ديمقراطية حيدر إبراهيم: منظراتي ساكت
خالد موسى دفع الله
24 March, 2014
24 March, 2014
هذا وصف يجري علي لسان السابلة والذهن الشعبي للتقليل من وظيفة الفكر، ومن يصطلي بقضاياه ويتعاطي مع اشكالاته ومعضلاته ويشتغل بتقعيده في شأن الحياة العامة. وقد تناوله الدكتور حيدر إبراهيم في مقدمة كتابه عن الديمقراطية السودانية. أبدي مسئول كبير أستغرابه من إغلاق مركز الدراسات السودانية وقال واصفا الدكتور حيدر إبراهيم أنه رغم علو كعبه في قضايا الفكر والثقافة إلا أنه ضعيف التأثير علي العامة، ولا يوجد أتفاق حوله من النخبة والجمهرة المثقفة.وقال آخر إن تأثيره يرتبط بمحيطه الأيدلوجي والمعرفي ولا يستطيع أن يتجلي خارج ملاذه الآمن ومحيطه الحيوي مما يجعل لأفكاره ونقده السيرورة والنفاذ الي الوجدان العام لكسب مؤيدين وأصدقاء جدد. ولا شك عندي أن هذا الحكم ربما يكون قد خاطب الإنشغال السياسي وأبتسر الفكري. والبعض قد يقول أنه مشغول بعالم الأفكار واليوتوبيا قليل التأثير علي مجريات السياسة في السودان.ولكن بقليل من التأمل أجد نفسي علي أختلاف نوعي مع هذين الحكمين حول جملة الإنتاج الفكري والمعرفي والدور الثقافي للدكتور حيدر إبراهيم. إذ أجده مشغولا ببناء القوة الناعمة في المجتمع السوداني من خلال محاربة الثقافة الشفاهية والتعمق في التنظير ومراجعة المسلمات التاريخية وإعادة النظر في جملة كسب الفكر السوداني ، وهي محاولة جريئة لبلورة الوعي الجمعي تجاه قضاياه الأساسية في الرفاه والتقدم والحداثة والديمقراطية والمدنية والحضارة.
والدكتور حيدر إبراهيم شديد الحرص علي ترسيخ مبدأ إستقلاله الفكري، وأستطاع بفكره وجهده وقدرته علي التمايز أن يحفر لنفسه عميقا مركزا في دائرة فوضي الحواس في التجربة السياسية والفكرية في السودان. فهو رغم التماهي الفكري مع التيار العروبي القومي والإنتماء الي اليسار الليبرالي العريض،إلا أنه أيضا يقدم أطروحات نقدية لهذين التيارين بدعوي نشدان الموضوعية والعقل. والذي يطالع أنتاجه الفكري وما يتضمنه من صرامة في الفكر والمنهج يقدح في قدرته علي التدفق الإنساني، ومن يقرأ سيرته الذاتية التي خطها بقلمه يدرك أن له ينبوع متدفق من الحس الإنساني الشفيف والقدرة علي السرد واجترار المفارقات والإحتفاء بالأصدقاء. ومن يكتب سيرة تطوره الذاتي لا شك يختزن لنفسه صورة يعبر عنها من خلال الثوثيق والسرد والكتابة.
بعد أن وقفت علي سيرته الذاتية التي خطها بقلمه، أدركت أن قلقه المعرفي وتمرده علي السائد من أنماط التفكير والثقافة ، وجرأته في النقد والبحث عن الحقيقة لها أصول في تكوينه النفسي والشخصي . فهو شايقي عرف السفر مبكرا،ولد في القرير عام 1943 في ذات اليوم الذي ولد فيه بوذا حسب قوله. وتنقل مع والده في المدن المختلفة، وكانت حياة القشلاق التي عاشها جعلته يختلط بأنفاس الجماهير وغمار الناس وسلبت من حياته الأسرار وهو يلتحف السماء تحت ضوء النجيمات البعيدة لأن الأبواب مفتوحة والنوافذ مشرعة. وحيدر إبراهيم بحكم تكوينه النفسي ضد كل أنواع السلطة ما عدا سلطة المعرفة التي منحها طاقته القصوي وشبابه الغض وأورثته هذا القلق الدائم للبحث عن المعرفة والتكيف مع الغربة ، لا يهمه إرضاء الناس مهما بلغت الكلفة.لو أن الدكتور حيدر إبراهيم أرسل لقلمه العنان وهو يرسم سيرته الذاتية علي الورق لأمتعنا بكتاب شبيه بالأيام للدكتور طه حسين.
