دول غرب أفريقيا .. بين نبيذ الشانزليزيه وفودكا الكرملين
محمد الطيب (صديقي)
28 January, 2023
28 January, 2023
جمعتني ليلة أمس وللمصادفة جلسة رائعة برفقة الصديقين المخضرمين سياسيا الاستاذ محمد الاسباط الصحفي المعروف، والسياسي الصادق يوسف المنتمي الى حركة العدل والمساوة ، حاولنا أن نبتعد قدر الامكان عن تجنب الحديث عن أوضاع السودان التي تثير الاحزان واللواعج .. وقد نجحنا في الابتعاد ولو قليلا عن شؤون السودان عندما قال الاسباط: (أنه في حالة انقطاع تام عن الحديث في الشؤون السودانية والتعليق عليها للقنوات الفضائية التي تطلب استضافته وقال انه :شارك بالحديث خلال الفترة الفائتة في قضايا أخرى مثل قضية انسحاب فرنسا وقواتها من مالي وبوركينا فاسو ومشاركة اخرى في منتدى عن الاعلام الرقمي وقام بالتعليق على فوز حمور زيادة بجائزة معهد العالم العربي التقديرية للرواية )
و لم يسعف زمن الاصدقاء مع برودة الطقس في فرنسا ، في ان اكمل فكرتي ففضلت اكمالها كمقال أمارس فيه التجريب والتحليل البسيط لهذه القضية الشائكة
(1)
موجة شعبوية في غرب افريقيا
بلاشك ولاخلاف ولاغبار حول سيادة واستقلالية الدول الافريقية وحريتها في اتخاذ قرارتها وصياغتها وفقا لمصالحها ومصالح شعوبها ، ولكن المراقب لكل الاحداث السابقة في مالي وبوركينا فاسو والمطالب المتصاعدة بإنهاء وجود القوات الفرنسية، يلاحظ ان هنالك موجة "شعبوية "عمت تلك المنطقة ضد الوجود الفرنسي يقودها شباب تلك البلدان وهو أمر لاتخطئه العين ، وفرنسا ايضا تشهد صعود موجه يمينية شعبوية ضد اللاجئين والمهاجرين من نتائجها ان فاز ماكرون بالرئاسة وهو خيار وسط للفرنسيين خاصة بعد اضمحلال الجمهورين وتساقط شعبية اليسار .
ولكن التفسيرات بشأن صعود هذه الموجه ضد الوجود الفرنسي في دول غرب افريقيا تحتاج الى الدراسة والاهتمام بشكل أعمق ، نعم فرنسا تعاني في افريقيا وفي مستعمراتها القديمة ،وتتملك الشباب الافريقي حالة من الغضب والاحباط لكل ماله علاقة بفرنسا وفي تحركاته هذه يحاول القطيعة مع كل إرث الاستعمار الفرنسي .
تقول فرنسا بذكاء :"أن الحكام الافارقة هم من طلبوا مساعدتها في الحرب على الارهاب التي بدأت في عام 2015 وكادت تبتلع مالي خصوصا بعد ان عمت الفوضى منطقة الساحل والصحراء من تأثيرات سقوط القذافي وانتشار السلاح في كل مكان "، وقد تابعت لقاء للرئيس الفرنسي السابق هولاند الذي وافق على ارسال القوات الفرنسية ، قال : "أن فرنسا أرسلت تلك القوات لترد الدين الى اصدقاءها في مالي وبوركينا فاسو والنيجر وميرتانيا بعد طلبوا منا التدخل والمساعدة وهو تبرير منطقي بلاشك وهو عين ماحدث حيث طالب الرؤوساء الافارقة فرنسا بالتدخل وانقاذ مدنهم وخاصة مالي من السقوط في ايدي الجماعات المتمردة على الدولة .
ولكن ايضا فرنسا تبدو عاجزة الان عن معالجة كل جراحات الماضي التي سببتها فترة الاستعمار لهذه الدول ، وتحتاج الى مواقف وقرارات شجاعة لإبراء جراحات الماضي ، ،فالشباب الافريقي الصاعد اليوم يحاول القطيعة مع كل ماسبق واسقاط كل الرموز ويجب على ماكرون وفرنسا تفهم ذلك وتقديم التنازلات الحقيقية ومساعدة هذه البلدان وفق علاقة ندية قائمة على الاحترام والتعاون الاقتصادي والمصالح المشتركة ..
