رسالة إلى المناضل عمر الدقير

 


 

 



بسم الله الرحمن الرحيم

كدتُ أطير من الفرح لفوزك الكاسح برئاسة حزب المؤتمر، على الرغم من أننى كنت أتوقعها منذ مغادرتك غير المتوقعة لأبوظبي فى مطلع العام المنصرم، إذ كنت أحس بأن هناك من يعرف قدرك ومن سيضعك فى المكان اللائق بك؛ بيد أنه فرح يظلله إشفاق عليك من الأمانة التى حملتَ بينما عجزت عن حملها الجبال، وهو إشفاق لم يدم طويلاً لمّا تذكرت عمر الغضنفر الصنديد، واسع الصدر طويل البال، الذي يجأر بالحق عندما يطأطئ الآخرون هاماتهم طمعاً فى دنيا زائلة أو اغتراب يجعل منك مجرد عمالةرخيصة أو خوفاً من جلاوزة الأمن؛ ولمّا تذكرت أن بناة الحركة الديمقراطية التقدمية والعمالية والفلاحية كانوا فى أعمار تقل عن نصف عمرك وعمر المناضل إبراهيم الشيخ الآن، فعندما تفتقت أكمام الحزب الشيوعي مستظلاً ب"الجبهة المعادية للإستعمار" عام 1946 وبدأت أول نقابة للعمال فى عطبرة "هيئة شؤون العمال" عام 1947 كان مهندسوها – عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ وقاسم أمين والجزولي سعيد وابراهيم زكريا – فى الطاشرات teenagers والعشرينات من أعمارهم: (ولد عبد الخالق عام 1927 وولد الشفيع عام 1924).

?ولقد فرح بكم وبحزبكم وبمؤتمركم الخامس كل الوطنيين السودانيين المناوئين للحكم الدكتاتوري الراهن، كما شهد بذلك ممثلوهم الذين أتوا من كل فج عميق وخاطبوا مؤتمركم التاريخي بأشخاصهم أو عبر الفديو كونفرنسنق. وتأكد يا أخ عمر أن شعبنا يعوّل عليكم كثيراً رغم تركيزكم على فئة الطلاب والشباب ومثقفي الأسافير، فالمسرح جاهز أمامكم والأبواب مشرعة لكي تنفذوا منها إلى جميع إثنيات وطوائف وفئات وطبقات المجتمع، كما فعلت الحركة التقدمية منذ بواكيرها. وقد شاخت الأحزاب الأخرى وتكلّست وزهمرت وشبعت انشطاراً أميبياً، وفعلت بها دكتاتورية الإخوان الأفاعيل، بالرشي والإفساد والتلويح بالإشراك فى الغنائم، أو بالتدجين والبطش والكبت وقطع الأرزاق والملاحقة، فتحولت إلى شراذم من ال zombies الزومبيات (البعاعيت)، وإلى هررة تحكى انتفاخاً صولة الأسد. فما هي هذه الأحزاب التى عبرت عن الحركة الوطنية منذ النضال ضد المستعمر، مروراً بالومضات الديمقراطية المبتسرة والمجهضة بانتظام: 1954/1958 و1964/1969 و1985/1989، وما تخلل ذلك من فترات مقاومة للدكتاتوريات العسكرية؟