إن العوامل التي شكلت وعيه هي حياة الترحال والهجرة المستمرة إذ ولد في مناطق الشايقية من ثم ارتحل الي قلب أرض الجعليين.كأنه جمع في نفسه بين ليبرالية الشوايقة وصرامة الجعليين. وعرف التنقل والتسفار مع والده الذي خدم في هيئة سكك حديد السودان، وأعجب بالغجر الذين تراهم في كل بقعة يهيمون لا يهمهم المرقد ولا يقتلهم الحنين الي الأماكن والجغرافيا. والدكتور حيدر أيضا صورة مصغرة لجده حاج أحمد الذي كان مفارقا لإجماع الهوية الدينية في قريتهم إذ كان أحمديا في محيط هادر من الختمية حتي كانوا ينشدون أمام منزله في حوليتهم السنوية يامنكرين ليكم.كما تأثر أيضا بالعقاد الذي يراه مثقفا موسوعيا عملاقا ولكن أخذ منه الجموح في معاركه الفكرية والقلمية.
أورثه المرض الذي داهمه مبكرا بعضا من القلق وحياة العزلة ولكنه عاد ليلتحم بالحياة مجددا ويلتذ بمقاومة تلك الخصيصة بترقية الصداقات والإحتفاء بمعانيها الإنسانية.
و دكتور حيدر إبراهيم تتلمذ علي مبادئ الفكر الوجودي وقال إن جون بول سارتر شيخه، وهو القائل ان الوجود سابق علي الماهية وأول مبادئه هو أن الإنسان عدم إذا لم يحقق ذاته، والإهتمام بقضية العدالة ومقاومة الضعف. كما أنه أيضا شديد التأثر بمدرسة فرانكفورت الفلسفية لا سيما وأنه قضي شطرا مهما من تكوينه الفكري وتدريبه الاكاديمي لإنجاز الدكتوراة في جامعة فرانكفورت في علم السيسيلوجي.وأهتمت هذه المدرسة عند تأسيسها بمفهوم النقد بمعناه الواسع،وتميزت بنزعتها النقدية للأوضاع السياسية والإجتماعية وبدور الفرد في المجتمع.وقد أعتنت هذه المدرسة بالماركسية الجديدة القائمة علي تعدد المساقات المعرفية، وقدمت نقدا مهما للماركسية الأرذوكسية أو الرسمية التي تحولت الي عقيدة جامدة ونصوص مقدسة وأهمية تجديدها لتلائم مطلوبات وقضايا العصر. وجعل الدكتور حيدر من قضية النقد في مسار الحياة السياسية والإجتماعية والثقافية في السودان شغله الشاغل كما أهتم بتوطين العقل في سياق الجدل النقدي لتجليات الظاهرة السياسية والإجتماعية والفكرية في السودان.
أبدي دكتور حيدر أهتماما خاصة بنقد تجربة الإسلاميين في السودان، وخصها بعدد من المؤلفات والكتب حتي أصبحت مرجعا أساسيا لحواريه والصادرين عن رؤيته ومثاقب فكره. ورغم غني مؤلفاته النقدية لتجربة الإسلاميين في السودان إلا أنها لم تحدث الأثر الفكري المطلوب لخلق تيار رئيس ومواز للتجربة. إن الأعمال النقدية الهامة لتجربة الإسلاميين الفكرية والسياسية في السودان حسب ظني وتقديري صدرت عن الأستاذ محمود محمد طه، والدكتور منصور خالد، والدكتور حيدر إبراهيم والدكتور عبدالله علي إبراهيم ومن الإسلاميين الدكاترة عبدالوهاب الأفندي والتيجاني عبدالقادر،والطيب زين