“رجل الشَّعب” لأشيبي.. الفجر الكاذب في نيجيريا ما بعد الاستقلال
الدكتور عمر مصطفى شركيان
16 June, 2012
16 June, 2012
shurkiano@yahoo.co.uk
لا ريب في أنَّ رواية "رجل الشعب" (A Man of the People)، التي نُشرت في الستينيَّات من القرن الميلادي، تسرد تجربة نيجيريا ما بعد الاستقلال من الاستعمار البريطاني العام 1960م. وكحال أيَّة دولة إفريقيَّة خرجت لتوها من براثن الاستعمار وألقت بمصيرها في أيدي القادة الوطنيين، كان الفساد المالي والسياسي والمحسوبيَّة والقبليَّة سمة راسخة عند هؤلاء القادة الجدد. وكان الشعار السائد في نيجيريا يومئذٍ هو ليس من المهم في الأمر ماذا تعرف، ولكن المهم هو من تعرف، في دلالة واضحة على المافسد والمحسوبيَّة عصرذاك. فكان هناك التناحر السياسي، والنزاع الطائفي، وكانت هناك مشاريع تنموية مهملة، ثم َّ كانت هناك الخدعة الكبيرة تحت راية الاستقلال، وشعارات الديمقراطية وهلمجراً. ونيجيريا – في ذلك الحين من الزمان – كانت ممزَّقة بين حزب تنظيم الشعب من ناحية، وبين حزب التحالف التقدمي المعارض من ناحية أخرى. وكان الأول هو الحزب الحاكم ويتمتَّع بأغلبيَّة مريحة في الحكومة ووسط الشعب، عكس الثاني الذي كان ضعيفاً ويعوزه النظام. ثمَّ جاء الركود في أسواق البن العالميَّة، وباتت الحكومة في أزمة ماليَّة خطيرة. إذ لم يكن البن المحصول النقدي الأول لاقتصاد البلاد فحسب، بل كان مزارعو البن يمثَّلون أنصار حزب تنظيم الشعب المخلصين. وفي تلك الأثناء وضع وزير المالية الدكتور ماكيندي خطة إسعافيَّة للحكومة لإنقاذ اقتصاد الدولة قبل أن ينهار . ولكن رفض رئيس الوزراء الخطة، لأنَّه لم يكن يرغب في المخاطرة بخسارة الانتخابات بخفض أسعار البن، التي تدفعها الدولة لمزارعي البن في هذه اللحظة الحرجة، برغم من أن ثلثي مجلس الوزراء صوَّتوا لصالح خطة الوزير الإسعافيَّة. وعلى النقيض أمر رئيس الوزراء البنك الوطني بطباعة 15 مليون جنيه. وفي الصباح التالي أعفى الوزراء، وأذاع في الناس ذلك النبأ في المساء، واتَّهمهم بالتآمر والتخوين، ووصفهم بأنَّهم هم أولئك الذين ائتمروا مع المخرِّبين الأجانب لتدمير الأمة الوليدة. فإذا الصحف السيارة تلتقط ما أذاعه رئيس الوزراء في الشعب، وإذا الجماهير تخرج في تظاهرات حاشدة هادرة مؤيِّدة لقرارات رئيس الوزراء، ومستهجنة في أعظم ما يكون الاستهجان "الوزراء الخونة"، وإذا تلك الجماهير تعتدي على بعض أولئك "الوزراء المنبوذين"، محطِّمة سياراتهم، وقاصفة بيوتهم بالحجارة، وإذا رئيس الوزراء يأخذ القضية إلى البرلمان، وإذا وزير المالية يبغي أن يدلي برؤيته للأمر، وإذا أعضاء البرلمان يسبونه في ألذع ما يكون السب، ويسخطون عليه في أعظم ما يكون السخط، ثمَّ إذا رئيس الوزراء يقول قولته ليجد الترحاب والتصفيق والامتنان من نواب البرلمان.
وفي هذه الأجواء البرلمانيَّة الملتهبة كان هناك صوت ظلَّ داوياً كالمدفع إساءة للوزير المفترى عليه، وتملقاً لرئيس الوزراء المتالق نجمه. وكان صاحب هذا الصراخ الصاخب هو الشيخ نانغا، الشخصيَّة المحوريَّة في الرواية. معلماً كان في مدرسة الكتَّاب، ثم أمسى نائباً برلمانياً لاحقاً في حزب تنظيم الشعب، كان نانغا شخصية فاسدة ومفسدة. والشاهد على ما كان يفعله – أو لنقل ما كان يفتعله – نانغا هو أوديلي ساملو، الشخصيَّة الراوية في الرواية، والذي رآه في البرلمان العام 1948م، وكان ذلك أول وآخر يوم زار فيه أوديلي مبنى البرلمان. فما هي الحكاية إذن؟
تبدأ الحكاية بزيارة الوزير الانتهازي الفاسد الشيخ نانغا إلى المدرسة التي كان يدرِّس فيها أوديلي، وما أن فرغ الوزير من خطابه ونال ما نال من التهليل والتصفيق والمصافحة والمجاملة، وشاهد ما شهد من الفنون المحليَّة، والعروض الشعبيَّة، حتى وقعت عيناه على ممرضة فاتنة حسناء. فإذا هو يهيم بها كما هام بنساء أخريات من قبل، ثمَّ إذا أوديلي هو ذاته تسيل لعابه في سبيل الممرضة إيَّاها، ولكن يكون الفوز من نصيب الوزير في نهاية الأمر لا شك في ذلك. ولا نحسب أنَّنا نغالي أو نتزيَّد إن قلنا كان الوزير زير نساء، برغم من أنَّه كان متزوِّجاً، مما استاء منه أوديلي، تلميذه السابق في المدرسة الابتدائية. بيد أنَّ انتظار أوديلي أمام باب الممرضة طوال الليل دون أن يحظى باستقبالها، بينما كانت هي في مضاجعة الوزير نانغا بالداخل قد أثار غضبه، حتى حين أصبح الصبح كشف عن هذا الغضب ورفض الحديث مع الوزير. فبينما كان عائداً مكسوفاً في الصباح الباكر والطير في وكناتها من بيت الفتاة التي لفظته في الليلة البارحة، وصف أوديلي نشاط مجتمع المدينة في تلك الساعات الأولى من الصباح، حيث رأى عمال الصحة يحملون جرادل مخلفات الإنسان على رؤوسهم، وشاهد الشحَّاذين يفترشون الأرض أمام المتاجر الكبيرة، ورأى مخبولاً صاحياً بجوار سلة الزبالة وهو يعتقد أنَّها ممتلكاته. ثمَّ مرَّ البص الأول فارغاً من أي راكب، وشاهد أنوار الشوارع تنطفي حوالي الساعة السادسة. فقد شاهد أوديلي كل ذلك، واستنشق هواء الفجر العليل، برغم مما كان في عقله من عذابات الليل الطويل، الذي انجلى ليرى كل هذه الأشياء تتداعى أمام عينيه. وقد تعلَّم عبرة بأنَّه ليس هناك تفكير – مهما كان عظيماً – يمتلك السلطة على الأشياء في استثناء غيرها. وفي أوابه إلى بيته كان يبحث عن كلمات مناسبة ليتحدَّث بها مع الشيخ نانغا. أما عن الفتاة ألسيي فكان عليه أن يدرك من قبل أنَّها عاهرة عامة، ومن الأفضل قلة الحديث عنها. فقد رأى أوديلي بأنَّه تعرَّض إلى إساءة بالغة بواسطة ذلك الرجل، مما لم يتعرَّض له شخص آخر من قبل. فليس لأحد الحق أن يعامله هكذا؛ هكذا كان يتأمَّل في الموضوع إيَّاه – ولا حتى في حال السيِّد والعبد. وقد قال إنَّ رجولته تتطلَّب أن يسدد له هذه الإساءة بمعيار كامل: في أسلوب جسدي ودموي في الآن نفسه، وأدرك أنَّه عليه أن يعود، ويبحث عن زوج نانغا، التي اختارها للمتعة، ويعطيها عملاً – أي الجيِّد والكامل من العمل. كل هذه الأفكار كانت تحوم في عقله في لحظة واحدة موجزة، وبدون سابق إخطار.