 
1. حزب الأمة:-

منذ تأسيسه عام 1945، كان شعاره الأساس هو (السودان للسودانيين)، وأبلي بلاءً حسناً فى مقاومة المخططات الخديوية المصرية الساعية لإدراج السودان تحت التاج المصري، إلى أن تكلّل نضاله بعدول الحزب الغريم – الوطني الاتحادي – عن فكرة الاندماج فى الجار الجنب، وبإعلان الاستقلال من داخل البرلمان فى ديسمبر 1955. بيد أنه فى هذه الأثناء بلع الطعمة الاستعمارية الهادفة لخلق طبقة برجوازية محلية صنواً للطبقة الحاكمة فى بريطانيا، فتبنت الإدارة البريطانية أبناء القادة المهدويين وبيوتات الإدارة الأهلية،وقدمت لهم حداً أدنى من التعليم وأردفتهم بالوظائف الدنيا فى جهاز الدولة، ثم منحتهم الإقطاعيات الشاسعة على ضفاف النيلين الأبيض والأزرق ليزرعوها قطناً طويل التيلة كانت مصانع يوركشاير متعطشة له، بقروض حسنة من الحكومة وتسهيلات مصرفية، وبعمالة رخيصة مجلوبة من دار فور وكردفان – من أبناء الأنصار وأعضاء حزب الأمة القاعديين the cannon fodder؛ فانقسم الحزب إلى طبقتين منذ نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات: أصحاب المشاريع من جانب، والمزارعون والعمال الزراعيون من الجانب الآخر. ولقد تجلّى ذلك الاستقطاب فى (حادث عنبر جودة) عام 1956 الذى قال عنه الشاعر صلاح أحمد إبراهيم:

             ( لكنهم رعاع،

               من الرزيقات من الحسينات من المساليت،

               من الحثالات التى فى القاع،

               من الذين انغرست فى قلوبهم براثن الإقطاع،

               وسملت عيونهم مراود الخداع،

               حتى إذا ناداهم حقهم المضاع

               عند الذين حولوا لهاثهم ضياع

               واستلموا مجهودهم قطناً، وسلّموه داء.)

فى ذلك العنبر القمئ بمركز شرطة جودة استشهد 194 مزارعاً اختناقاً، كما اغتالت الشرطة خمسة مزارعين آخرين جاءوا كغيرهم محتجين سلمياً على عدم صرف  استحقاقاتهم المتراكمة منذ عدة مواسم، وكان صاحب مشروع جودة هو عبد الحافظ عبد المنعم إبن أكثر رجال الأعمال شهرة وثراء فى ذلك الزمن، وكان جده قاضياً فى المهدية، رغم أنه من أصل مصري، ولم يكن عضواً فى حزب الأمة، بينما كانت جميع المشاريع الخاصة المجاورة بالنيل الأبيض ومعظم مشاريع النيل الأزرق (بمساحة إجمالية تبلغ ستمائة وعشرين ألف فداناً) ملكاً للأمراء والسادة قادة حزب الأمة، باستثناء حفنة إقطاعيات ذهبت للآخرين: مشروع كساب للسيد على الميرغني ومشروع أم بنين للدكتور سيد أحمد عبد الهادي ومشروع آخر لعلي الأزهري وشركائه. (ولقد ترفّع عن هذه الغنائم أحد أهم مؤسسي حزب الأمة وهو عبد الرحمن على طه، الذى رفض عرضاً من السيد عبد الرحمن المهدي برئاسة الحكومة، وبعد انقلاب 1958 آثر أن يذهب لقريته أربجي من أعمال الحصاحيصا، كي يفلح أرض أبيه وجده العمدة طه، وبها عاش حتى توفاه الله عام 1969. كما ترفع عن هذه الغنائم كل من محمد احمد محجوب وأمين التوم وعبد الله نقد الله).

?وهكذا، فقد انشطر حزب الأمة إلى نصفين، أحدهما يستغل الآخر ويبني مجده الإقتصادي والسياسي على أكتافه. وفى النصف الأول من الخمسينات دخلت البلاد فى أزمات اقتصادية بسبب بوار القطن وكساد تجارته بعد اكتشاف النسيج الصناعي synthetic، ولم تجد الطبقات الحاكمة بداً من الإثراء على حساب الخزينة العامة، واستمر هذا الامتصاص البرازايتي طوال الفترات الديمقراطية، وزادته الأنظمة العسكرية ضغثاً على إبالة، فكانت مجرد وجهٍ آخر لنفس العملة.

