وجدي كامل
wagdik@yahoo.com
في مثل هذا اليوم ١٣/ ١١، قبل عامين، غيّب الموت الفنان الكبير محمد الأمين حمد النيل، أحد أهم الظواهر الفنية في تاريخ الموسيقى والغناء السوداني.
لم يكن محمد الأمين مجرد موسيقارٍ وصاحب مدرسةٍ حديثة في الموسيقى والغناء، بل كان عبقريًّا فذًّا ترك بصمةً لا تُمحى، ستبقى حاضرة في الوجدان السوداني لأجيالٍ وأجيال.
رحل محمد الأمين في زمنٍ كانت البلاد تعيش أوجاع الحرب وتداعياتها الثقيلة، وكان السودانيون يرزحون تحت وطأة الخوف والحنين والانقسام، ولا يزالون . لم يحتمل قلبه المرهف ولا جسده المريض ما يسمعه من أخبار الوطن وأحزانه، وهو البعيد، فأسلم الروح وهو يحمل همّ بلده في قلبه حتى اللحظة الأخيرة.
ترك لنا إرثًا خالدًا من الأغنيات والألحان والمواقف، حتى أصبح اسمه مقرونًا بكل ذكرى لثورة الحادي والعشرين من أكتوبر ١٩٦٤، إلى جانب صديقه ورفيق دربه محمد وردي، كلاهما كانا رمزين خالدين للفن والموقف والوطنية السامقة.
كان محمد الأمين حتى أيامه الأخيرة يعكف على تلحين أغنية جديدة، قال لمن حوله إنها لحن الوداع، وأفضى إلى ابنه غسان بأنه ربما لن يتمكن من إكمالها. يا لها من نبوءة حزينة صدقت في ألمها وصمتها.
عرفتُ محمدًا عن قرب لأكثر من أربعين عامًا، وجمعتني به صداقة سأظل أعتز بها ما حييت.
عرفت فيه الإنسان المتأمل، المستمع النادر الحس، المتلقي العميق لما يدور حوله.
كان يعتمد على سمعه المرهف في التقاط التفاصيل، فيحوّل ما يسمعه إلى رؤى ومشاعر وألحان.
كان طيبا رؤوفا مع اسرته محبا لزوجته وأبنائه. وكان مع اصدقائه لطيفًا، حنونًا، شفوقًا، خفيف الظل، وسريع البديهة، يستطيع أن يحوّل أقسى المواقف إلى سرديات من الدعابة والضحك الذكي.
وكان وفيًّا لأصدقائه، حريصًا على أحبابه، يفرح لفرحهم ويحزن لمرضهم، ويبكي بحرقة إذا غيّب الموت أحدهم.
عرفته بالنصف الثاني بالسبعينيات نتيجة علاقة قوية جمعته باستاذنا الراحل عبد الله بولا، ومن ثم تطورت العلاقة بحكم أسرتنا التي تغنى لعميدها وربطته بنا علاقة ممتدة كان فيها ضيفا على البيت في اكثر من مناسبة. عاش معي ومع أسرتي الصغيرة لشهور ببداية التسعينيات بمدينة بنغازي في ليبيا، أثناء فترة تدريسي بجامعتها.
واجه هناك أيامًا صعبة بعد أن خذله أحد متعهدي الحفلات، لكنه تجاوز الأزمة بصلابة وبمساندة الجالية السودانية هناك.
في تلك الأيام، غنّى ما لم يسمعه الناس من قبل، وأتحفنا بأغنيات نادرة قلّ أن يؤديها في حفلاته العامة.
وكان إذا جاءت سيرة الراحلين من كبار المغنين، كعبد العزيز محمد داود، لا يستطيع أن يحبس دموعه، ويسرد من الذكريات والمواقف ما لا يعرفه كثيرون عن «أبوداوود» وغيرِه من رموز الفن.
ولا أنسى أن وفاة محمد وردي كانت بالنسبة له صدمة موجعة لا توصف، غير أن رحيل صديقنا المشترك وشاعرنا محمد طه القدّال كان الجرح الأكبر.
كان يتابع معي تفاصيل مرض القدال في مستشفى الأمل، وكنّا على تواصل دائم حتى لحظة الوداع.
أتذكر أنه سألني عمّا ينبغي فعله عند وصول الجثمان إلى السودان، فقلت له:
“اذهب إلى المطار، وقف تحت سلم الطائرة في مقدمة مستقبلي الجثمان.”
أُعجب بالفكرة، وفعل ذلك فعلًا، كما رأيته لاحقًا عبر شاشة فضائية النيل الأزرق، واقفًا جنبًا إلى جنب مع رئيس الوزراء آنذاك الدكتور عبد الله حمدوك، في مشهد وداعٍ مهيبٍ تفيض منه الإنسانية والوفاء.
محمد الأمين سيرة باسلة وعظيمة، تحكي عصامية فتى عشق الموسيقى والغناء منذ نعومة أظفاره.
تعلم العزف على آلة العود في سنٍ مبكرة، وبرع في التلحين والغناء حتى صار أحد أعمدة الفن السوداني الحديث.
رحلته من ود مدني إلى الخرطوم، ومن هناك إلى الإذاعة، كانت ملحمة انتصارٍ للطموح والإصرار مهما اشتدت العقبات.
إنها قصة نجاح مكتملة الأركان، توّجته واحدًا من كبار رموز الغناء والموسيقى في وطننا الحبيب.
سنظل نذكرك يا محمد الأمين، ونكتب سيرتك مجتمعين، مع كل من عرفك من المثقفين والموسيقيين ومحبي الفن.
لقد كنت بحق، أبًا للفن والصدق والوفاء، وسنظل أوفياء لذكراك.
نحمل أغنياتك في قلوبنا كما نحمل الحنين إلى زمنٍ كان فيه صوتك دفءَ هذا الوطن وسحر ايامه.
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم