رؤية متجددة نحو جمهورية ثانية رشيدة (2)

 


 

 



د.حيدر بدوي صادق*
حسنة الانقاذ الأولى هي أنها شكلت أول حكومة مركزية جادة تحكم وفق رؤية جادة، إختلفنا أم اتفقنا على صلاح هذه الرؤية أو فسادها. وما أكثر فسادها!  ويرتكز هذا المقال على كون الإنقاذ، ليست جسماً غريباً عن الكيان السوداني، وإنما هي نتاج حقيقي لواقعنا المتخلف، بخيره وشره. والمقال بهذا المعنى يفند السؤال التقريري لأديبنا الراحل الطيب صالح، تغمده الله بشآبيب رحمته،  حين قال "من أين جاء هؤلاء؟!" متعجباً من جبروت وقسوة ونزق الانقاذ وانقيادها لشهوة السلطة، واستهانتها بحياة وكرامة الإنسان السوداني منذ فجرها الأول. وبتطرقنا لحسنات الإنقاذ، مع  التأكيد الحازم على سيئاتها دون تفصيل، نقاوم التيار السائد وسط المعارضة السودانية التي لا ترى للإنقاذ أي فضيلة. وتغض هذه المعارضة الطرف عن فسادها هي نفسها، ملقية كل مساوئها على عتبات الإنقاذ، على الرغم من أن الإنقاذ ليست إلا بضعة منها هي نفسها.  وقد يأتي وقت للتفصيل حول هذه النقطة لاحقاً. المهم هنا أن نقرر أن حكومات الإنقاذ، بتلاوينها المتنوعة، أثبتت جديتها في الحكم المركزي القوي الذي يؤثر في كل أطراف الدولة تأثيراً فاعلاً، سالباً أو موجباً، وإن لم يستطع التحكم في إرادة ومصائر هذه الأطراف.  ولا تتبدى هذه كحسنة كبرى إلا حينما نراجع حكم الأحزاب الطائفية للسودان منذ الاستقلال.  فبجرد حساب إنجازاتها، على صعيدي إدراة الحرب ورعاية السلم،  يثبت أن حكومات الأحزاب لم يكن لها وجود يذكر في الهوامش إلا في مناطق الحرب.
وهنا أقول، ودون أدنى تردد، أن من حسنات الإنقاذ الأخرى، إضافة إلى الحكم المركزي القوي،  أنها اهتمت بالتحديث، بنظرة جادة ومتابعة هميمة، وتنزيل للمشروعات لأرض الواقع بقدرتفوقت معه على كل الحكومات الطائفية والعسكرية السابقة لها.  وهنا يجب أن يفرق القارئ بين التحديث، الذي قامت به الإنقاذ،  والتنمية المستدامة، التي فشلت الإنقاذ أيما فشل في تحقيقها.  فالتحديث محدود، وينشغل أكثر بالمناطق الحضرية، ويساهم في إثراء فئات على حساب فئات أخرى.  أما التنمية المستدامة فهي أشمل، وتحتوي كل الأفراد والجماعات في الدولة أو الكيان المعني.  وتشمل الأرياف والحضر، في سياق متوازن ينهض بكل فرد من أفراد الأمة في التعليم والصحة والإسكان وفرص العمل، والترفيه، وكل أسباب إعزاز حياة وكرامة الإنسان.  ولا يكون ذلك إلا بإشراك كافة فئات المجتمع في إدراة مواردها، وحكم نفسها، بنفسها.  هكذا يطرح مفهوم التنمية المستدامة في الأدبيات التي تتناول النهضة بالإنسان من ربقة الجهل والمرض والخوف.
