ذكريات الهروب العظيم والغربة المفتوحة

 


 

 


(الحلقة 21)


gibriel47@hotmail.com

توطئة

الغربة ثقيلة على النفس إلا إذا كانت لفترة معلومة الأمد محفوفة بوعود وثمار قريب موعد قطفها. والغربة شرعا هي النفي من الأرض، ولكن في حالة معظم السودانيين كانت طوعا واختيارا. فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار.  ورغم كل شيء، فهي خطى كتبت علينا (ومن كتبت عليه خطى مشاها).

لقد اضطررنا للخروج من السودان تحت وطأة الضوائق المعيشية وسعيا لتحسين الأوضاع الحياتية التي تسبب في ترديها ساسة فاشلون وعسكر أغبياء وأساتذة جامعات حمقى ومرتزقة وضعاف نفوس شاركوا في كل الحكومات – الديمقراطية والعسكرية - يجيدون مسح جوخ العسكر وتقبيل أيدي السادة ويعتقدون بأنهم يستطيعون سياسة الناس كما يجيدون تحضير رسالاتهم العلمية.

وكانت المحصلة النهائية أن هذا الثلاثي البائس لم يحسن تدبير أمور البلاد وتصريف أمور العباد ولم يستطع خلال أكثر من نصف قرن من الزمان توفير العيش الكريم لأقل من أربعين (40) مليون نسمة في بلد تكفي موارده لأكثر من مائتي (200) مليون نسمه.

ولم نكن ندري أن الغربة ستتحول إلى ثقب أسود كبير يبتلع كل أعمارنا ويأخذنا إلى ما لا نهاية فتصبح غربتنا غربة مفتوحة على كل الاتجاهات والاحتمالات.

لقد خرجنا كغيرنا من السودانيين الذين ركبوا أمواج الغربة في أواخر السبعينيات من القرن الماضي والذين ليست لديهم تجارب كبيرة في الغربة قبل ذلك، أو ربما كانوا هم الرواد من أسر لم تعرف ولم تألف الغربة قط.

ومنذ ذلك الحين توالت موجات الغربة واشتد زخمها وتكسرت على شواطئ ومرافئ كل بقاع المعمورة. وكنا كالهشيم الذي يحمله السيل الجارف لا يدري أين يلقى به!!! أو كالقصب في مهب الرياح العاتية المزمجرة التي تقصف بعضه وتترك بعضه (وما تدري نفس بأي أرض تموت).

وخلال هذه المسيرة الطويلة (التي تمطت بصلبها وأردفت أعجازا وناءت بكلكل)، ذاق السودانيون الذين يمموا دول الشرق الأوسط خاصة صنوفا من المعاناة لم يكونوا يتصورونها، وتعرضوا لاستهجان وازدراء من شعوب أقل منهم حضارة، وصبروا على آلام  وتجارب كالحنظل وتبينوا لاحقا أنهم كانوا في سابق أيامهم يعيشون في رغد من العيش الكريم ومحفوظة كرامتهم في وطنهم الكبير ،قبل أن تجتزئه الذئاب وتمزقه أشلاء.

وفي هذه المحاولة أردت أن ألقي الضوء على تجربة غربة بدأت بالهروب العظيم من السودان في أواخر حكومة مايو وامتدت لأكثر من ثلاثين (30) عاما، ولا تزال، ولا أحد يدري أين ستحط هذه الموجه رحالها !!! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

استميحكم العذر مقدما إن وجدتم في هذه التجربة ما يعكر صفوكم، وهو أمر لم أقصده. وأسألكم التكرم بالنصح أو بحسب ما ترونه من أفكار وآراء نيرة إن راقت لكم التجربة، فهي تجربة وددت توثيقها ليس إلا. وأنا بانتظار السماع منكم.


المؤلف


تنويه: القراء الكرام، هذه الحلقة هي الحلقة التي قبل الأخيرة. فقد رأيت أن أتوقف بعد هذا المشوار الطويل مع ذكريات الهروب العظيم والغربة المفتوحة، وأجمع ما كتبته في كتيب صغير ذكرى للأجيال القادمة ليقفوا على تجربة من تجارب الدهر في زمن أغبر قذف بنا وسط أمم لا تقيم لنا وزنا ولا تعرف قدرنا.

