رداً على مقالي الأخيرة "إنهم يخسرون الجياد" جاءتني رسالة توقفت عندها كثيراً دون غيرها من الرسائل التي وصلت من اصدقاء انفصم عقد الوصل بيني وبينهم منذ زمن الجامعة.
الرسالة كانت من النطاسي الإنسان الأخ الدكتور أحمد عثمان سراج...
سراج زميل نضال في المؤتمر الإشتراكي ثم الإتحاد الإشتراكي الديمقراطي الذي ترأسه ذات عام من اواخر ستينات القرن المنصرم.
طلاب الطب كانوا قليلاً ما يشتركون في العمل السياسي المباشر، لطبيعة دراستهم وبُعد كليتهم وداخلياتهم من المبني الرئيسي للجامعة...سراج كان استثناءا من تلك القاعدة...امتهن العمل السياسي منذ أن كان ذلك النشاط يُشكل خطاً أحمراً في المدارس الثانوية...فكان عضوا بتنظيم البعث الطلابي ثم اللجنة التنفيذية لإتحاد خورطقت الثانوية التي تم فصلها من الدراسة في عام 1963...وعندما دخل الجامعة لم يجد مكانا يحتوي افكاره سوى المؤتمر الإشتراكي الديمقراطي...
للإشتراكيين الديمقراطيين بشقيهما المؤتمر الإشتراكي والجبهة الإشتراكية، تراث راسخ في إدارة إتحاد طلاب جامعة الخرطوم، فقد ظلوا يشكلون اكبر كتلة داخله منذ بداية ستينات القرن العشرين...وعلى مدى سبع دورات متتالية ترأسوا مجلسه الأربعيني، حيث كانوا على التوالي عمر صديق عثمان، دورة 63/64، وابوبكر عباس 64/65، ثم د. محمد نوري الأمين دورة 65/66 وهي نفس الدورة التي ترأس الإتحاد فيها د. اسماعيل الحاج موسى من الجبهة الإشتراكية، ثم الأستاذ فضل الله محمد فضل الله دورة 66/67 وقد ترأس اتحادها د. خالد المبارك، ثم دورة 67/68 وقد ترأس مجلسها الأربعيني د. صلاح الدين الزين الطيب ولم يتم تكوين اللجنة التنفيذية في تلك الدورة لتساوي الأصوات داخل المجلس، أو ما اعتاد الطلاب على تسميته بال deadlock، ثم دورة 68/69 وهي تلك الدورة التي ترأسها د. أحمد عثمان سراج، وكان على رأس الإتحاد فيها المرحوم عبد العظيم حسنين من الجبهة الديمقراطية وكانت السكرتارية من نصيب الإشتراكيين الديمقراطيين أيضاً...
آخر لقاء لي به كان في نادي الأساتذة صبيحة السبت الأول من يوليو من عام 1989...كان القوم كأنما على رؤوسهم الطير...خلفهم تجربة ديمقراطية فاشلة يخجلون من الدفاع عنها، وأمامهم مستقبل مجهول استعصى فهمه على الجميع...
كان سراج يتجاذب اطراف الحديث مع نعمات مالك وآخرين حول كيفية تفعيل ميثاق الإنتفاضة وإعلان الإضراب العام الذي أقروه في ذلك الميثاق...بروف محمد عمر بشير العائد لتوه من جنيف كان يعبر عن وحشة المدينة في غياب صحبته الذي كنت أحدهم...كما كان هناك د.عبد السميع عمر الذي لم يدر بخلده وقتذاك أنه سيكون يوماً ما النائب العام المدافع عن جرائم انقلابيين كان يجهل هويتهم...
كان قادة الإنقلاب مجهولين تماماً لم يسمع بهم أحد من الذين صدف تواجدهم في نادي الأساتذة...
د.هنود ابيا كدوف ذكر في ذلك المكان وذلك الزمان من التاريخ إنه يعرف من الانقلابيين إبراهيم نايل ايدام، لكنه لا يعرف له إنتماءا سياسيا، ثم استدرك قائلاً "إلا أنه ليس على علاقة طيبة بكل ما هو يساري"...وربما كان ذلك مؤشرا مبكّرا لطبيعة الإنقلاب...
نادرا ما تجمعك الصدف برجالٍ في قامة أحمد عثمان سراج...لذا تفهمت موقفه عندما ذكر لي دكتور محمد يوسف أحمد المصطفي إنه حاول المستحيل لإثنائه عن قراره بالإبتعاد عن العمل السياسي المباشر...
سراج رجل على قدر من الشفافية لدرجة تستطيع معها الرؤية من خلاله...يتمتع بنقاء وطُهر الثوري أكثر من براغماتية السياسي...وهو أمر يجعله أقرب إلى تشي جيفارا منه إلى فيدل كاسترو إن جاز التشبيه...يغشى الوغى ويعف عند المغنم، لذا لم يخطر بباله أن يكون وزيراً عقب الإنتفاضة رغم أنه كان من صانعيها، وكان رأيه دوماً أن مكانه الطبيعي مع بقية ابناء الشعب الغبش المهمشين...
طيلة سنواتي في جامعة الخرطوم لم أرى رئيسا للمجلس الأربعيني نال ثناءاً وإطراءا مثل الذي ناله أحمد عثمان سراج في إدارته لذلك المجلس...
له مقدرة عالية على تقبل الرأي الآخر، ولا يضيره شيء إذا اقتنع برأيٍ أن يتبناه...لم تأخذه يوماً العزة بالنفس أو يصعّر خدّه للآخرين، لذا قال عنه إدوارد لينو في الجلسة الأخيرة لتلك الدورة but only you Mr. Chairman "لا أحد سواك يا سيادة الرئيس"...قالها ادوارد في انجليزيته الجميلة معبراً فيها عن تقديره كسائر رؤساء الكتل الأخرى الممثلة بالمجلس لسماحة د. سراج في إدارة الجلسات...وأنا هنا اتحدث عن طالب لم يتجاوز عمره وقتذاك الثالثة والعشرين، وللقارئ تقدير المدى الذي وصلت إليه تلك الحكمة المبكره بعد كل هذه السنين... تلك كانت الدورة التي تسلم فيها على عثمان محمد طه رئاسة الإتحاد، ودالت من ثمّ دولة اليسار والإشتراكيين الديمقراطيين من وقتها......
في أحداث 11 مارس 1971 التي تمر ذكراها هذه الإيام، استدعيناه على عجل بعد أن استعصى علينا الأمر، فقد كان في سنته الأخيرة وأيام مذاكرته الأخيرة، وهي الأيام الوحيدة المتاحة للطلاب المشتغلين بالسياسة للحاق بما فاتهم من دروس...اذكر جيداً ذلك اللقاء المشهور الذي حدثتكم عنه في مقال سابق، ليل التقينا الرائد ابو القاسم محمد إبراهيم في منزل الأخ هاشم التني، كان أحمد فارس الحوبة يتحدث إلى الرائد ابو القاسم وكانما أحمد الوزير وذلك الرجل طالب مذنب يقف أمامه...تلك كانت بعض صفات قيادات الطلبة في ذلك الوقت، غير أن أحمد كان، بالإضافة إلى الثقة بالنفس، يتمتع بشجاعة غير معهودة، وكم كان بروفسير عمر محمد عثمان يستعيذ من الشيطان عندما يدخل عليه قادة الإتحاد، ولكم كان د. جعفر بخيت يتجنب لجاج زميلينا الخاتم عدلان وعلى آدم محمد صديق...
عندما اصطفت الدبابات أمام الجامعة في يومٍ كهذا قبل سبعة وثلاثين عاما، وبدأ الرائد أبو القاسم يتوعد من خلال المكرفون بفك اعتصام الطلاب بالقوة، قال سراج: "ما أشبه الليلة بالبارحة، هذا الأمر يذكرني بأكتوبر 1964، لن يكون مكاني إلا في مقدمة هؤلاء الطلاب"...
سراج زميل أحمد قرشي طه بكلية العلوم وضمهما السكن بداخلية الدندر، وقد كان شاهداً على أحداث اكتوبر التي لم نكن من حاضريها في الجامعة...
كنا في ذلك الشارع المحاط بالجند والعتاد العسكري، وقد بلغت القلوب الحناجر، نناقش خالد حسن عباس القائد العام ووزير الدفاع الذي اتهمنا بعدم الثورية بإثارتنا موضوع استقلالية الجامعة دون تحسب لدور المتربصين بالثورة، ووصف الطلاب المصطفين داخل الجامعة بالرجعية واذناب الإستعمار لذا لن تأخذه شفقة باستعمال القوة في مواجهتهم... قال له سراج في حضور الرائد ابو القاسم هاشم وزين العابدين عبد القادر: "إذن سنكون أول من يموت من هؤلاء الذين تصفهم بالرجعيين"...