?كما ظهر عامل جديد أربك الصفوف داخل الحزب وعمق الفتن الإثنية وساهم فى مفاقمة أزمة الجنوب، وهو الإسلام السياسي الذى جلبه الإخوان المسلمون للساحة بعد ثورة أكتوبر 1964، والذى صادف هوىً فى نفس الصادق المهدي ونفر من مثقفي الستينات، (كما صادف هوىً فى نفس المخابرات المركزية الأمريكية باعتباره ترياقاً فعالاً ضد الشيوعية، بل أكثر الأسلحة فتكاً بها فى الشرق الأوسط)؛ وفى هذا الإطار برزت الدعوة للدستور الإسلامي الذى كاد برلمان 1968 أن يجيزه لو لا القوميين العرب الناصريين والشيوعيين الذين قطعوا عليه الطريق بانقلاب 25 مايو 1969. ومنذ تلك الأيام تناقص نفوذ حزب الأمة وفت فى عضده الإنقسام داخل أسرة المهدي الذى خرج منه حزبان: الأمة جناح الصادق، والأمة جناح الإمام الهادي؛ وظل فاقداً لبوصلته – فلا هو يميني تقليدي يقوده الكولاك والسماسرة، ولا هو حزب إسلامي كامل الدسم كالإخوان المسلمين؛ ولا زالت البلبلة السياسية والفكرية تكبل خطاه، فبينما تجد رئيس الحزب معارضاً للنظام الإخواني ولاجئاً بمصر، تجد إبنه مساعداً لرئيس الجمهورية، وإبنه الآخر ضابطاً عظيماً بجهاز أمن الدولة رديء السمعة. أما فيما يختص بالعضوية القاعدية rank-and-filers فقد تناثر معظمها فى الحركات الحاملة للسلاح بدار فور وجنوب كردفان، أو فى الدياسبورا، أو بهوامش الحواضر السودانية كادحين إلى الله كدحاً.

 
2. الحزب الإتحادي الديمقراطي:

تكوّن الحزب الوطني الاتحادي بمنزل الرئيس المصري اللواء محمد نجيب ذي الأصول السودانية عام 1952، جامعاً للأحزاب الإتحادية (أي الداعية للوحدة مع مصر )، وفاز بأول انتخابات قبيل الإستقلال (1954/53 )، وبعد عام واحد فقط انقسم إلى حزبين: الشعب الديمقراطي والوطني الإتحادي، وأصبح بينهما ما طرق الحداد؛ ثم توحدا بعد ثورة أكتوبر 1964 تحت مسمَى الإتحادي الديمقراطي. ولقد نشأ هذا الحزب بسواعد المثقفين الوطنيين، لحمة وسدى مؤتمر الخريجين، ولكنهم تسربلوا بالكسل السياسي الذي أودى بهم وبحزبهم في نهاية الأمر، وهو الارتهان للطائفية، أولاً في اتجاه السيد عبد الرحمن المهدي ومؤسسته الأنصارية، ثم فى اتجاه السيد علي الميرغني راعي طائفة الختمية، ولم يتوجهوا صوب القاع الصخري للحركة الوطنية المتمثل في النقابات العمالية والفلاحية التي شبت عن الطوق واستوى عودها مع نهاية الأربعينات، إذ حسبوا أن الطائفية سوف تجلب لهم الدوائر المضمونة في أرياف الشمال والشرق وبعض مناطق الوسط، بالإضافة لدوائر الكبابيش المعروفة بشمال كردفان.