العابدين. ويمتاز حيدر إبراهيم عن كل هؤلاء بغزارة الإنتاج والمؤلفات في هذا الشأن إلا أنها قصرت عن التأثير في بناء تيار رئيسي في النقد الفكري، ولعل مرد ذلك يعود لعدة أسباب أولها أن حيدر لا ينتمي الي حزب أو مدرسة سياسية تبشر بأفكاره وتشتغل بنشرها والترويج لها أو أن تتخذها أداة أيدلوجية لنقد ومحاربة التجربة الإسلامية، ثانيا أنه لم يجهد نفسه لبناء قاعدة من الحواريين والتلامذة بل أكتفي بشبكة من صداقات الفكر والعمل المشترك ضمن التيار المناهض لفكر وسياسة الإسلاميين في السودان.ثالثا يمنتمي حيدر الي تيار فكري عريض يجد في داخله كثير من المشاكسة والمعارضة والتنافس الشخصي لتسنم القيادة الفكرية لهذا التيار.ولعل أبرز نقد الإسلاميين لأعماله الفكرية هو تحيزه الواضح الي الخيار الفكري المغاير مما يفقده الموضوعية والحياد البارد لنقد الظاهرة.وتغدوا كتاباته لنقد الإسلاميين كأنها مزيج بين الجهد الفكري والناشطية السياسية التي تسعي لهدم الظاهرة لا دراستها وتفكيكها وتشريحها وتحليلها. لذا لم تجد حظها من القبول والرواج وسط التيار الإصلاحي للإسلاميين أو حتي الناقمين علي التجربة جملة وتفصيلا.ولا شك أن أي تجربة للنقد الفكري تعجز عن مد يدها للكتلة المنبتة من الظاهرة موضع الدراسة تحتاج الي مزيد من التدقيق والمراجعة. كما أنه يوغل في الإنتقائية لكتابات الإسلاميين فهو كثير الإعتماد علي تاريخ البروفيسور حسن مكي ويجافي ما عداه، وهو لا يذكر المراجعات والتجارب المشرقة في النقد مثل الأفندي والغنوشي الذي قدم مقاربات فكرية هامة في الديمقراطية والشوري، ولعل المشكلة الأساسية في تقديري للبناء النظري وتطبيقاته في مشروع حيدر النقدي للفكر والممارسة الاسلامية هو الصفة الإطلاقية والقطعية والعداء المفتوح، لا بناء المشتركات وترقية الإصطفاف والوعي المشترك.لأنه ينطلق من موقف المغاضب لا الدارس. ففي مقاله عن كتاب الصديق المشترك د. حامد فضل الله قال أنه يجنح الي تقسيم الناس في أمر مركز الدراسات السودانية الناس الي فئتين نبلاء وسفلة.وربما يعاني ميسمه النقدي تجاه تجربة الإسلاميين من ذات النزعة.
إضافة الي جملة أنتاجه النقدي والفكري السابق الذي حظي بالقبول والتداول إلا أنني أنوه بوجه خاص بأنتاجه الذي صدر مؤخرا نسبيا خاصة كتابه: "التجديد عن الصادق المهدي" الذي أعجبني منهجه النقدي وحزنت عن سكوت الجمهرة المثقفة داخل حزب الأمة وتيار الأنصار في التعليق والرد عليه، كما أثمن عاليا كتابه عن الديمقراطية السودانية الذي بذل فيه الدكتور حامد فضل الله جهدا عظيما في عرضه وتقديمه وكذلك تعليق الدكتور عبدالعزيز الصاوي الذي أعتبر أن الكتاب فيه إعادة اكتشاف للأستاذ حسين شريف وعلي عبداللطيف.