لاشك أن هناك بعض الأجزاء التي لم تتسع لها هذه الحلقات، وهي حلقات تحلق خارج السرب. ولاعتبارات كثيرة مقدرة، أرجو أن يتفهمها القارئ الكريم،  لم أرغب بتضمينها في المذكرات ولكن قد يسعها الكتيب كما ذكرت.

عسى الأجيال القادمة أن تفيد من هذه التجارب وتصلح ديارها وتقاتل من أجل ذلك، إن دعت الضرورة، ولا تضطر للخروج عن أوطانها مهما كلفها!!!  وكما قال أهلنا في السودان: ( تطلع من بيتك حزين تلقى الفرح وين)

شاكرا لكم مصاحبتي في هذا المشوار، ودمتم في حفظ الله ورعايته.
رجاء : يرجى عدم نقل أو إعادة نشر أي من حلقات هذه المذكرات على أي وسيط إعلامي إسفيرى أو تقليدي دون إذن مسبق  من صاحبها مع إمكانية  اقتباس أي من فقراتها في البحوث والمقالات شرط التقييد بشروط الاقتباس العلمية المتوافق عليها  مع شكري الجزيل. 



الشيخوخة ومفترق الطرق

ومع مرور الأيام وتقدم السن بدأ المغتربون الأوائل يحسون بثقل وعظم المسئوليات الملقاة على كواهلهم. ومع مرور الأيام أيضا اعترى المحاربين القدامى ثقل في خطواتهم وبدأت العلامات المبكرة للشيخوخة.

غير الزمان تضاريس الوجوه وأصبحت الشعور بيضاء كقمم الجبال العالية المكسوة بالثلج بعد سواد فاحم،  وأحيانا توجت قمم الرؤوس مرايا عاكسة لضوء الشمس تنبئ عن صلع محترم. وتجعدت الوجوه وزال رونقها ونضارتها وأوشكت مياه الحياة على النضوب (والكبر شين).

كما أصابت أمراض السكر وضغط الدم وغيرها من مقدمات الطريق إلى الدار الآخرة معظم المحاربين القدامى.  وغيب الموت الأحباب والصحاب وتناقصت أعدادهم في مرافئ الغربة والوطن. وأعطب الزمان بوصلة الحياة السعيدة.

فأصبح البقاء في الغربة لا معنى له،وكذلك العودة إلى الوطن، أو إن شئت فقل " هما أمران أحلاهما مر".  فالرعاية في هذه السن المتقدمة تحتاج لكثير من المال والبذل والعطاء ولم يكنز المحاربون القدامى، في غمرة معاركهم لتعليم العيال وبناء المنازل وبقية متطلبات الحياة الأخرى، شيئا لليالي السود.

فقد شهدنا عودة بعض حملة مشاعل الغربة الأوائل من الوطن بعد تجارب مريرة ومحاولات ومجاهدات عديدة للبقاء في حجر الوطن. فكان ذلك إنذار شؤم للآخرين بعدم المحاولة. فاقتنع البعض،  وجرب آخرون حظهم ولكن كان الفشل حليفهم!!!

بقي هؤلاء الكبار في الغربة ثانية في غياب أبنائهم وتهديد عدم تجديد إقاماتهم من قبل سلطات تلك الدول بحجة كبر السن. وليت المسئولين في دول الخليج العربية يجيبون على هذا السؤال: ( أين قضى هؤلاء زهرة شبابهم وأفنوا أعمارهم ؟!!!)

كان بيت العائلة الكبير في السودان في الماضي هو مستقر هؤلاء الكبار. ولكن ومع الغربة البطالة (السيئة) أصبحت الشقة القديمة في المهجر التي سكنت فيها الأسرة لعقود زمنية هي بيت العائلة الكبير ومسرح ذكريات صبا العيال.

