. فلم يبق إلا ان نتخلق بالتنزل، أخلاق الحق، وهذه هي منطقة الاسم (الله).. وهذه الأخلاق لكي نعرفها ونتخلق بها، جاءت في القرآن.. فتخلقوا بأخلاق الله، تعني تخلقوا بأخلاق الله كما وردت في القرآن بين دفتي المصحف.. وهذه الأخلاق جسدها المعصوم صلى الله عليه وسلم، فقد كانت أخلاقه القرآن، كما قالت السيدة عائشة.. فمن الناحية العملية، التخلق بأخلاق الله، هي التخلق بأخلاق المعصوم، الذي جسد أخلاق الله في حياته.. من اجل ذلك فإن دعوتنا الى طريق محمد (صلى الله وسلم).. دعوتنا الى التخلق بأخلاق المعصوم، كوسيلة للتخلق بأخلاق الله - الاسم - بالمعنى الذي ذكرناه اعلاه.. وهذا مجال السير فيه سرمدياً، ولا انتهاء له.. والتخلق بأخلاق الله هو تحقيق العبودية لله.. فالعبودية هي تكليفنا الاساسي، ووسيلتها العبادة.. والعبادة طرف من العبودية.. العبودية روح العبادة.. واي عبادة، خالية من العبودية، هي جسد بلا روح.. في ام الكتاب، قوله تعالى: (اياك نعبد)، عبادة.. و(واياك نستعين)، عبودية.. بمعنى ما عبدناك إذ عبدناك إلا بتوفيقك لنا.. فإي عبادة، دون (واياك نستعين) هي عبادة باطلة.. هي ادعاء ربوبية – ادعاء ، لأنها تعني اننا نعبدك بارادتنا وقدرتنا.. وفي الحقيقة، نحن لا يمكن ان نعبده، إلا بتوفيقه لنا.. من اجل ذلك كل عبادة لكي تكون صحيحة، لابد ان تقوم على العبودية.. والسير في العبودية سير سرمدي لا انتهاء له، للاعتبار الذي ذكرناه.. هذا هو تكليفنا الاساسي، العبودية لله، ومجال كمالنا الاساسي، فنحن نكون كاملين بقدر تحقيقنا العبودية.
من الافضل ان نلخص الموضوع في نقاط حتى تسهل متابعته.. هنالك مفتاح اساسي لفهم الوجود ولفهم القرآن.. هذا المفتاح هو موضوع المثاني، في الوجود وفي القرآن.. يقول تعالى: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ".. فالقرآن كله مثاني.. يعني معنيين معنيين، وكل شيء فيه هو مثاني.. وهذا لسبب بسيط وواضح، هو ان القرآن كلام الله، طرفه البعيد عند الله في ذاته، وطرفه القريب هو عند العبد.. ولا يمكن ما يفهمه العبد من القرآن، هو نفس ما عند الله.. فما يفهمه العبد هو تنزل الى مستواه، وهذا هو معنى (انزلناه، ونزلناه)، يعني نزلناه الى مستوى ادراك العقول.. ومن ادنى مستويات الادراك، تسير العقول نحو ما هو عند الله.. وما عند الله لا يستنفد.