وفي إحدى اللقاءات الجماهيريَّة أقرَّ وزير الثقافة الشيخ نانغا بأنَّه لم يسمع بإحدى روايات القطر الشهيرة، ومع ذلك وجد امتداحاً شديداً وتصفيقاً حاراً في الحين الذي فيه كان يتنبأ بأنَّ البلد لسوف ينتج كتَّاباً عظاماً، أمثال: وليم شكسبير، تشارليز ديكنز، جين أوستين، جورج بيرنارد شو، مايكل ويست، ودودلي ستامب. وفي نهاية اللقاء تسابق إليه الصحافيُّون للحصول على كلمته، التي ألقاها، لتُنشر في الصفحات الأولى لصحائفهم، ويرشي بعضهم بعضاً حتى يلمِّعوا صورته في صحائفهم تلك، أو على الأقل يستنكفوا عن الكتابة عن فضائحه التي يعرفونها ويستغلونها لابتزاز الوزير.
ثمَّ ذهب أوديلي إلى زميل دراسة له في الجامعة وهو ماكسويل (المعروف اختصاراً ب"ماكس"). فبعد أن ظلَّ ماكس وبعض أصحابه يشعرون بالإحباط العميق من تصرفات الساسة الفسدة الأراذل، ويشاهدون الأوضاع التي آلت إليها البلاد، وتبديد الحرية التي اكتسبوها بعد جهد شاق وعمل مضن، فبعد أن رأوا كل ذلك قرَّروا أن يؤسِّسوا حزباً سياسياً باسم "مؤتمر الشعب العام"، حتى يكون بمثابة خلاص للبلد من الشرور التي ألمَّت به. وفي نقاشهم قبيل الإعلان عن هذا الحزب الجديد كان هناك جدال حول عدم وجود أعضاء مؤسِّسين من الناس البسطاء في هذا الحزب ما داموا يصفونه بأنَّه "مؤتمر الشعب العام"، وكان قول قائل منهم بأنَّ التأريخ يحدثنا بأنَّ الثورات التأريخيَّة العظيمة تبدأ دوماً بالمفكِّرين، وليس بالناس العاديين. فلم يكن كارل ماركس رجلاً عاماً، ثمَّ إنَّه لم يكن روسياً. وفي نهاية الأمر اتفق هؤلاء المجتمعون على ألا يعتقد الناس بأنَّهم شيوعيُّون، حتى لا يظن هؤلاء المجانين من الشعب بأنَّنا شركاء في كل شيء، حتى حاجاتنا الخاصة. إذ سيكون ذلك نهاية كل شيء، وهذه حقيقة واضحة.
وكان ماكس شاعراً يقرض الشعر قرضاً حسناً، منذ أيام الدراسة الجامعيَّة، وهو كان قد قصَّد قصيدة في أشهر السُكر بالآمال العظيمة والرغائب الوطنيَّة بُعيد الاستقلال، وها هو اليوم يتغنَّى بها كالرثاء على البلد وحال العوز والفقر التي صار يعاني منها المواطن النيجيري، وشرعت الدموع تسيل مدراراً من عيني أوديلي؛ وهي دموع في سبيل الأمل الذي مات في مهده. هذا، فلم يكن أوديلي عاطفياً، كما يبدو لنا، ولكن إنَّه لهو الحق. ولعلَّ القصائد السياسيَّة قد تهيمن على المشهد السياسي وتطغي عليه. فالقصيدة بطبيعتها أشدَّ وقعاً في النفوس، وأكثر تجاوباً مع مثل هذه اللحظات الانعطافيَّة في حياة الشعوب السياسيَّة، وأشدَّ انفعالاً بها. إذ اقتنص كثرٌ من الشعراء والشواعر مثل هذه اللحظات التأريخيَّة، ودبجوا القصائد على اختلاف أنواعها: عموديَّة أو حرَّة، قصائد نثر أو شذرات، ساعين وساعيات إلى تسجيل الحدث وترسيخه في الذاكرة كما في الوجدان العام. على أيَّة حال، فقصيدة ماكس، التي هي بعنوان "الرقص قرباناً للأرض الأم"، أعاد بوضوح السعادة ووعود السبع سنوات الماضية، والتي تبدو وكأنَّها سبعة أجيال. ويقول بعض أبياتها:
سوف أعود إليها في الدِّيار بعد أن تهتُ عدة قرون
ولسوف أقدِّم قرباني عند أقدام أمِّي الحبيبة:
سوف أبني بيتها، والأماكن المقدَّسة، التي اغتصبوها ونهبوها
ولسوف أجعلها خشبة سوداء ناعمة، كالبرونز أو الطين النَّضيج
ونيجيريا ليست ببريطانيا أو أيَّة دولة في الغرب، فحين يستقيل أحد في نيجيريا في ذلك الحين من الزمان لا شك في أنَّه يرنو بعينيه إلى فرصة كبرى. وحدث ذلك قبل عدة سنوالت حين بدَّل عشرة برلمانيين ولاءهم من حزب التحالف التقدمي عند افتتاح جلسات البرلمان، مما أعطى حزب تنظيم الشعب أغلبية مريحة في البرلمان، وذلك في سبيل الحصول على مناصب وزارية، وكذلك – كما أُشيع – مقابل مبلغ زهيد من المال. كل ذلك كان معروفاً، ولكن أوديلي وصحبه رأوا أنَّه من الأفضل أن يشرعوا في تأسيس حزبهم نظيفاً، وبنمطية فلسفيَّة جديدة.