وكانت الطامَة الكبرى بالنسبة لهذا الحزب المدني العلمانيتنكَره لمبادئ الديمقراطية التى شرحها مؤسسه اسماعيل الأزهري في مصنفه (الطريق إلى البرلمان)، ولقد تجلى ذلك التنكر للديمقراطية فى مشايعته، بل تبنيه لحملة الإخوان المسلمين ضد الحزب الشيوعي عام 1965، حتى قرر البرلمان حل ذلك الحزب وطرد نوابه بأغلبية ساحقة،(باستثناء نائب اتحادي واحد هو الراحل الباشمهندس حسن بابكر الحاج). ثم ارتمى الحزب الإتحادي أكثر وأكثر في أحضان اليمين الإخواني، وسايره في لجنة الدستور التي اقترحت دستوراً إسلامياً ثيوقراطياً لحكم السودان، مما دفع النواب الجنوبيين للإنسحاب من تلك اللجنة، ومما دفع حركة التمرد الجنوبية لرفع سقف مطالبها من مجرد الحكم الذاتي الإقليمي إلى حق تقرير المصير الذي أدى لإنفصال الجنوب عام 2011. إذن، وعلى الرغم من أن القورو الأخير الذي صنع الإنفصال هو نظام الإخوان المسلمين، إلا أن الإتحاديين وحزب الأمة كانوا قد وضعوا اللبنات الأولى لهذا الإتجاه الشوفيني التقسيمي السلبي منذ منتصف الستينات. وفي نهاية التحليل، فقد الحزب الإتحادي بوصلته كذلك واستبد به التشويش. ولقد جرت محاولة على يد الشريف حسين الهندي لإرجاعه صوب منابته الديمقراطية العلمانية أثناء نضاله ضد ديكتاتورية النميري، و لكن يديه كانتا مكتوفتين إلى حد ما بحلفه مع حزب الأمة والإخوان المسلمين (في الجبهة الوطنية)، ولكن يحمد له أنه لم يذهب معهما لآخر المشوار، وذلك برفضه المصالحة التي تمت بينهما وبين النظام عام 1977، والتي تهافت بموجبها الإخوان و حزب الأمة وألقوا سلاحهما وانخرطا في نظام شمولي فظ لم يتنازل قيد أنملة عن ممارسات القمع والفساد التي دعتهم لمعارضته أول الأمر.

بيد أن الشريف حسين لقي ربه في المنفى بنهاية 1981، وآل أمر الحزب للطائفية من أوسع أبوابها، إذ أصبح رئيسه هو راعي طائفة الختمية السيد محمد عثمان الميرغني. وعلى الرغم من خلفيته الطائفية، وقف موقفاً وطنياً شجاعاً بتوقيعه مبادرة أديس أبابا للسلام في 16 نوفمبر 1988 مع رئيس الحركة الشعبية الدكتور جون قرنق، التي تآمر عليها الإخوان المسلمون وأجهضوها تماماً باختطافهم للسلطة بعدها ببضع شهور. كما وقف السيد محمد عثمان موقفاً وطنياً ناصعاً آخراً برئاسته للتجمع الوطني الديمقراطي الذي حمل راية النضال ضد ديكتاتورية الإخوان المسلمين، وأعلن عزمه على اقتلاعها من جذورها، وأصدر إنذاره الحاسم لها: (سلّم تسلم) - مباشرة بعد مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية في يونيو 1995.

?و لكن الإخوان المسلمين كانوا من المكر والخبث بمكان، إذ توصّلوا لصلح منفرد مع الحركة الشعبية الجنوبية، أحد أهم ركائز التجمع الوطني، في نيفاشا عام 2005؛ وكانوا قد عقدوا اتفاقاً إنفرادياً مع حزب الأمة في جيبوتي عام 1999 عاد بموجبه ذلك الحزب وانخرط في نظام البشير الدكتاتوري تماماً كما فعل مع النميري عام 1977م. فما كان مما تبقّى من فعاليات التجمع الوطني الديمقراطي، الحزب الإتحادي والحزب الشيوعي، إلا أن يلحقوا بالركب عن طريق اتفاقية يونيو 2005 بالقاهرة التي عادت بموجبها آخر فلول التجمع للخرطوم وأصبحت جزءًا من أجهزة الحكومة التنفيذية والتشريعية، وهو الأمر الواقع حتى اليوم، بشكل أو بآخر. و كنت قد كتبت رافضاً لتلك الترتيبات، مذكّراً بالنشيد الذي كان يتغنى به الشيوعيون في الخمسينات، أثناء المقاومة لمشروع آيزنهاور وللنقطة الرابعة والمعونة الأمريكية وكافة المخططات الإمبريالية :- (أخي إن رضينا بأحلافهم، و حيل النضال إلى البرلمان، فإنا نبارك أحلافهم، ليهتك أعراضنا الأمريكان).