1. الاصل في الوجود هو الذات الالهية المطلقة.. وما الخلق – المحدود – إلا مظهر للذات المطلقة.. بهذا المعنى الوجود واحد هو وجود الذات الالهية.. يقول الحديث "كان الله ولا شيء معه" وهو على ما عليه كان.. فلا شيء يتغير فيما يتعلق بالذات – فهي مطلقة: كانت، ولا تزال، ولن تنفك- فهي الثابت الوجودي الوحيد، وكل ما عداها متغير ولن ينفك.. فالذات اطلاقها اطلاق وجود واطلاق كمال.. ومعرفتها كما ذكرنا تقع في مستويين.. مستوى معرفة حقيقة، ومستوى معرفة حق او شريعة.. فالله تعالى من حيث ذاته (هو الاول والآخر، والظاهر والباطن).. هو الاول بمعنى انه ليس مسبوقاً بشيء قبله.. وهو الآخر، بمعنى انه ليس ملحوقاً بشيء غيره.. وهو الظاهر بكل شيء، والباطن وراء كل شيء.. فهو تعالى وحده الموجود بذاته.. فالوجود في اصله وجود واحد، هو وجود الذات الالهية.. ولكي يعرف خلق تعالى الخلق، ليعرف بالخلق ، جاء في الحديث القدسي: "كنت كنزاً مخفياً، فأحببت أن اعرف، فخلقت الخلق، فتعرفت اليهم، فبي عرفوني".. فنحن نعرف الله تعالى بعقولنا، كما ذكرنا، وهي لا تعرف الآشياء إلا بأضدادها، ومن اجل ذلك معرفتها معرفة حق، معرفة تنزل، ويستحيل في حقها ان تعرف الذات، لأنها وحدة.. الله تعالى لم يخلق الخلق من شيء معه، إذ لا شيء معه، وانما خلقهم من ذاته.. وهذه نقطة هامة جدا في التوحيد.. فالخلق هم ارادة الله تجسدت.. وارادة الله عند التناهي ليست غيره، وانما هي عين ذاته!! الله تعالى ليس مثلنا، فكل شيء وكل صفة بالنسبة له هي قديمة قدم الذات.. فالارادة لم تكن غير موجودة ثم لحقت بالذات، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.. بهذا المعنى الخلق ليسوا اغيارا!! ليسوا شيئاً اضيف الى الخالق!! فهو الآن على ما عليه كان.. فالوجود في حقيقته واحد، هو وجود الذات الالهية، وما التعدد وعلى رأسه الثنائية الا تنزل من الوحدة.
بالخلق ظهرت الثنائية.. الخالق والمخلوق.. وظهر وجود الحق.. وهو وجود حادث، ومظهر للوجود القديم.. وبذلك اصبح هنالك الوجود المطلق، وجود الذات.. وهذا وحده هو الوجود الحقيقي.. والوجود المحدود، وجود الخلق.. فالخلق، ليس له وجود مع الله، وانما هو موجود بالله.. الذات اصل في الوجود، والخلق فرع ومظهر للذات.. ومن هنا جاءت كل الاصول والفروع، في الوجود.. فما يتعلق بالذات هو دائما اصل، وتمتنع فيه الكيفية، لأن الكيفية تتعلق بالعقول، وهي في منطقة التعدد الذي اعلاه الثنائية.. اما الذات فهي فوق مستوى ادراك العقول: كانت، ولا تزال، ولن تنفك.. من اجل ذلك قال المعصوم: " تفكروا في خلق الله، ولا تتفكروا في ذاته فتضلوا".. وجاءت العبارة كلما خطر ببالك فالله تعالى خلاف ذلك".. فالله من حيث ذاته، لا يعرف ولا يوصف ولا يشار اليه، ولا يلحق به النقص في أي صورة من الصور، ولا المحدودية.. يقول تعالى: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ" .. وهذا هو الاختلاف الأساسي بين الخالق والمخلوق.. الخالق غني، ولا يلحق به النقص في أي صورة من الصور.. والمخلوق، في حاجة دائمة وسرمدية للخالق، ولا يستطيع ان يستغني عنه ولو للحظة.. وهذا هو معنى (القيومية)، فالله تعالى قيم السماوات والارض، لا شيء على الاطلاق الا ويقوم به تعالى.. فقيومية المخلوق بالله، لا بذاته.. وجوده من وجود الله، وليس له وجود من ذاته.. فالوجود واحد، للذات الالهية، وهذا اصل التوحيد، وكل مستويات التوحيد الاخرى تتبع له.. فالحي واحد هو الله في ذاته، وكل حي آخر حياته من حياة الله.. والعالم هو الله في ذاته، وكل عالم آخر علمه من علم الله، الذي لا علم غيره.. والمريد واحد هو الله تعالى في ذاته، وكل مريد آخر ارادته من ارادة الله، ولا ارادة له من ذاته.. وهكذا في جميع الصفات