قضى بعض المحاربين القدامى نحبهم ( ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا). وانتهت مسيرة طويلة وشاقة، بدأت بهروب جماعي من الوطن عقب معاناة معيشية لا تطاق كان السبب فيها عساكر صعاليك وساسة أغبياء لم يحسنوا حكم الناس مع حفنة من أساتذة الجامعات السفهاء اعتلوا سدة الحكم بحجة تخفيف غلاء المعيشية على المواطنين وحجج واهية أخرى.

أما البقية الباقية من المحاربين القدامى الذين استمروا في العمل والدوام اليومي فكانوا أسعد حظا. ولكن الدوام (العمل) اليومي كان عبارة عن معسكرات عمل شاق. فأجسادهم الضعيفة لا تساعدهم كثيرا ولا تقوى على الجلوس لساعات طويلة، لكنهم يتكئون على مخزون خبراتهم الطويلة في الأداء السلس للأعمال المنوطة بهم.

كما كان الدوام عبارة عن سكون مطبق أشبه بسكون أهل القبور. فهم يعملون غالبا وسط مجموعات من الموظفين صغار السن في مقتبل حياتهم وحماسهم لاهتماماتهم التي تجاوزها هؤلاء النفر من قدامى المحاربين. فمواضيع الحديث ليست مشتركة والرؤى متباينة. وقد عبر عن ذلك أهلنا في دارفور قائلين: (ونسة الما قدرك بوجعيك في صدرك!!!) أي أن الأنس مع شخص ليس في سنك يسبب لك الوجع والألم وضيق الصدر.

وأصبح حالهم كالهشيم الذي يحمله السيل الجارف لا يعرفون متى تنتهي هذه المسيرة وإلى أين تحملهم ! ولكن لا خيار آخر أفضل. فقد نضبت جعبة الزمان من الخيارات السهلة!!!

انشغل بعض المحاربين القدامى بكتابة المذكرات، وتأليف الكتب، واجترار الماضي، والمشاركة بمواضيع في المواقع الإلكترونية السودانية ما خفف عنهم وطأة الغربة المزدوجة: غربة الوطن وغربة البيئة المحيطة.

وانتقل بعض المحاربين القدامى للعيش مع أبنائهم أو بناتهم وأحفادهم في دول أخرى فأصبحوا كالنبتة المقتلعة من أرضها لتبذر في أرض لم تألفها. وسرعان ما تدهورت أحوالهم الصحية والنفسية. وفي هذه السن ومع مفترق الطرق يدرك الكبار أن كل الطرق تؤدي إلى روما!!!

الغربة نوعان: غربة في بلاد العرب وغربة في بلاد العجم.

أما الغربة في بلاد العرب فيشبه بعضها بعضا. فالعرب من دول العالم الثالث أي الدول المتخلفة أو الدول النامية أو أن شئت فسمها الدول (النايمة). ومع ذلك يدعي بعض العرب تفوقهم على البعض الآخر كأشخاص وكدول وهو أمر نسبي.  نتج عن هذا الإدعاء بالتفوق  والازدراء بغض وكراهية مكبوتة تطل برأسها في أوقات العدائيات.

ويدعي معظم العرب التدين ومكارم الأخلاق من جود وكرم وشجاعة الخ. فمعظم الأدبيات العربية من العصر الجاهلي  إلى يومنا هذا مترعة بهذه الأوصاف التي يعشقها العربي (كتلك التي أسبغها حكيم الجاهلية، زهير ابن أبى سلمى على هرم بن سنان والحارث بن حلزة الذين أوقفا بجودهما حرب داحس والغبراء بعد نحو أربعين عاما،  والجود الأسطوري لحاتم الطائي، وحلم القاضي إياس، ووفاء السمؤل بن عادياء الضبي  الذي جعله يفدى عهده بفلذة كبده، وقد هاجرت فضيلة الحلم عقب الإسلام لشخصية موجبه كمعن بن زائدة المشهور بحلمه وغير ذلك ) ولكنا لم نشهدها حين اغتربنا في بلاد العرب ولم ندر ما الذي غيبها! بل لم نشهد مساندة أو إنصافا ممن يمكن أن نطلق عليهم (رجال الدين) الذي يدعون العلم بأسرار القرآن الكريم والدين، وكثر كلامهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضاعت حقوق الكثيرين على مرأى ومشهد من (رجال الدين). بل شهد معظم المغتربين فظاظات وعنجهيات واستعلاء أجوف من معظمهم، إلا من رحم الله.