ويثير الدكتور حيدر في هذا الكتاب ملاحظات عالية القيمة في مساق تحليله النظري لتتبع جذور الفكر الديمقراطي في السياسة السودانية ويقرر أن السياسيين السودانيين أهتموا بالديمقراطية العملية وأهملوا التنظير مؤكدا أن جيل الرواد أهتم بالنتائج البراغماتية للسياسية.وهذا وصف صادق ولا يقتصر فقط علي السودان إذ أن كل رواد الإستقلال وجيل التحرير في أفريقا ومعظم دول العالم الثالث لم تهتم بالبناء الديمقراطي بل أهتمت بالتحرر والإستقلال والتنمية.وستجد في تجربة عبدالناصر وسيكتوري ونيريري وبن بيلا مندوحة في ذلك. وفي السودان أشار البعض الي فشو نماذج وأشكال الديمقراطية الصورية أو الشكلانية التي تهتم بالشكل دون المضمون والجوهر،وهي التي تتوفر فيها العملية الإجرائية مثل الإنتخابات والمشاركة السياسية وقيام البرلمان، وهذا النمط لا تتوفر فيه روح الديمقراطية الليبرالية ، فقد وصف التيجاني عبدالقادر نمط الديمقراطية الشكلانية في السودان التي تهتم بالعملية الإجرائية أنها تقوم علي قاعدة من التحالف العشائري الطائفي وتختزل العملية السياسية في زعيم الحزب او الطائفة. وعاب حيدر علي التجربة السودانية عدم بروز زعيم قومي مفكر ومحرك للجماهير مثل نهرو في الهند. ويقدم حيدر التيارات العقائدية علي ما عداها في التنظير للديمقراطية ويضع بعض طلائع البعث مثل جادين وعبدالعزيز حسين الصاوي في مرتبة متقدمة. ورغم أهتمامه بإستعراض اسهام أحمد خير في كفاح جيل إلا أنه ينسب الي حسين شريف رغم خطابه العرقي الإستعلائي بأنه أول من أستخدم كلمة ديمقراطية في كتاباته. عدد دكتور حيدر في كتابه أشكالات الديمقراطية في السودان وحصرها في أربعة عوامل هي علاقة الدين بالسياسة، ودور الجيش وقضية الوحدة الوطنية والتكامل القومي والفشل التنموي.
وفي الأدبيات الرائجة حول فشل الديمقراطيات في العالم الثالث والدول النامية يشير الدارسون الي قضية القيادة السياسية التي تعجز عن توفير الأمن والمسئولية،وهو ما اشار اليه بول كوبير في كتابه (البنادق، الحرب والأصوات)، أما التفسير الذي يعتبر أكثر تشخيصا و قربا من الحالة السودانية هو عدم بناء مؤسسات قوية شفافة وديمقراطية تستثمر في المستقبل وتشعل المنافسة الشريفة لتقديم الأفضل. بل ظل الأصل في التجربة والممارسة السياسية في السودان هو الإستثمار في حزازات الماضي وهو ما قال به جيمس روبنسون في كتابه الذي صدر حديثا (لماذا تفشل الأمم).
في تقديري أن علاقة الدين بالسياسة لا تحظي بالأولوية في ترتيب أشكالات الديمقراطية في السودان، بل هي عامل ثانوي. و لكن يحظي الجانب الخاص بتقديس القيادات وطقوسية الممارسة وعدم ديمقراطية المؤسسات الحزبية، بأهمية أكبر في أجندة وهموم الإصلاح الديمقراطي،إذ لا ديمقراطية بلا ديمقراطيون. ويفرق الناس بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الإجتماعية ، وكما أشار حيدر فإنه يختلف مع الزعم السائد أن المجتمع السوداني ديمقراطي بطبعه. وإني زعيم أن المجتمع السوداني يعلو فيه حس المساواتية ولكن لا تتوفر فيه أسس الديمقراطية الإجتماعية لبنيته القبلية التي تتعارض مع أبسط مباديء الديمقراطية وهي حكم القانون والمسئولية.كما أن المكانيزمات الإجتماعية عجزت أن تحول هذا الحس بالمساواتية الي رأسمال معتبر في الديمقراطية السياسية. الديمقراطية الإجتماعية تعني أمتداد تأثير الديمقراطية خارج سياق الظاهرة السياسية من خلال بناء مؤسسات المجتمع المدني، وتقوية آليات المراقبة والعدالة الإجتماعية.
يحمد للدكتور حيدر تدفق ينابيع أنتاجه الفكري والنقدي، ويكفيه أنه يحاول نزع القداسة وتوطين العقل في سياق نقد الظاهرة الإجتماعية والسياسية والفكرية في السودان. وكما كان جده حاج أحمد أحمديا في محيط ختمي هادر، فإنه لا يأبه أن يمضي وحيدا في غياهب النقد لا يهمه من أبي.وكما قال فإنه رغم الجغرافيا الفكرية المتباعدة إلا أنني شديد الإحتفاء بإنتاجه الفكري لأن يحاول أن يجمل بلقع السياسة بثمار الفكر وغرس الوعي ويكفي أن تقوم صداقة التباعد الفكري علي هذه القاعدة بدلا عن شنشنة الجهلاء وزعيق الناشطين. وأني لأرجو أن يستقيم ميسمه النقدي إزاء بعض القضايا وينتقل من موقف المغاضب الي الدارس لأنه سيكون أكثر نفعا للبلاد والعباد.
kha_daf@yahoo.com