(2)
الانقلابات تعود من جديد
الملاحظ ايضا ان المواجهة بين فرنسا ودول غرب افريقيا يقودها الحكام العسكرين الذين أمتطوا ظهر الدبابات ، في رسالة مفادها "أن الحكام المدنيين قد وقعوا اتفاقات مجحفة انتهكت سيادة البلاد" ويصور العسكريين أنهم جاءوا الى السلطة لتغيير حال البلاد ولاستعادتها سيادتها، وهو مايذكرني بإنقلاب الانقاذ في السودان 1989 الذي ترافق مع صعود موجة شعبوية اصولية اشعلت الحرب في جنوب البلاد وماتت الملايين وساهمت في صعود الانفصاليين من ابناء الجنوب وانتهت بإنفصال جنوب السودان 2009 ، لقد كانت الهتافات وقتها في الخرطوم " أمريكا روسيا قد دنا عذابها" و حديث البشير في القضارف " الغرب تحت جزمتي " واليوم في غرب افريقيا تتصاعد المطالبات بطرد القوات الفرنسية والسفير الفرنسي وغير ذلك من المطالبات الشبيهة بمكان يحدث في الخرطوم!!
أليست الحادثتان متشابهتان ؟
ولاننسى تحدي جمال عبدالناصر للقوى الغربية في الخمسينات والستينات والتي قادت في النهاية لأنتكاسات كبيرة لمصر وللأمة العربية لم نشفى منها حتى الان ..
في كل مكان يتشابه العسكر في كل شئ!
(3)
روسيا – فاغنر المستجير من الرمضاء بالنار ..
من المعلومات التي تعد في غاية الاهمية ،أن الوجود الفرنسي وفق عملية برخان تم وفقا لأتفاقيات بين البلدين تم التوقيع عليها ، وأن اقصد هنا الناحية الفنية الاجرائية وليست وصف دوافع النخب الحاكمة المرتبطة بفرنسا أو غيرها ومصالحهم التي حملتهم لتوقيع هذه الاتفاقيات وهذا شأن اخر لادخل لي فيه ، انما اقول لقد صادقت برلمانات البلدان الافريقية من جهة وفرنسا من جهة على الاتفاقيات، وتم جلب الخبراء وتحديد الميزانيات والمعدات و انجاز كل ذلك العمل الفني المعقد ، وعندما أعلنت مالي وبوركينا فاسو فسخ الاتفاقات مع فرنسا ، لم تشاور برلمانتها واتخذ العسكر هذه القرارات بدون مشاورة أو حتى عقد استفتاءات شعبية ، وفي نظري ان هذا نهج ديكتاتولري خطير ووأد لأي عملية للانتقال الديمقراطي ، وربما بمزيد من التحليل فقد استخدام العسكر الوجود الفرنسي كرافعة وورقة سياسية لفرض القرارات على الشعب مع -كامل الاحترام للسيادة الوطنية ومصالح البلاد العليا- وفي نفس الوقت لاتوجد أي معلومات تم تمليكها للشعب عن استبدال الحليف الروسي بالفرنسي ، أو الاتفاقات السرية التي توقع بين ( النخب العسكرية ) الافريقية مع فاغنر ، في استمرار للعبة الالهاء الذكية التي يلعبها العساكر، وأعيد التأكيد أنني لاادافع عن فرنسا ولامصلحة لي في ذلك ولكن حالة دول غرب افريقيا تقودني فورا الى مايحدث في بلدي السودان في تطابق عجيب مدهش ..
(4)
شتاء فرنسا وصقيع روسيا..
من زاوية علم العلاقات الدولية وفي ظل الصعود الروسي الصيني تحاول الدول الافريقية التموضع الاستراتجي من جديد وفق معادلات وتحالفات جديدة يفرضها العالم، في خضم عالم متغيرربما يشهد نهاية زمن القطبية الواحدة نحو تعدد الاقطاب ، وفرنسا نفسها تدرك هذه التحولات وتطالب بإستقلالية عسكرية وأمنية عن أمريكا ، هنالك صعود روسي صيني في افريقيا كلها ، وغروب أوروبي فرنسي – انكليزي لصالح قوى جديدة صاعدة ، المعادلة صعبة بالنسبة للدول الافريقية فالمؤسسات الغربية مثل الناتو ، صندوق النقد ، والبنك الدولي مازالت قوية ، والسلاح الروسي جيد ورخيص والثروات الافريقية تذهب لروسيا بمعادلة الحماية والسلاح مقابل الذهب ، ومجالات المناورة واللعب على كل الحبال صارت منعدمة والعسكر في الدول الافريقية متأهبين للانقلاب وتغيير كل المعادلات ، أوروبا صارت القارة العجوز فعلا وقل اهتمامها بأفريقيا ولم تعد قادرة على تقديم شئ جديد للعالم ، وأمريكا عيونها في بحر الصين الجنوبي وما بين الصقيع والشتاء مازالت الشعوب الافريقية تطالب بالحرية والعدالة والخبز والدواء والامن.