2. الذات الالهية هي الثابت الوجودي الوحيد.. وكل ما عداها، وكل من عداها، ليس له ثبات، وإنما هو في حركة دائمة، لا تهدأ، ولن تهدأ.. والحركة في الوجود الحادث، الحسية منها، والمعنوية، غايتها واحدة هي الرجوع الى اصلها، الى الذات الالهية.. والحركة قانونها الذي يسيرها، هو القانون الطبيعي.. القانون الطبيعي في الاسلام هو الارادة المتفردة، وهي تقوم على المعاوضة: "فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه".. ومن هذا القانون الطبيعي، جاء قانون الشريعة الذي يخاطب العقول، ليسوقها الى عتبة الذات.. على ذلك – كل الفروع، التي سنتحدث عنها، متحركة تطلب اصلها.. وفي هذا يجيء قوله تعالى: " وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَععونَ" فكل الفروع، وهي في منطقة الخلق - منطقة الحق – راجعة الى اصلها، عن طريق الفناء او الهلاك.. (كل شيء هالك ألا وجهه) الوجه هنا يعني الوجه الذي يلي الله من الخلق، وهذا باقي بقاء نسبياً، والوجه الآخر هو ذات الله، وهذا باقي بقاء مطلقاً.. فالحقيقة الاساسية هنا، ان الوجود الحادث وعلى رأسه الإنسان، راجع الى الله.. هو من الله صدر واليه يعود.. وهذا الرجوع بالطبع ليس في الزمان والمكان، لأن الله في ذاته لا يحويه الزمان ولا المكان.. فلم يبق الا ان الرجوع هو قرب من الله.. هو قرب صفات المخلوق، من الخالق.. وهنالك الكثير الذي يمكن ان يقال، في هذا الصدد بالنسبة للإنسان.. فالدين، كل الدين، يقوم على مبدأ أن الإنسان من الله صدر، واليه يعود.. وهذه العودة هي تكليفنا الاساسي، هي تقريب الصفات من الصفات، التخلق بأخلاق الله، عن طريق تحقيق العبودية لله.. وتحقيق ادبها.. هذه كل قصة الدين، وبالطبع هنالك تفاصيل كثيرة في هذا الموضوع.
3. مما تقدم، الاصل في الوجود الوحدة، والفرع هو التعدد، وعلى رأسه الثنائية.. وحركة الرجوع الى الله، هي حركة في الخروج من التعدد، الى الثنائية، الى الوحدة.. ولأن الذات مطلقة، فإن هذه الحركة، وهي العبودية، السير فيها سير مطلق لا انتهاء له.
4. أوّل التنزل للوجود الحادث هو الى منطقة الاسم.. الله تعالى اختار لنفسه اسما، هو في القرآن وفي اللغة العربية (الله).. فكلمة (الله) هي تنزل من الذات ولا يمكن أن تكون هي عين الذات.. وهذا يعني انه حسب مثاني القرآن، كلمة (الله) ذات معنيين، وفي نفس الوقت.. المعنى البعيد هو الذات، والذات بطبيعتها المطلقة فوق الاشارة وفوق العبارة..اما المعنى القريب لله، فهو التنزل الى مقام الاسم والتنزل الى مقام الاسم (خلق)، ويشار اليهما بنفس الكلمة (الله).. وانما يقع التمييز عند من يملكونه، بالمعاني التي تدور حول الكلمة.. فكل معنى يفيد المحدودية، او العجز، او النقص، فهو في حق الاسم (الله)، التنزل، ومن المستحيل ان يكون في حق الذات.. ما يكون في حق الذات هو ما يجل عن النقص وعن المحدودية وعن الحاجة، وهذا لا يمكن ان يكون الا في اطار الاشارة- فكلما خطر ببالك، فالله تعالى من حيث ذاته بخلاف ذلك.. هذه منطقة مهمة جدا في التوحيد.. ومعظم صور الشرك تقع في اطارها!!
5. الاصل في الوجود، هو الخير، والخير المطلق.. وما الشر إلا فرع من الأصل، ومظهر له.. والشر، مثل كل الفروع، فاني، ولا يبقى الا الخير.. ولقد سبق ان ذكرنا ان معنى فاني انه متحرك ومتغير يطلب اصله.. فالشر في حالة طلب دائم للخير.. ووظيفة الشر الاساسية، هي سوق المحدود نحو المطلق.. فالشر، وجنود الشر جميعا موظفون لخدمة الخير، الذي هو اصلهم.
