رحل عن عالمنا د. شاكر عبد الحميد في 18 مارس الحالي عن عمر يناهز التاسعة والستين. ولعل أفضل وداع لمثقف مثله أن نحيي جهوده ونبرزها. لذلك أعرض هنا واحدا من أهم كتبه وهو" الأسس النفسية للإبداع الأدبي في القصة القصيرة خاصة". وقد تخيرت هذا الكتاب لأنه على حد قول د. شاكر" لم يجد بحثا واحدا قد تناول هذا الموضوع من بعيد أو قريب". وقد تخصص د. شاكر في موضوع نفسية الإبداع منذ أن بدأ الدراسة بحصوله على ليسانس علم النفس عام 1974، ثم ماجستير يليها دكتوراه عام 1984 في نفس الموضوع. في كتابه الذي أشرت إليه يتناول واحدة من أكثر القضايا غموضا أي الإبداع، ومحاولات علم النفس الغوص في عتمة أسرار عملية الإبداع خاصة في مضمار القصة القصيرة. من أين تبدأ نفسيا وعقليا؟ ما هي جذورها؟ كيف تستمر؟ ما هي العمليات النفسية التي ترافقها أو تؤدي إليها أو تعرقل كتابتها؟. وللبداية يحاول د. شاكر أن يضع تعريفا للإبداع مستشهدا بما قاله عالم النفس بيتر ماكيلر من أن الإبداع هو : " تفاعل معقد بين التفكير الواقعي والتفكير الخيالي"، والعملية الإبداعية هي : " مزيج من النشاطات المعرفية والمزاجية والدافعية والاجتماعية". ولتوضيح تلك القضايا ضمن د. شاكر كتابه ترجمة مقال طويل كتبه فرويد عن دوستويفسكي يحلل فيه فرويد الدوافع النفسية إلى الكتابة ومشكلاتها. وينتقل د. شاكر بعد ذلك إلى عالم نفس عظيم آخر هو كارل يونج الذي قسم الابداع الفني إلى قسمين، أولا: الفن النفسي الذي يتعامل مع خبرات الحياة في العالم الخارجي كالأسرة والحب وما شابه، وهو فن يستمد مادته من اللاشعور الفردي. ثانيا: الفن الكشفي الذي حسب يونج يستمد مادته من اللاشعور الجمعي ويتعامل مع " الأرض المجهولة في عقل الانسان، مع الزمن الأسطوري البعيد الذي يمتد إلى عصور ما قبل تبلور الانسان كما نعرفه". وقد اعتبر يونج أن رواية هيرمان ملفيل الشهيرة " موبي ديك" نموذج للفن الكشفي لأنها تعاملت مع قضية القدر والمجهول، وفيها يعبر الفن عن شيء ما موجود، وحقيقي، لكنه غير معروف. ويرى يونج أن الأرض المجهولة في نفوس وعقول البشر" ليست أقل صدقا وحقيقية من الواقع الملموس المحسوس الموضوعي، فهي تمثل الواقع الآخر النفسي، وما يحتويه من عقل جمعي، وحين يدخل الفنان إلى ذلك العقل ويعبر عنه فإنه يتحدث كجنس بشري إلى الجنس البشري، وليس كفرد بشري إلى ذلك الجنس". وتحت عنوان " التحليل النفسي والسيريالية ينقل عن هربرت ريد قوله:" إن الفنان السيريالي يؤمن أن الحياة -خاصة الحياة العقلية – توجد عند مستويين : أحدهما مرئي محدد الإطار والتفاصيل، والآخر محجوب غامض غير محدد، وهدف الفنان أن يدرك أبعاد العالم الخفي، وبعبارة أخرى على حد قول ألبير كامي فقد استهدف الفنان السيريالي: " استخلاص العقل من اللا عقل"! تماشيا مع ما نادى به الناقد الكبير إرنست فيشر من أنه : " ليست وظيفة الفن أن يدخل من الأبواب المفتوحة، بل أن يفتح الأبواب المغلقة"، أي أن دور الفن اقتحام العوالم المظلمة التي تشكل خزانة اللاوعي، وترقد في عقل الانسانية الجمعي الموغال في القدم. وتحت عنوان " الإبداع وتحقيق الذات" يقول إن العديد من الباحثين يركزون على فكرة تحقيق الذات بصفتها الدافع الرئيسي الكامن وراء النشاط الابداعي، تحقيق الذات الذي اعتبره جولد شتاين" العملية الأساسية الموجودة لدي كل كائن حي". ويتطرق د. شاكر إلى القصة القصيرة ويربط كتابتها بالطابع النفسي للمؤلف فيقول : " إن تفضيل الكاتب لأن يكتب قصة قصيرة قد يكون تعبيرا عن أسلوبه المعرفي في الحصول على المعلومات من العالم وإدراكه لها واعادة إنتاجها"، وأخيرا يتناول مختلف العمليات النفسية والعصبية التي تحيط بكتابة القصة مثل التركيز، وعملية الدوران حول فكرة وموضوع القصة، وأيضا عملية التوقف وعدم القدرة على الاستمرار في الكتابة وأسبابها، وكيفية ظهور الأفكار لدي المبدع، ويشير إلى أهمية ما يسميه " الجماعة السيكولوجية" أي تلك الدائرة المحددة من الأصدقاء أو الكتاب الذين يعرض عليهم الكاتب عمله قبل نشره، وينوه بأهمية وجود مثل تلك الدائرة مستشهدا بقول ماركيز عن ذلك : " عندما أكتب شيئا فإنني أتحدث عنه كثيرا إلى أصدقائي وهذا يساعدني على معرفة أين أقف؟ على أرض ثابتة أم أنني أعوم؟ إنها وسيلة لكي أجد طريقي في الظلام". لقد فارقنا د. شاكر عبد الحميد لكن تبقى أعماله، وإخلاصه، وتواضعه، ومحبة الناس له، وهي قصة أخرى تستحق أن تروى منفردة عن إنسان لم يكتسب قيمة من منصبه وزيرا ، بل أكسب المنصب قيمة. د. أحمد الخميسي قاص وكاتب صحفي مصري