?و لا يختلف الموقف الراهن للحزب الإتحادي عن رصيفه حزب الأمة، إذ يجلس السيد حسن الميرغني إبن رئيس الحزب بالقصر الجمهوري كخيال مآته أو ربما رهينة حتى يعود السيد محمد عثمان من لندن التي استقر بها منذ عامين؛ و لا يخالجني أدنى شك في أن السيد محمد عثمان يكره الإخوان المسلمين كراهة التحريم، و لكن يبدو أن في فمه ماء، وغالباً ما يكمن السر فى تهديد بإعادة مصادرة الممتلكات أو بالتصفية الجسدية، مثلما فعلوا مع نائب رئيس الحزب علي محمود حسنين الذي آثر الهجرة إلى سوانزي بويلز حيث تقيم كريمته، وبما أنه لا يملك ما يخشى عليه في السودان من أنفس فقد استمر في التواصل مع الشعب عبر النت ومن خلال المقابلات التلفازية والبيانات الشاجبة لنظام الخرطوم (من باب القحة ولا صمة الخشم). وثمة زعيم اتحادي آخر لم يفلح النظام في استمالته أو إفساده أو تدجينه، هو البطل حاتم السر علي، وبضع آخرين أسأل الله لهم السلامة والصمود. أما فيما عدا ذلك، فقد أصبح الحزب الاتحادي نسياً منسياً.
3. الحزب الشيوعي :-

منذ بروزه للسطح بعد الحرب العالمية الثانية، وبفضل عبقرية آبائه المؤسسين وعلى رأسهم عبدالخالق محجوب، ارتبط الحزب الشيوعي، منذ أن كان إسمه حستو (الحركة السودانية للتحرر الوطني)، بالطبقة العاملة المتحالفة مع الفلاحين، ودفع بكوادره الشابة منذ 1945 نحو التجمع العمالي الأكبر في عطبرة،  ونحو الريف ممثلاً في مشروع الجزيرة ومشاريع النيلين الأبيض والأزرق، بل كانت هناك خلايا شيوعية بجبال النوبة حيث بدأت زراعة القطن قصير التيلة بالأمطار، وخلايا أخرى في شمال وشرق السودان، بالإضافة لمريدي وأنزارا بجنوب السودان حيث شيّد الإنجليز مصنعاً للغزل. ومنذ ذلك الوقت المبكر تغلغل الشيوعيون في الحركة الطلابية  وسيطروا عليها من خلال تنظيمهم الجبهوي المرن (المؤتمر) ثم "الجبهة الديمقراطية"، كما جندوا شباب المدن فى "إتحاد الشباب"، والنساء فى "الاتحاد النسائي" الذى قادته منذ ولادته فاطمة طالب والدكتورة خالدة زاهر سرور وفاطمة أحمد ابراهيم؛ ولقد أسس الشيوعيون وأصدقاؤهم "هيئة السلام السودانية" والعديد من المنظمات الداعية للتضامن مع الشعوب المكافحة من أجل الاستقلال منذ الأربعينات حتى بداية السبعينات، وبالتحديد حتى وقعت المصيبة الكبرى المسماة حركة 19 يوليو 1971 ، التى ارتد عليها النميري بعد ثلاثة أيام وأعدم قادة الحزب ووضع نهاية مؤسفة للحركة الديمقراطية والنقابية بشكلها المعروف حتى ذلك التاريخ.

لقد تعايش الحزب الشيوعي مع الديمقراطية اللبرالية واستبطن قوانينها وثقافتها، وكان يتطور نحو السلطة بالطرق المشروعة السلمية و(بالعمل الصبور الدؤوب)، ويضرب مداميكه فى أعماق المجتمع بالتى هي أحسن وبالمثاقفة والحجة والمنطق، وبتبنّي قضايا الجماهير الحياتية وإبرازها عبر الأنشطة النقابية القانونية: العرائض والشكاوى القضائية والعمل الدعائي والمسيرات السلمية والإضراب عن العمل (وعن الطعام فى المعتقلات). ولكن فجأة طغت على الحزب روح البرجوازية الصغيرة التى كثيراً ما حذر منها عبد الخالق، وبالتحديد عندما كانت شريحة من ل م  بقيادة أحمد سليمان تخطط مع القوميين العرب لإنقلاب 25 مايو 1969، عندما خاطب عبد الخالق محجوب اجتماع اللجنة المركزية فى مارس 1969 قائلاً: "فهي – أي البرجوازية الصغيرة - لا تسير بالثورة فى خط مستقيم، وتعرضها لانتكاسات جمة بما تعانيه من تذبذب واستعجال للسلطة". وعلى الرغم من ذلك، وافق الشيوعيون على انقلاب مايو فى آخر لحظة، موافقة مشوبة بالتحفظ، وشاركوا فى مجلس ثورته (بالعقيد بابكر النور والرائد هاشم العطا)، وفى مجلس وزرائه بأربعة من أعضاء ل م (محجوب عثمان وجوزيف قرنق والدكتور موريس سدرة وفاروق أبو عيسى).

وكان ذلك خطأ تكتيكياً قاتلاً، (وموقفاً لا يختلف عما فعله الإخوان المسلمون لاحقاً بإنقلاب 30 يونيو 1989 على الرغم من أنهم ممثلون فى البرلمان بثلاثة وخمسين نائباً، ولهم وجود واضح بالإعلام والشارع والحركة الطلابية). ولكن، جاءت القشة التى قصمت ظهر البعير بعد انقلاب مايو بعامين، وهي حركة 19 يوليو (التصحيحية). ولقد وضعت تلك الحركة نهاية مأساوية للحزب، ولا داعي للخوض فى تفاصيلها، فقد طفحت بها الأسافير. بإختصار، قد يكون الباعث لتلك الحركة ليس فقط تهافت البرجوازية الصغيرة، إنما تنفيذ حلقة أخرى من حلقات المخطط الأمريكي الرامي لتحطيم أحزاب شيوعية معينة بالعالم الثالث لها كاريزمية واستقلالية وضعتها فوق الأحزاب التى فى السلطة، كالحزب السوفيتي الذى لطخت الستالينية سمعته لدرجة بعيدة، وهي بالتحديد حزب تودة الإيراني الذى تكفلت به السي آي إي والإم آي سكس، ومعه صديقه الدكتور مصدق، عبر إنقلاب 1953؛ والحزب الشيوعي الإندونيسي الذي تمت تصفيته بالكامل، ومعه صديقه أحمد سوكارنو، عام 1967؛ ثم الحزب الشيوعي السوداني عام 1971؛ ثم الحزب الشيوعي التشيلي ونظام سلفادور ألندي بعد ذلك بعام. ومما لا شك فيه أن نظام أنور السادات كان ضالعاً فى إجهاض حركة 19 يوليو، وكان ذا صلة وثيقة بالمخابرات الغربية ومنفذاً لتعليماتها.

وعلى كل حال، لقد سقط النموذج الشيوعي كنظام للحكم بسقوط حائط برلين، وبالثورات الشعبية المخملية عام 1989/1991التي أطاحت بحكومات الأحزاب الشيوعية في بولندا وألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا والمجر وبلغاريا والإتحاد السوفيتي ورومانيا ويوغسلافيا، ولم تبق إلا كوبا، كأنها جزيرة روبنسن كروزو، وكوريا الشمالية كآخر نموذج يدل على خطل الشيوعية عندما تتحول إلى ملك وراثي عضود، وفيتنام الشمالية والصين اللتان دخلتا في شراكة مع الرأسمالية الأمريكية، واستطعمتا النمو الإقتصادي الرأسمالي مع ما جلبه من استقطاب إجتماعي كانت الشيوعية قد تخلصت منه. وهما على كل حال في مفترق طرق، وغالباً ما ينصهران عبر آليات السوق (دينهما الجديد) في النظام الرأسمالي العالمي، ويصبحان تحت رحمة الدولار والمؤسسات المالية الأمريكية، وكأنا يا بدر لا رحنا ولا جئنا.

أما ما تبقى من الحزب الشيوعي السوداني، فهو مجموعة بسيطة من المناضلين الشرفاء الشجعان، حداة النضال ضد الدكتاتورية الراهنة، ولكن تنقصهم الرئة التي كان يتنفس بها الحزب في غابر الزمن: الحركة النقابية والجماهيرية. وحيث أن معظم الأحزاب الشيوعية في العالم قد غيرت أسماءها وتبنت الإشتراكية الديمقراطيةوال Social Democracy فإن لشيوعيين السودانيين سيفعلون ذلك من خلال مؤتمرهم القادم فى الغالب الأعم، حتى يتأقلموا مع حقائق العصر وينفتحوا على الجماهير مرة أخرى، ويستقطبوا القوى الوطنية المدركة لمآلات الصراع الطبقي ومزالق التطور الرأسمالي الصرف، والملتزمة بقضايا الكادحين. وعند ذاك، كما أرى بعين رأسي، سوف ينشأ تحالف استراتيجي معكم، ومع الحزب الإتحادي الديمقراطي إذا تمكن من عقد مؤتمره وإفراز قيادة من طراز الشريف حسين الهندي - على غرار التحاف الذى جمع حزب الأحرار البريطاني مع المنشقين من حزب العمال عام 1981، والذى انصهر فى حزب واحد عام 1988 يسمي The Social Democratic Party – SDP.

 
 

الكرة فى ملعبكم:-

لم يشمل التوصيف أعلاه أحزاب الإسلام السياسي لأني لا أعتبرها أحزاباً، بل هي جسم غريب على الديمقراطية oxymoronكالحزب النازي الألماني والفاشي الإيطالي اللذين منعا من ممارسة أي نشاط سياسي بعد الحرب، بموجب الدساتير الديمقراطية الجديدة. وعلى نفس المنوال، وكما حدث فى مصر بعد ثورة 30 يونيو 2013، فإن الأحزاب الدينية سوف تشطب من قائمة الأحزاب المشروعة. إنني أختلف مع ما قلته لأحد الصحفيين الذى حاورك البارحة، بأنكم لا ترون ما يمنع الإسلاميين من ممارسة العمل السياسي فى إطار الترتيبات المزمعة؛ وأرى أن هذا الموقف ربما أملته الظروف التى ما زلتم تعانون منها بالداخل، وأنتم فى عش الدبابير، أو جحر الثعالب. بيد أن الحقيقة التى يتعين على هؤلاء الإسلاميين إدراكها هي أنه لا مكان لهم من الإعراب فى النظام الديمقراطي، فلقد أثبتت التجارب أنهم يأتون بالفتنة الطائفية والمذهبية التى تنسف نسيج المجتمع، وأنهم يستفيدون من معطيات الديمقراطية، وقد يفوزون فى الانتخابات بما لهم من زخم إعلامي وشوكة إقتصادية ودعم لا ينضب من بعض القوى بالشرق الأوسط، وربما من المخابرات الغربية؛ وما أن يتسنموا السلطة حتى يسعون لتغيير قواعد اللعبة وتحوير الدستور لضمان البقاء فى كرسي الحكم إلى أبد الآبدين، كما حدث فى مصر. وتأتى هذه الأحزاب الإسلامية بمفهوم "الحاكمية لله"، فتنصّب رئيساً يتحول إلى خليفة للمسلمين، ويصبح التعرض له بالنقد فتنة وزندقة تؤدي للعقاب الصارم (الذى قد يكون قتلاً وصلباً).

إن ما حدث فى مصر يتطابق مع نظرية فرانسيس فوكوياما (نهاية التاريخ)، ورغم أنه كان يتحدث عن أوروبا فيما بعد إنهيار الأنظمة الشمولية بشرقها، وانضمام معظم الدول المنعتقة من حلف وارسو إلى حلف الأطلنطي، إلا أن مصر فيما بعد 30 يونيو معنية بهذا المفهوم كذلك؛ وبقدر ما تترسّخ فيها الديمقراطية، ويتم توطين الدستور المدني الديمقراطي في أرض الكنانة، بقدر ما ستتبخر أحلام الإخوان المسلمين بإقامة دولة الخلافة في المحروسة، وبقدرما ستذروها الرياح؛ ولا مفر أمامهم إلا أن يبحثوا عن إسم وفلسفة جديدة للحكم لا تقصي أحداً ولا تعامل أصحاب الديانات الأخرى كأهل ذمة، أي مواطنين من الدرجة الثانية، يدفعون الجزية وهم صاغرون.

?لقد سقط الفكر الإخواني كما سقطت الشيوعية (وليس الإشتراكية) والبعثية. والنماذج التي ما زالت حية وتقف شاهداً على فشل هذه الإيديولوجيات هي كوريا الشمالية بالنسبة للشيوعية كنظام حكم، ونظام الإخوان السوداني والدولة الداعشية بسوريا والعراق وبإقليم سرت في ليبيا، ومحاولات القاعدة بتمبكتو شمال مالي وبوكوحرام في الشمال الشرقي لنيجيريا. ولن تجد القوى التقدمية غريماً ينازعها السلطة على نطاق الإتحادات الطلابية أو على نطاق الحكم، غريماً يسمى الإتجاه الإسلامي، بعد اليوم.

أما الأحزاب التقليدية الأخرى كالأمة والإتحادي فإنها كحزب الأحرار البريطاني الذي ساد الساحة في انجلترا طوال القرن التاسع عشر، وأصبح رئيسه قلادستون (ت1894) رئيساً للوزراء أربع مرات، وأنجز دولة الرفاهية Welfare State؛ ثم جاء حزب الأحرار للحكم في الفترة 1908-1916 بقيادة أسكويث، وخلفه ديفيد لويد جورج حتى عام 1922، وبعد ذلك تضاءل نفوذ حزب الأحرار ولم يعد لرقم عشرة داوننق ستريت حتى اليوم، إذ فاز بستة مقاعد فقط عام 1950. ولقد حل محله بجدارة حزب العمال منذ 1922 وأصبح يتبادل رئاسة الوزارة مع حزب المحافظين إلى  يومنا هذا.

آخر الكلم:-

?قد تبرز أحزاب في منحنيات تاريخية معينة لتلبيّ إحتياجات فرضتها الظروف، ثم تضمحل وتختفي مع ظهور تيارات وأحزاب جديدة أقرب إلى وجدان وثقافة ومصالح الأجيال الصاعدة. ومن هذا المنطلق فإن كثيراً من السودانين يرون فيكم وفي حزبكم خميرة مناسبة للقوة السياسية المرشحة للاضطلاع بالمهام التي تواجهها الحركة الوطنية في هذا المنعطف. ولن يتحقق ذلك بالطبع ما لم تنتشروا وسط الجماهير، مستصحبين تجربة حستو والحزب الشيوعي في الأربعينات والخمسينات، ومستفيدين من الأخطاء التي صاحبت تلك المسيرة، والتي أقعدت الأنظمة التي جعلت من الشيوعية إيديولوجية للانفراد بالحكم ورفض الآخر حتى لو كان معهم في نفس الخندق. إن شعبنا قد شبع من الإيديولوجيات ومن الديماقوقيين الذين يمارسون الهندسة الإجتماعية لصياغة الإنسان بصورة جديدة، فيعكفون على التفاصيل التافهة الشخصية كعدم شرعية فستان المرأة أو طول لحية الرجل، كغطاء للمارسة الظلامية الحقيقية التي تدور خلف الكواليس، وهي الإثراء على حساب مقدرات الدولة، وإشاعة الفساد والمحسوبية والقبلية والشوفينية والانحطاط الثقافي والأخلاقي. إن شعبنا يحتاج لمن يأخذ بيده نحو العلاج والتعليم المجاني، وسد الرمق وفرص العمل، على طريق التقدم الإقتصاديوالتحول الإجتماعي، فوق أرضية الشفافية وحرية التعبير والعدالة والمعايشة السلمية بين كل الإثنيات والمناطق التي يتألف منها السودان، بما في ذلك الجنوب الذي يتوق أهله للعودة (للسودان الجديد)، كما يتوق أهلنا في الشمال لرتق الفتق ولم الشمل مرة أخرى بإذنه تعالى. وفقكم الله وسدد خطاكم بحق أسمائه وأنبيائه وأوليائه الصالحين.

والسلام.

مخلصكم الفاضل عباس وأولاده.

fdil.abbas@gmail.com

 

آراء