ومع كل هذا الاضطراب السياسى، والاصطراع الاجتماعي، والنشاط الحزبي المحموم، فإذا نار الانتقام لم تخمد جذوتها بعد في قلب أوديلي مما فعله الشيخ نانغا حين اختطف منه الفتاة التي كان يهواها، أو بالأحرى لنقل هواها باعتبار ما كان، وإذا هو يزور "عيدنا" في بيت أسرتها، وهي أخت زوج الشيخ نانغا، والتي يرغب والدها الجشع أن ينكحها للشيخ نانغا – الوزير الذي يركب عربة كاديلاك، ويسكن في منزل ذي أربعة طوابق، ويتقاضى راتباً شهريَّاً عشرة أضعاف ما كان يتقاضاه وهو معلِّم، ثمَّ هل ننسى المخصصات الأخرى والاختلاسات والرشاوي! لذلك طمع والد عيدنا أن يزوِّجه ابنته الثانية، وكان شعاره "إذا فشلت في اختطاف سيف الرجل القوي وهو مستلقي على الأرض، فهل تستطيع أن تفعل ذلك حينما ينهض!"
ثم أعلن وزير التجارة الخارجية الحاج الشيخ السيناتور سليمان وقادا زيادة الضرائب على السلع المستوردة بنسبة 20%، أي على أنواع محدَّدة من بضائع المنسوجات في رأس السنة. وفي كانون الثاني (يناير) نشر حزب التحالف التقدمي المعارض أدلة دقيقة تكشف بأنَّ أحد أعضاء الحكومة قد أنذر شركة "أملقميتيت" البريطانيَّة عن خطط الوزير مسبقاً في شهر تشرين الأول (أكتوبر) واتخذت الشركة خطوات لاستيراد المنسوجات في ثلاث سفن في منتصف كانون الأول (ديسمبر). ومن هنا انقسمت الحكومة بين عشيَّة وضحاها إلى معسكرين متناحرين في أعنف ما يكون التناحر السياسي. فهناك الذين رأوا أنَّ على الحكومة أن تقدِّم استقالتها، وهناك – مثل الشيخ نانغا – من رأى أنَّ المسألة تخص وزير التجارة الخارجيَّة وحده لا شريك له، وإذا جاء شأن الاستقالة فعليه أن يستقيل هو وحده. وأخذت هذه الأدران تطفح وتطفو، حتى أمست الحكاية مادة إعلاميَّة دسمة. فعلى سبيل المثال نشرت صحيفة "ذا ديلي ماتشيت" قصة عرضت فيها الشيخ نانغا، الذي كان ذاته وزيراً للتجارة الخارجيَّة حتى قبل عامين، قد مارس نفس النمط من الفساد، وشيَّد – مما تحصَّل عليه من "أرباح" – ثلاث عمارات تحتوي على فيلات فاخرة، وتبلغ قيمة كل واحدة منها 300000 جنيهاً باسم زوجه، واستأجر هذه الفيلات لشركة "أملقميتيت" البريطانيَّة بسعر 1400 جنيهاً شهرياً. ففي بادئ الأمر نشرت الصحف السيارة هذه الفضائح بالتلميح، ولكن ما أن أقبل الأسبوع الثاني حتى ألقت هذه الصحف بالقيود والحذر بعيداً تذروها الرياح، وصارت البلاد على وشك الفوضى والانهيار. وعلت الأصوات من نقابات العمال واتحاد الخدمة المدنيَّة وأعلنوا عن إضرابات عامة في البلاد، وأغلقت المحلات التجاريَّة تحسباً لأيَّة أعمال شغب ونهب، وأُشيع بأنَّ الحاكم-العام قد أمر رئيس الوزراء بتقديم استقالته، مما أقدم الأخير على ذلك بعد ثلاثة أسابيع لاحقة.