6. كما ان اصل الوجود واحد هو الذات الالهية، فكذلك اصل الارادة واحد هو الارادة الالهية.. فالمريد في الوجود واحد هو الله في ذاته، وكل مريد سواه ارادته من ارادته تعالى، فهي ارادة محاط بها.. وهذا يتبع بالضرورة من وحدة الوجود.. فطالما ان الموجود واحد، فيتبع ان المريد واحد.. وقد سبقت الاشارة الى هذه النقطة، ونحن نعيدها هنا لأهميتها، إذ عليها يقوم معنى كلمة التوحيد (لا اله إلا الله).. فهي تعني: لا فاعل لكبير الأشياء ولا صغيرها الا الله.. هذه هي وحدة الفاعل، وهي خير ما جاء به الدين، يقول المعصوم: "خير ما جئت به أنا، والنبيون من قبلي، لا إله إلا الله"، وإنما تاتيها هذه الفضيلة، من قيمتها التسليكية.. فسلوك الإنسان الى ربه، في جميع اكوان الإنسان: في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة، وفي الجنة، وفي النار، وفي السرمد بلا اله الا الله..
7. الحياة هي الأصل، وهي واحدة، حياة الله تعالى في ذاته.. والموت فرع ومظهر للحياة، وهو لا يختلف عنها اختلاف نوع، وانما اختلاف درجة.. في الواقع، كل الفروع، لا تختلف عن اصولها إلا اختلاف درجة.. وكما ذكرنا، الحياة التي هي أصل، هي حياة الله في ذاته، وكل حياة أخرى هي مظهر لها ومستمدة منها، وتقوم عليها.. وعلى هذا ليس في الوجود الحادث شيء غير حي.. المادة غير العضوية حية، ولكن حياتها كامنة فيها، ونحن في اصطلاحنا لا نسمي الشيء حياً، إلا إذا ظهرت فيه الحياة.. ولكن الحياة لم تظهر من غير المادة..
8. الروح هي الاصل، والمادة مظهر وفرع لها.. والاختلاف بين المادة والروح، هو اختلاف درجة، هو اختلاف في درجة اللطافة.. الروح هي مادة لا تتأثر بها حواسنا، والمادة هي روح تتأثر بها حواسنا.
البيئة، بيئة روحية، ذات مظهر مادي.. والتكليف في العبودية يقتضي التواؤم مع البيئة في مستوييها: المادي والروحي
9. قانون المعاوضة في الحقيقة هو الاصل الذي يسير جميع الوجود.. وقانون المعاوضة في مستوى الشريعة هو القانون الذي يسير العقل المكلف.. عن طريق قانون المعاوضة في الحقيقة برزت المادة العضوية من المادة غير العضوية.. وبهذا البروز ظهرت (ارادة الحياة).. وقانون ارادة الحياة هو، طلب اللذة بكل سبيل، والفرار من الالم بكل سبيل.. ثم بفضل الله، وبفضل صراع الحياة، برز الإنسان، وتطور الى أن بلغ مرحلة (العقل المكلف)، وفي هذه المرحلة ظهرت الى جانب (ارادة الحياة)، (ارادة الحرية).. وارادة الحرية مستوى جديد من الحياة يتعلق بالإنسان.. ولتوجيه الحياة في مستوى ارادة الحرية، جاء قانون المعاوضة في مستوى الشريعة، وهو قانون الروح.. ويقوم على شريعة الحلال والحرام، ويتوجه بخطابه الى العقل ليقيده بقانون يحاول مصاقبة قانون المعاوضة في الحقيقة.. وقد ظل هذا القانون يتطور، بتطور الفرد البشري، والمجتمع البشري.. وهو يستند في تطوره على التعلم بالتجربة في الخطأ والصواب..
10. النعيم هو الأصل، والعذاب فرع ومظهر.. ووظيفة العذاب هي أن يسوق الى اصله - النعيم.. يقول تعالى: " مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا " العذاب مرحلي، وهو فان.. والنعيم دائم وباقي، واليه صيرورة كل مخلوق، بعد ان يستوفي حظه من العذاب الذي تحتاجه نفسه للتعلم.