وقتها كانت راسه في محازاة فوهة مدفع الدبابة الموجهة نحو بوابة الجامعة الرئيسية، ورغم ذلك لم يسْلم كتفه من ضربة سيخة جاءت من وراء ظهره من أحد طلاب الاتجاه الإسلامي الذي أصبح فيما بعد من أثرياء القوم بفضل دبابات أُخر جاءت به إلى السلطة والمال...
بعد انفضاض المسألة ذهبنا سويا إلى غرفتي في داخلية بحر العرب، حيث لم يكن الذهاب إلى داخلية الطب ممكناً في ذلك الجو المكهرب، فقد كان يوماً عبوساً قمطريرا وقاني الله شر مثله فيما أتى لاحقا من ايامي...
بعد أن تخرجنا بدأنا العمل في خلق نواة حزبية للاشتراكيين الديمقراطيين تضم كل خريجي الجامعات والمعاهد العليا، إذ لم يكن لذلك التنظيم أي وجود سوى في المجتمع الطلابي الذي كان يسيطر على الكثير من اتحاداته...
كانت اجتماعاتنا تعقد تارة في بيت الشباب حيث كنت اسكن وطورا في ميز الأطباء في غرفة دكتور سراج، ولم نكن ندري أن تلك المجموعة كانت مراقبة من قبل أمن النميري الذي داهم ذات مساء غرفة د.سراج ووجد عنده من الوثائق ما اوجب استدعاءه والتحقيق معه فيما ورد فيها من أمور كنا نتداول حولها وأسماء مشفرة للمشاركين...
المحقق كان عبد الوهاب إبراهيم مدير الأمن العام واشترك معه في التحقيق نائبه خليفة كرار...تمترس سراج خلف شجاعته المعهودة ورفض الإفصاح عن أسماء المشاركين...إلا أن جهاز الأمن لم يكن لديه مشكلة في الوصول إلى الجميع، فكلهم معروفون بنشاطهم الطلابي السابق، ويبدو من طبيعة التحقيق على ذاك المستوى العالي، أن الجماعة قد أخذوا الموضوع بجدية مفرطة...وقد كان من أسباب منعي من الالتحاق بديوان النائب العام لاحقاً تقرير يقول بأنني أعمل على إنشاء تنظيم يعمل على قلب نظام الحكم، وهو أمر سخر منه ومني معاً د. ذكي مصطفى النائب العام وقتذاك وأمر بإلحاقي بعد شهر من التحاق زملائي بديوان النائب العام...
في ذات يوم زرت د.إسماعيل الحاج موسى وزير الدولة للإعلام وأخبرته بأنني مررت على سراج وصديق أمبده في لندن ورأيت بؤس حالهما، وكان نظام نميري قد قطع عنهما ضمن طلاب آخرين، مخصصات البعثة عقب أحداث يوليو 1976 حيث رفض اتحاد الطلبة السودانيين بالمملكة المتحدة وايرلندا إرسال برقية تهنئة بسلامة الرئيس من محاولة الغزو تلك...
هدفي كان إرجاع مخصصات الطلبة حتى يتمكنوا من إتمام دراستهم والعودة لخدمة البلد الذي ابتعثهم لذلك الغرض...
قال إسماعيل: أن سراج اصبح في خدمة البعثيين العراقيين ضد الوطن...
قلت: أنك تعرف أحمد قبل أن اتعرف عليه أنا، وقد عملتما سويا في مجلس الإتحاد وتعرف تماما أن ليس هناك من يستطيع أن يشتريه ولو دفع له مال قارون...قال: ذلك ما قالته عنه تقارير الأمن...قلت أجهزة الأمن ذكرت في وقت سابق إنني اعمل على قلب نظام الحكم رغم أنني لم اشترك في فرقة "كاديت" مدرسي...
أحمد كان أمين المال في اتحاد الطلبة العرب في المملكة المتحدة وايرلندا...هذا الإتحاد كان في ذلك الوقت تحت قيادة الطلبة البعثيين العراقيين، إلا أن السودانيين كانوا على الدوام في لجانه التنفيذية تسعفهم في ذلك خبرة واسعة في العمل الطلابي، بالإضافة إلى تواجدهم الكبير في الدراسات فوق الجامعية... وقد ترأسه ذات دورة الدكتور كمال شداد...