وفي هذه الأثناء استقدم ماكس أوديلي للتشاور، على أن يكون حاضراً لحظة الإعلان عن الحزب الجديد، بعد أن أُخِذوا على حين غرة بالأحداث المتصاعدة والمتسارعة. وإذا أوديلي يجرؤ على خوض الانتخابات في دائرة الشيخ نانغا، التي تتكوَّن من خمس قرى، بما فيها قرية نانغا، وهي عناتا، وقرية أوديلي، وهي أوروا؛ وإذا هو يفكِّر في تجنيد حرس خاص له، وفي الحق يفعل ذلك؛ وإذا هو يتسلَّح بالأسلحة البيضاء وأخرى ناريَّة للدِّفاع عن النَّفس؛ وإذا هو يذهب إلى أسرة عيدنا برغم من أنَّه قد أُنذِر من قبل على ألا يعود إليها؛ وإذا هو يتعلَّل بأنَّه قد جاء ليطلب منهم أن يصوِّتوا له في الانتخابات القادمة؛ وإذا هو ورفاقه يعلنون عن ميلاد حزبهم الجديد في منزل أوديلي برغم من أنَّ والده كان مسؤول حزب تنظيم الشعب (حزب الشيخ نانغا) في القرية؛ وإذا والد أوديلي يتعرَّض للضغوط كي يقنع ابنه لترك الانتخابات ويذهب إلى الخارج في منحة دراسيَّة ويصر أوديلي على موقفه ويعنف في الإصرار؛ وإذا والده يُفصل من رئاسة الحزب في القرية تحت تهمتي الإغواء وممارسة أنشطة معادية للحزب؛ وإذا أصبح الصبح جاء موظَّف الضرائب إلى والد أوديلي بفاتورة ليست بناءاً على معاشه البالغ 84 جنيهاً في السنة فحسب، بل على دخل بلغ 500 جنيهاً من أعمال تجاريَّة مزعومة؛ وفي ذلك المساء إذا رجل الشرطة يحضر إلى منزلهم أيضاً ويعتقل والد أوديلي ويقيِّده، حيث استطاع أوديلي تخليص والده بارتشاء الرجل الشرطي ب24 جنيهاً كان يملكه، وهو مبلغ حزبه (أي مؤتمر الشعب العام)، ثمَّ إذا جاءت نهاية الأسبوع أقبلت سبع ناقلات تابعة لوزارة الأشغال العامة إلى القرية وأخذت الأنابيب التي كانت قابعة في مكانها لعدة أشهر خلت لهدف تنفيذ مشروع مياه الريف.