محمد الطيب (صديقي)
كاتب وقاص مهتم بالشؤون والعلاقات الدولية - فرنسا
ايميل : mo.tayeb86@gmail.com
و لم يسعف زمن الاصدقاء مع برودة الطقس في فرنسا ، في ان اكمل فكرتي ففضلت اكمالها كمقال أمارس فيه التجريب والتحليل البسيط لهذه القضية الشائكة
(1)
موجة شعبوية في غرب افريقيا
بلاشك ولاخلاف ولاغبار حول سيادة واستقلالية الدول الافريقية وحريتها في اتخاذ قرارتها وصياغتها وفقا لمصالحها ومصالح شعوبها ، ولكن المراقب لكل الاحداث السابقة في مالي وبوركينا فاسو والمطالب المتصاعدة بإنهاء وجود القوات الفرنسية، يلاحظ ان هنالك موجة "شعبوية "عمت تلك المنطقة ضد الوجود الفرنسي يقودها شباب تلك البلدان وهو أمر لاتخطئه العين ، وفرنسا ايضا تشهد صعود موجه يمينية شعبوية ضد اللاجئين والمهاجرين من نتائجها ان فاز ماكرون بالرئاسة وهو خيار وسط للفرنسيين خاصة بعد اضمحلال الجمهورين وتساقط شعبية اليسار .
ولكن التفسيرات بشأن صعود هذه الموجه ضد الوجود الفرنسي في دول غرب افريقيا تحتاج الى الدراسة والاهتمام بشكل أعمق ، نعم فرنسا تعاني في افريقيا وفي مستعمراتها القديمة ،وتتملك الشباب الافريقي حالة من الغضب والاحباط لكل ماله علاقة بفرنسا وفي تحركاته هذه يحاول القطيعة مع كل إرث الاستعمار الفرنسي .
تقول فرنسا بذكاء :"أن الحكام الافارقة هم من طلبوا مساعدتها في الحرب على الارهاب التي بدأت في عام 2015 وكادت تبتلع مالي خصوصا بعد ان عمت الفوضى منطقة الساحل والصحراء من تأثيرات سقوط القذافي وانتشار السلاح في كل مكان "، وقد تابعت لقاء للرئيس الفرنسي السابق هولاند الذي وافق على ارسال القوات الفرنسية ، قال : "أن فرنسا أرسلت تلك القوات لترد الدين الى اصدقاءها في مالي وبوركينا فاسو والنيجر وميرتانيا بعد طلبوا منا التدخل والمساعدة وهو تبرير منطقي بلاشك وهو عين ماحدث حيث طالب الرؤوساء الافارقة فرنسا بالتدخل وانقاذ مدنهم وخاصة مالي من السقوط في ايدي الجماعات المتمردة على الدولة .
ولكن ايضا فرنسا تبدو عاجزة الان عن معالجة كل جراحات الماضي التي سببتها فترة الاستعمار لهذه الدول ، وتحتاج الى مواقف وقرارات شجاعة لإبراء جراحات الماضي ، ،فالشباب الافريقي الصاعد اليوم يحاول القطيعة مع كل ماسبق واسقاط كل الرموز ويجب على ماكرون وفرنسا تفهم ذلك وتقديم التنازلات الحقيقية ومساعدة هذه البلدان وفق علاقة ندية قائمة على الاحترام والتعاون الاقتصادي والمصالح المشتركة ..
(2)
الانقلابات تعود من جديد
الملاحظ ايضا ان المواجهة بين فرنسا ودول غرب افريقيا يقودها الحكام العسكرين الذين أمتطوا ظهر الدبابات ، في رسالة مفادها "أن الحكام المدنيين قد وقعوا اتفاقات مجحفة انتهكت سيادة البلاد" ويصور العسكريين أنهم جاءوا الى السلطة لتغيير حال البلاد ولاستعادتها سيادتها، وهو مايذكرني بإنقلاب الانقاذ في السودان 1989 الذي ترافق مع صعود موجة شعبوية اصولية اشعلت الحرب في جنوب البلاد وماتت الملايين وساهمت في صعود الانفصاليين من ابناء الجنوب وانتهت بإنفصال جنوب السودان 2009 ، لقد كانت الهتافات وقتها في الخرطوم " أمريكا روسيا قد دنا عذابها" و حديث البشير في القضارف " الغرب تحت جزمتي " واليوم في غرب افريقيا تتصاعد المطالبات بطرد القوات الفرنسية والسفير الفرنسي وغير ذلك من المطالبات الشبيهة بمكان يحدث في الخرطوم!!