هذا الرجل لا أدري أي ريح قذفت به إلى كرة القدم ومجتمعها البئيس، لقد كان يتمتع بأفق سياسي كبير وربما مستقبل سياسي أكبر، غير أنه يبدو أن أساتذة المنطق لهم منطق لكل شيء...
عاد سراج إلى السودان عقب المصالحة الوطنية بينما لم تتخلى عنه السياسة أو يتخلى عنها، فبينهما زواج كاثوليكي، كان نشيطاً في نقابة الأطباء ونقابة أساتذة الجامعة ومن ثم القيادة الفعلية للانتفاضة...
مع آخرين أسس تضامن قوى الريف الذي كان من بين قياداته الأب فيليب عباس غبوش والأخ ادوارد لينو...
سراج على علاقة وثيقة بالهامش وبجبال النوبة على وجه الخصوص، إذ أنه نشأ وترعرع في قرية امبرمبيطة حيث عاش آل سراج في ذلك الصقع من الديار...عرف مآسى تلك البلاد منذ طفولته الباكرة وأنتمى لإهلها رغم أن اسرته مهاجرة من ديار الجعليين في شندي...
النضال مسألة جينية، لا يكتسبه المرء بغتةً، إنه حس غريزي بإحقاق الحق، وهو بالتالي يبقى مع الإنسان حتى الرمق الأخير من حياته، لذا تراني لا اتوقف كثيرا عند ظاهرة الذين تم شراؤهم بثمن بخس ممن كانوا يوما في صفوف اليسار، فقد كان النضال مطيتهم لإغراض أخرى حققها لهم نظام الإنقاذ...
والمناضل يظل لصيقا بالآم شعبه متمسكا بحتمية العدالة الإجتماعية للفقراء والمهمشين...إنه طريق واحد لا ثان له، أما الإنحياز للغبش والمهمشين أو الإنحياز ضدهم، وقد أختار سراج الطريق الأول وسار به إلى حافة الموت دفاعا عن صف الضباط الذين تمّ اتهامه بالتستر عليهم في سبتمبر 1990...
قلت لنفسي وقد سمعت بذلك الحُكم، كيف يجرؤ إنسان سوي على ايقاف قلب بهذا القدر من السعة؟ وكيف يمكن لإنسان مهما بلغ به السفه أن يتجرأ بإنهاء حياة عامرة بالعطاء والخير وحب المساكين؟ لكنها سفينة الإنقاذ المليئة بالشر، لا مكان فيها للخيّرين...
لم يكن في اليد حيلة سوى الإتصال بالمنظمات الدولية...أخذت بعضي وذهبت لمنظمة الصحة العالمية...فسراج طبيب وليس ككل الأطباء، كانت عيادته مفتوحة للسائل والمحروم حتى ضجّ زملاؤه من ذلك، فأغلقها وتفرغ للتدريس والعمل في مستشفى الخرطوم...وكان الصديق "اريك سوتاس" مدير المنظمة العالمية لمكافحة التعذيب خير معين بإمطاره حكومة الخرطوم بالآف البرقيات المستنكرة من شبكة المنظمات المنتشرة في كل اصقاع الدنيا...
أبو عمار، الله لا يجيب يوم شُكرك......أعرف أنك لا تطيق ما ذكرته عنك من كلمات طيبات هن بعض من الحقيقة التي تختزن مذكراتك أضعافا مما ذكرته منها، فأنت اكبر من أن تُمدح في حياتك...وأعلم تماماً أنه لم يكن ولن يكون همك السلطة كما هي للآخرين، فبها من الدنس ما يجعل مياه المحيطات تتسخ...
مسئوليتنا كيفية التصدي لهذا الفكر الظلامي وتلك العقلية الغوغائية التي صارت تسيطر على السودان والعالم الإسلامي هذه الأيام... فأدخلته في غيبوبة حضارية تحتاج جهد أمثالك لإخراجه من غرفة العناية المركّزة...ومصير البشرية يظل رهيناً بالحرية السياسية والعدالة الاجتماعية، وتلك قناعة توصلنا لها معا منذ عهد الطلب...ولا أخالك ستخذل شعبك بالوقوف بعيدا عنه...ستظل أنت أحمد الذي عرفته وعرفه كل معاصريه، "رجلا من طراز فريد"... //////////////////////