وفوق ذلك كله، تجرأ أوديلي وذهب لحضور حملة الشيخ نانغا متنكراً بالطاقية ونظارات شمسيَّة، ولكنه أُكتشِف أمره، وضُرِب ضرباً مبرحاً بواسطة أنصار نانغا، حتى كسرت ذراعه وأُصيب بندوب عدة في رأسه، ودخل في إغماء عميق لم يفق منه إلا في المستشفى. وفي حينها علم أنَّ ماكس قد قُتِل في حادث سيارة مدبَّر، وانتقمت عشيقته بفتح النار من غدارة كانت تحملها في حقيبتها على القاتل قبل أن تلقي الشرطة القبض عليها وتودعها السجن، وفاز الشيخ نانغا دون منافس أو معارض له. ومن بعد، حاول أن يسرِّح جيشه الخاص، ليقي نفسه من نفقات الصرف على أفراده، ولكن رفض هذا الجيش الانصياع للأمر، وأشعلوا معركة صغيرة فقد فيها دوغو (حرسه الخاص ذو العين الواحدة) أذنه. ومن ثمَّ انفرط عقد الأمن، وخرجت هذه الميليشيا الخاصة من إطارها ينهبون من سوق إلى آخر في المنطقة، ويسطون على مقتنيات النساء ويضربون الناس، حتى فقد أحدى زيجات والد أوديلي سمكاً في سوق القرية في إحدى هذه الإغارات العشوائيَّة، وعادت إلى البيت بدلاً من ذلك بوجه متورِّم. وفي هذه اللحظات أذاع رئيس الوزراء، الذي أعاد تعيين الشيخ نانغا في الحكومة وكل الوزراء السابقين، في الناس من خلال المذياع أنَّ الحكومة تسعى سعياً حثيثاً لاجتثاث أعمال الشغب والإجرام بدون رحمة. وأكَّد للمستثمرين الأجانب أنَّ أموالهم في مأمن داخل البلاد، وإنَّ حكومته لتقف بصلابة كجبل طارق في سياستها الاقتصادية ذات الباب المفتوح. أما الشعب أنفسهم فقد باتوا يسخرون أكثر من قادتهم، وأخذوا يردِّدون مقولة: "دعهم يأكلون – في إشارة إلى أعضاء الحكومة والمسؤولين الآخرين – إذ كان الرجل الأبيض يأكل وحده، وهل أقبلنا على الانتحار؟" بالطبع، كلا! هذا، فقد انتشر العنف والعنف المضاد حتى عمّ البلاد كلها، وأصبح الأمر لا يُطاق، مما اضطرَّ الجيش للتدخل في انقلاب عسكري، وتمَّ اعتقال أعضاء الحكومة السابقين كلهم أجمعين أبتعين، حيث تم القبض على الشيخ نانغا وهو يحاول الهروب بواسطة مركب، ومتنكراً في زي صائد الأسماك.
وفي نهاية المطاف ارتضت عيدنا بأوديلي زوجاً لها، أو بالأحرى لنقل، ارتضى والدها أن يزوِّجها لأوديلي بعد ذهاب نانغا، وفي ذلك عملاً بالمثل القائل: "عصفورٌ في اليد يساوي اثنين في الأجمة، أو ثلاثة في الأجمة، أو مائة في الأجمة،" والأجمة هي الشجرة؛ ويقابله في العربيَّة "عصفورٌ في اليد خير من عشرة في الشجرة،" أو قول العرب في أمثالهم: "بيضة اليوم خيرٌ من دجاجة الغد." أو المثل السُّوداني العامي "جرادة في اليد ولا ألف طائرة." مهما يكن من شأن، فقد استطاع أوديلي أن يسدِّد المهر الذي دفعه الشيخ نانغا لوالد عيدنا حسب التقاليد والأعراف القبليَّة، وكذلك وافق أوديلي أن يدفع التكاليف الأخرى التي دفعها الشيخ نانغا برغم من معارضة والده. وقد استخدم أوديلي في ذلك مال الحزب، الذي بات محظوراً على أيَّة حال.