11. القرآن بين دفتي المصحف اصول وفروع.. الأصول قامت عليها حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فهي سنته.. والفروع قامت عليها الشريعة التي نظمت المجتمع المؤمن في القرن السابع الميلادي.. وكما ذكرنا محمد (صلى الله عليه وسلم) صاحب رسالتين: الرسالة الاولى هي الشريعة التي كانت لأمة المؤمنين.. والرسالة الثانية، هي السنة التي تقوم على آيات الأصول، وعاشها في نفسه.. وهي ستقوم عليها الرسالة الثانية.. الرسالة الاولى محمدية، والرسالة الثانية احمدية.. وكل ذلك وارد في القرآن.. وعلى الرسالة الثانية ستقوم امة المسلمين - الاسلام الأخير الذي لم يحققه إلا الأنبياء.. وامة المسلمين هم اخوان النبي، الذين تحدث عنهم في العديد من الأحاديث وذكر شوقه اليهم.. هذه الرسالة الثانية، هي ما تبشر به دعوة الأستاذ محمود لبعث الاسلام، ببعث السنة، وتحكيم اصول القرآن.. وهي ستطبق، عند مجيء رجلها، المأذون بتطبيقها.. وهو المسيح المحمدي - الحقيقة المحمدية المشار اليه في قول المعصوم: "اول ما خلق الله نور نبيك يا جابر" وهذه اشارة الى النور الذي ظهرت به الأشياء (الله نور السموات والأرض)، وهو الإنسان المشار اليه في قوله تعالى: "لقد خلقنا الإنسان في احسن تقويم".. وهذا في الملكوت، في عالم الروح، وهي ستنزل الى عالم الملك، في تجسيد، وبه ستفتتح دورة (اليوم الآخر)، وتتحقق جنة الارض، في الارض.. بالنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، ختمت النبوة.. وبالحقيقة المحمدية - المسيح المحمدي - ستختم الرسالة والولاية.. وبهذا المعنى محمد هو الأول والآخر.
12. الرسالة الثانية تقوم على تطوير التشريع من آيات الفروع، الى آيات الاصول.. هذا بالنسبة للمجتمع الذي تطور تطورا كبيراً.. اما بالنسبة للفرد فمنهجه سيكون السنة، عمل النبي في خاصة نفسه- طريق محمد (صلى الله عليه وسلم).. فتشريع العبادات لا يدخله تطوير الا في حدود عمل النبي الزائد على الشريعة، مثل قيام الليل فهو ملزم.. كما ان التطوير لا يشمل الحدود، لأنها تقوم على قانون المعاوضة في الحقيقة..
دولة الاسلام المبشر بها هي للأرض جميعها، فلا يكون في الأرض إلا مسلما، يشهد شهادة ألا إله إلا الله محمد رسول الله، ويعمل في تقليد المعصوم.. وفي ذلك يجيء قوله تعالى :" هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ " .. ودولة الاسلام هذه الموعودة، تتحقق فيها جنة الارض، وهي نموذج مصغر للجنة الكبرى.. يقول تعالى: " وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ" وضع الكتاب، يعني وضع المصحف موضع التطبيق، في السلوك الفردي ، وفي تنظيم المجتمع.. واشرقت الارض بنور ربها، اشارة الى العلم بالله، الذي سيظهر في جميع اصقاع الارض، فيحل في ربوعها السلام، وتسود المحبة والاخاء، فالمجتمع مجتمع (اخوان).
هذه المقدمة هي الاطار المرجعي المعرفي الذي تقوم عليه الفكرة، فلابد من الوقوف عندها بدقة.. وهي تشير الى وعد الاسلام الاساسي بتحقيق أمة المسلمين، اخوان النبي، وتحقيق جنة الارض.
لابد من الوقوف خاصة عند الربوبية والعبودية – لأن الشيخ ينسب لنا في تخرصاته عكس ما نقول تماماً.. فهو يزعم ان الاستاذ لا يؤمن بالذات الالهية!! وأننا نقول ان الإنسان يصبح إلها، وأن الإله يصبح إنساناً.

مدينة رفاعة

نواصل

 

آراء