أليست الحادثتان متشابهتان ؟
ولاننسى تحدي جمال عبدالناصر للقوى الغربية في الخمسينات والستينات والتي قادت في النهاية لأنتكاسات كبيرة لمصر وللأمة العربية لم نشفى منها حتى الان ..
في كل مكان يتشابه العسكر في كل شئ!
(3)
روسيا – فاغنر المستجير من الرمضاء بالنار ..
من المعلومات التي تعد في غاية الاهمية ،أن الوجود الفرنسي وفق عملية برخان تم وفقا لأتفاقيات بين البلدين تم التوقيع عليها ، وأن اقصد هنا الناحية الفنية الاجرائية وليست وصف دوافع النخب الحاكمة المرتبطة بفرنسا أو غيرها ومصالحهم التي حملتهم لتوقيع هذه الاتفاقيات وهذا شأن اخر لادخل لي فيه ، انما اقول لقد صادقت برلمانات البلدان الافريقية من جهة وفرنسا من جهة على الاتفاقيات، وتم جلب الخبراء وتحديد الميزانيات والمعدات و انجاز كل ذلك العمل الفني المعقد ، وعندما أعلنت مالي وبوركينا فاسو فسخ الاتفاقات مع فرنسا ، لم تشاور برلمانتها واتخذ العسكر هذه القرارات بدون مشاورة أو حتى عقد استفتاءات شعبية ، وفي نظري ان هذا نهج ديكتاتولري خطير ووأد لأي عملية للانتقال الديمقراطي ، وربما بمزيد من التحليل فقد استخدام العسكر الوجود الفرنسي كرافعة وورقة سياسية لفرض القرارات على الشعب مع -كامل الاحترام للسيادة الوطنية ومصالح البلاد العليا- وفي نفس الوقت لاتوجد أي معلومات تم تمليكها للشعب عن استبدال الحليف الروسي بالفرنسي ، أو الاتفاقات السرية التي توقع بين ( النخب العسكرية ) الافريقية مع فاغنر ، في استمرار للعبة الالهاء الذكية التي يلعبها العساكر، وأعيد التأكيد أنني لاادافع عن فرنسا ولامصلحة لي في ذلك ولكن حالة دول غرب افريقيا تقودني فورا الى مايحدث في بلدي السودان في تطابق عجيب مدهش ..
(4)
شتاء فرنسا وصقيع روسيا..
من زاوية علم العلاقات الدولية وفي ظل الصعود الروسي الصيني تحاول الدول الافريقية التموضع الاستراتجي من جديد وفق معادلات وتحالفات جديدة يفرضها العالم، في خضم عالم متغيرربما يشهد نهاية زمن القطبية الواحدة نحو تعدد الاقطاب ، وفرنسا نفسها تدرك هذه التحولات وتطالب بإستقلالية عسكرية وأمنية عن أمريكا ، هنالك صعود روسي صيني في افريقيا كلها ، وغروب أوروبي فرنسي – انكليزي لصالح قوى جديدة صاعدة ، المعادلة صعبة بالنسبة للدول الافريقية فالمؤسسات الغربية مثل الناتو ، صندوق النقد ، والبنك الدولي مازالت قوية ، والسلاح الروسي جيد ورخيص والثروات الافريقية تذهب لروسيا بمعادلة الحماية والسلاح مقابل الذهب ، ومجالات المناورة واللعب على كل الحبال صارت منعدمة والعسكر في الدول الافريقية متأهبين للانقلاب وتغيير كل المعادلات ، أوروبا صارت القارة العجوز فعلا وقل اهتمامها بأفريقيا ولم تعد قادرة على تقديم شئ جديد للعالم ، وأمريكا عيونها في بحر الصين الجنوبي وما بين الصقيع والشتاء مازالت الشعوب الافريقية تطالب بالحرية والعدالة والخبز والدواء والامن.
محمد الطيب (صديقي)
كاتب وقاص مهتم بالشؤون والعلاقات الدولية - فرنسا
ايميل : mo.tayeb86@gmail.com