لقد أثارت رواية "رجل الشعب" حفيظة السلطات الحكوميَّة في نيجيريا، وفضولاً عارماً وسط الشعب بعد نشرها متزامنة مع الانقلاب العسكري الذي أطاح بالحكومة المدنيَّة في كانون الثاني (يناير) 1966م، وذلك نسبة لنهايتها الاستباقيَّة. وكيف لا ومؤلِّفها إنسان عين الأدب الإفريقي! وتمثِّل الرواية هجاءاً تفكهيَّاً لاذعاً للفساد التعيس الذي هدَّد سير الساسة، بما فيهم الشيخ النبيل م أ نانغا، عضو البرلمان، الذي كان رمزاً لهذا الفساد، وهو كان يمثِّل صورة جميلة ساخرة مستدركة للإنسان المخادع الوصولي، والثرثار الزئبقي الذي قد يسحرك بالكلام. وفي الجانب الآخر، ضد نانغا، يقف أوديلي: ذلكم الشاب العفيف القاص في الرواية، وذو الإحساس الذاتي في البحث عن الحقائق والغوص في أعماق الأشياء، حتى لو كان هذا الغوص ينذر بالخطر. وإنَّك واجدٌ الحقيقة اللطيفة في الرواية في كيفيَّة اقتراب أوديلي، صاحب الشخصية الجذَّابة والبطل الأسطوري، إلى الهلاك، وذلك في اللحظات التي فيها اغتاظ نانغا السخيف الثائر؛ وهذه هي بالضبط والربط ميزة أوديلي الجذَّابة كل الجذب. وحماسه الحسي للحياة كاد أن يضعه في خطر أكبر، مما بات ينذر بأن يصبح هو نفسه نانغا آخر، ذلكم الدهماوي(1) المستضخم، الذي انتهى في ركام من الزبالة. ومناط الجدارة في هذه الرواية بساطتها الآسرة، وعمقها الناقد، وجسارتها اللافتة في إدانة فساد الإنسان للإنسان، والقبول الساذج للتصورات السياسيَّة الجاهزة عن الحياة الاجتماعية. إذ لا يُظهر أشبي ذلك عبر مقولات إيديولوجيَّة زاعفة، بل من خلال حوارات تقليديَّة مباشرة وانحياز جمالي تبرزه مواقف السرد الممتع الجذَّاب داخل الرواية، وفي وحدة المكان الروائي. ومع ذلك، ارتكز أشيبي إلى توظيف السخريَّة والرمزيَّة في هذه الرواية بهدف إيصال رسائله إلى جميع فئات الشعب النيجيري في شكل سلس وشيِّق بعيداً من التعقيد النظري أو الإيديولوجي. والسخريَّة التي نعنيها هنا هي التي ترقى إلى التهكُّم، والتهكُّم جانب من جانبي المنهج السقراطي، وبه كان يثير الشكوك نحو معارف محاوره مع تصنُّع الجهل. ويعد التهكُّم طريقة في النقد، والتهكُّم ليس معناه السخريَّة بالمفهوم المتعارف عليه في حياتنا، ولكنه تهكُّم قصد به سقراط إثارة التفكير للوصول إلى الحقيقة وتنقية الأذهان من المعلومات الخطأ، وتطهيرها من القضايا الكاذبة المغلوطة التي غرسها السوفسطائيُّون في النشء والمجتمع الأثيني. وبالطبع، وكعادة أشيبي دوماً، نجد أنَّ الرواية غنيَّة بالأمثال والأقوال المأثورة في المجتمع النيجيري بشيء يشي بحال نفسيَّة ضاغطة، حتى ذهب النَّص عميقاً في التحليل النفسي العميق للشخصيات، والتَّصوير الاجتماعي والسياسي الدقيق للأحداث، مما أخذت تتلاحق التساؤلات وتتوالى أساليب الاستفهام والتعجُّب.
مهما يكن من شيء، فقد تركت روايات تشنوا أشيبي وأعماله كمحرِّر لسلسلة الكتَّاب الأفارقة أثراً درامياً في ازدهار الأدب الإفريقي. وإنَّ بعضاً من القصص المنشور له في "البنات في الحرب"، وبعض القصائد المنشورة في "أحذر يا شقيق الروح"، قد وُضع أثناء الحرب الأهليَّة النيجيريَّة في الفترة ما بين (1966-1967م)، ونشر مقالاته العام 1975م تحت عنوان "الصبح لم يحن بعد في يوم الخلق". ولكتابات أشيبي نهكة إفريقيَّة خاصة تظل بائنة بين ثنايا أسطر أشعاره ورواياته. إذ تفوح من أعماله الأدبيَّة رائحة الجمال والتسرُّد، الذي طرز به عبارات إبداعيَّة مضيئة ومشرقة في الحركة الثقافيَّة في إفريقيا خصوصاً، ومتجاوزاً بها أقرانه في تمجيد الإرث الثقافي الإفريقي إلى العالم عموماً، ومرسخاً الأدب الإفريقي إيَّاه في أعماق الإنسان الإفريقي ووجدانه.
المصادر والإحالات
(1) الدهماوي هو المهيِّج أو الخطيب الشَّعبي، الذي يستغل الاستياء الاجتماعي لكسب النفوذ السياسي.