يا قمر دورين: في وداع الكابلي البريع (1)

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم
آليت علي نفسي أن لا أكتب كلمات عابرة في رثاء فقيدنا الكبير الأستاذ عبد الكريم الكابلي ، فمثله من لا تخطئه عين بصيرة ولا إذن صاغية ، كما وانّ جدائل فنه وذوقه و أسلوبه مما لا تحويه مقالة أو كلمات عَجلي تُقال للِحاق بسُرادق المعزيّن ، و من المعزّين من هو أصيل و من هو عابر ، فالمعزّي الأصيل هو من يعتدي حزنه مجرد الفقد - وإن عَظمّ - الي القدرة والبصيرة للبحث في المناقب ورصد المساهمات . حق علينا ، تأسيساً علي ذلك ، أن نقف طويلاً علي مأثرة الكابلي الإبداعية في عمومها ومساهمته في ديوان الغناء بصفة خاصة ، كون فقيدنا من نفر قليل إزدانو به وزادوه زينة.
الفقيد وصفّته في عنوان المقالة الفرعي بالبريع ، وهي إسم فعل من بارع ، و البارع هو المتفوّق في علّمِه أو جمالِه أو فضيّلته ، و سعّد البارع Sadalbari إسم أطلقه العرب علي نجم لامع في السماء . و مما لاشك فيه ان الكابلي بارع و بريع في مجاله وفنّه . هذه البراعة إنما يمتد جذرها الي البيئة والبيت التي تنشّأ فيهما الفقيد ، فعائلة الكابلي الكبير هم من السواكنية - نسبة الي مدينة سواكن - و معلوم أن الأسر السواكنية يغلب عليها الهُجّنة في الدم Cross -Bloodبين المغاربة و المشارقة والداخل السوداني - والهجين قوة في الفكر والبدن كما قال الأستاذ عبد الكريم في إحدي محاضراته - ، هذا ويقول البعض أن لقب الكابلي إنما ينسب الي مدينة كابل الأفغانية .
الذي يهمنا في هذا الصدد ، أن فن الغناء فن أصيل في سواكن ، وقد إشتهرت المدينة بلونية معينة من الغناء ذات سلم سباعي ، حيث إنتقل هذا الضرب من الفن الغناء الي المدينة الجديدة التي نشأت بالتوازي مع إنشاء ميناء بورتسودان وإفتتاحه في العام ١٩٠٩ ، وتشكّلت علي إثر ذلك نخبة مدينية من الأفندية و المتعلمين و كبار التجار ، والشاهد إن والد الأستاذ الكابلي كان من ضمن هذه النخبة بحسبان أنه من أبكار خريجي كلية غردون التذكارية . نشأت الأستاذ عبدالكريم في هذه البيئة المدينية الجديدة وإتمام دراسته حتي نهاية المرحلة المتوسطة بورتسودان الثانوية ، وقبل ذلك إلتحاقه بخلوة الشيخ الشريف الهادي ، وتنقله في مرتع صباه ما بين مدن بورتسودان وكسلا وسواكن وطوكر والقلابات والقضارف والجزيرة خصوصا منطقة أبوقوتة. ساهمت بشكل اولّي في تشكيل و إرساء ذائقتة الأدبية والسمعية ، أقول بشكل أولي لأن هذه الذائقة تكاد تكون تطورت وإكتملت بعد إنخراط الأستاذ الكابلي و تداخله بشكل كثيف في مرحلة لاحقة مع النخبة المدينية في الخرطوم فى مرحلة الدراسة الثانوية العليا و إلتحاقه بسلك الكتابي بالهئية القضائية .
نستطيع القول أن هذه الذائقة كانت هي الأساس لكل منتوج الكابلي الإبداعي سواء كان غناء أو شعر أو نثر أو رؤية للهوية وللمنتوج الثقافي التراثي . وجب الإشارة هنا الى أن الأستاذ الكابلي كان قد رصد البيئة التي نشأ فيها وكيفية مساهمتها فى تشكل ذائقته الأدبية و السمعية ، فى كتابه Melodies not Militants ( أنغام لا ألغام ) ، الذي صدر باللغة الإنجليزية فى يناير 2015 .

 

آراء