ولا يغيب عن البال أن التحديث في عهد الإنقاذ أهتم بالمركز أكثر من أهتمامه بالهامش.  كما لا يغيب عن البال الكم الهائل من الفساد الذي ضمخ  تنزيل رؤية الانقاذ التحديثية لأرض الواقع. كما لا يفوتنا أن التحديث الذي تم ركز على خدمة مصالح النخبة الحاكمة، وتعظيم نفوذها السلطوي عن طريق"التمكين" الاقتصادي.  وقد أدى هذا إلى اختلال كبير في التوازن بين فقراء السودان وأغنيائه.  وبلغ  هذا الاختلال أن أصبحت  هناك فئة، جاءت من فقراء السودان، فأضحت نخبة، تتعالى على باقي الشعب،و تستنكف الزواج من الفئات الأخرى!  وهذه ظاهرة جديدة على الواقع الاجتماعي السوداني، أدخلتها لأول مرة في تاريخ السودان أساليب حكم الإنقاذ. وهنا أعني أن إدارة التحديث، والفساد المصاحب، وإثراء النخبة الحاكمة، كل هذه أدت إلى فساد في واقع الأحوال الشخصية يكاد يفت في عضد نسيجنا الإجتماعي، الذي ما زال، بفضل الله علينا، أقرب إلى التماسك منه إلى التفتت!  ولنعد إلى السياق الأساس للمقال.
نعم، هناك قدر كبير من الفساد صاحب التحديث، وقدر أكبر من إهمال الإنقاذ للريف, ولكن لا جدال على  أن الإنقاذ أفلحت فيما فشلت فيه الأحزاب الآخري في عهود حكمها من بسط لسلطة الدولة ومن تحديث ساهم في إيجاد بنية تحتية أفضل بما لا يقاس عما تركته حكومات تلك الأحزاب.  وفي إطار المقارنة بين الإنقاذ وغيرها نجد أن السلطة أتت طائعة مختارة، بفضل من الشعب السوداني للأحزاب الطائفية، مرة بعد الاستقلال مباشرة، ومرتين حين ثار شعبنا الأبي على حكامه وسلم هذه الأحزاب السلطة بيد بيضاء، من غير سوء، لحكامه الطائفيين الفاشلين!
وهنا يجدر بي أن أركز على هذه النقطة لصالح الجيل الذي لم تتح له فرصة دراسة تاريخ السودان الحديث بصورة شافية.  فالأحزاب الطائفية استلمت السلطة من الإنجليز بغير مقاومة تذكر، فهي لم تحاربهم، بل صانعتهم. فطرف منها صانع الانجليز ليضعنا تحت تاجهم.  وطرف آخر صانع المصريين ليضعنا تحت تاجهم.  وكان هؤلاء أيضاً مستعمرين.  ومن هنا جاء مسمى الحكم الثنائي، وقد كان في حقيقته استعماراً ثنائيا. بعد جلاء الاستعمار تسلمت الأحزاب الطائفية السلطة  ثلاث مرات.  مرة بعد الجلاء مباشرة،  ومرة بعد  الحكم العسكري الأول، نتيجة لتداعيات ثورة أكتوبر،  ثم مرة بعد الحكم العسكري الثاني، نتيجة لتداعيات إنتقاضة أبريل.  في كل هذه المرات لم تفلح حكومات الأحزاب في إقامة أي مشروعات تنموية تذكر، بل ظلت تتصارع على المناصب الوزارية كان السلطة غاية في ذاتها!   أما دورها في الثورتين فقد كان محدوداً للغاية، حيث عودتنا أنها تقود من الخلف. أي أنها تنتظر تركب الموجة الشعبية، ثم تدعي أنها هيجتها! 
ماذا، إذن، فعلت الأحزاب التقليدية؟  الحق إنها لم تفعل شيئاً يذكر بالسلطة التي جاءتها في طبق من ذهب.  فجل مشروعات التحديث (من تصنيع وعمران وتعليم وصحة) التي أنجزت في البلاد منذ الاستقلال، لم تنفذها غير الحكومات العسكرية، بما فيها حكومة الانقاذ.  ويحسب للإنقاذ أنها كانت أكثر تلك الحكومات جدية في هذا المجال. نقول هذا دون أن نقض الطرف عن الفساد الكبير الذي لازم هذه التجربة. 
نواصل
*جامعة الملك فهد للبترول والمعادن
haydar@kfupm.edu.sa

 

آراء