وفي تاريخنا الحديث أغارت بعض العرب على عرب أخرى، ورجعوا بنا القهقرى إلى أيام الجاهلية الأولى وأنعشوا ذاكرتنا بغارات العرب وأيام العرب وأيام وأد البنات والسلب والنهب.  وتدخلت عرب في شئون عرب أخرى مرات كثيرة.  ودخلوا أحيانا في معارك كلامية وملاسنات وحملات إعلامية معادية وأحيانا أخرى في معارك حقيقية حتى من الله عليهم بمن استطاع أن ينهي تلك العدائيات من العرب والعجم.

وفوق هذا وذاك فالعرب تضمهم تلك الكارثة المسماة الجامعة العربية التي لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تقدم ولا تؤخر. فظلت العرب تحت لواء الكارثة العربية أعرابا وقد جاء وصف الأعراب في محكم التنزيل وكفى!!!

أما غربة العجم، فالعجم  ثلاثة أصناف:
فعجم متخلفة ومتأخرة حضاريا وغير مسلمة فالغربة عندها أشبه بالعيش في الجاهلية الأولى رغم وجودها زمنيا في القرن الحادي والعشرين. فالحياة فيها كحياة السوام ولا تحتاج لكثير من الشرح والكلام.

وعجم مسلمة فالحال فيها أفضل كثيرا حتى من بعض الدول العربية والشعور بالغربة فيها أقل كثيرا مما في سواها. ولكنها تظل دولا من دول العالم الثالث فيها الكثير من المنغصات وعوامل التخلف التي تغض مضاجع المغتربين.

أما العجم المسماة بدول العالم الأول أو التي تحب أن تطلق على نفسها الدول المتحضرة والمتطورة وما إلى ذلك من الألفاظ فهي عجم قد تفيدك منعتها العلمية والعسكرية والمالية فتمنحك جوازها الذي يمكن أن تمشي به الهوينى  (وتتمخطر به) في أرجاء المعمورة مهاب الجانب معززا ومكرما رغم أنف كل العالم. فتشبه بذلك الغراب الذي انضم إلى سرب الحمام.

وقد تجد سعة العيش وسط هذه العجم (المتحضرة). فسلوكها في مرات كثيرة أفضل حالا من سلوك قومك الذين غادرتهم وفارقتهم (فراق الطريفي لجمله). ولكن ومع مرور الأيام قد يرق دينك ودين أهلك وأطفالك ، إلا من رحم الله، وتدخل في خضم مهلكاتهم دون أن تدري وتفقد دينك وعرضك أو قل دنياك وآخرتك.

برغم كل ذلك، اختار معظم المغتربين السودانيين وخلافهم ديار العجم المتحضرة وطمحوا إليها ولا يزالون يرتادونها دون غيرها كل لحاجة في نفس يعقوب: إما لعلم، أو جاه وسلطان، أو رغد العيش الخ. مع بقاء جذوة الشوق متقدة إلى المكان الأول وهي سنة الحياة.  وقديما قال الشاعر:

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى       فما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى       وحنينه أبدا لأول منــــــــــزل

وفي كل صباح ترد الأخبار السيئة عن موت صديق أو خليل أو قريب عزيز, داخل السودان أو في المهجر، ما يزيد من تعكير صفو الحياة ويدق نواقيس الإنذار لقرب يوم الرحيل.

وأحيانا يفقد الزوج زوجته أو العكس فتصبح الحياة بلا طعم، ومعاناة لا معنى لها، ويذبل نوار الحياة. وما هي إلا بضع سنوات حتى يعتلي المحارب القديم قطار الرحلة الأخيرة ويلحق بمن مات ويصبح أثرا بعد عين!!!

 

آراء