رسالة لرئيس المجلس العسكري البرهان ولنائبه حميدتي: امنعوا الخطاب التكفير يّ في المساجد!
لورا الألمانيّة والعنف
دخلت ذات يوم من أيام السّنة الماضية مبكراً كعادتي إلى حجرة المحاضرة بجامعة كونستانس وكنت يومذاك قلقا متوجسا لما يحدث في عالمنا الإسلاميّ من عنف واجرام باسم الدين. وقبل أن أصل حجرة المحاضرة رأيت من على البعد طالبة تنتظرني. تعجبت وسألتها:
- لورا، هل تريدين منّي أيّة مساعدة؟
أجابتني:
- لا، لكنني وددت، بعد إذنكم، أن نتناول في المحاضرة قصة الأب السوري الذي أختطف من قبل الدواعش والذي تطرق له المستشرق نافيد كرماني عندما ألقى كلمته في حفل استلامه لجائزة السلام بألمانيا.
- قولي لي بربك ماذا حدث له؟
وكنت أعرف في قرارة نفسي تسلسل القصة دون أن تنبس لورا حتى ولو بحرف، لذلك بادرتها قبل أن يرتد إليها طرفها:
- وهل كان من مبشرِيّ الديانة المسيحيّة حتى يقبضوا عليه وينكلوا به؟
ليس مهما يا سادتي إن كان هذا الأب اليسوعيّ جاك مراد من المبشرين أم لا (وما أكثر مبشريّ الضلال في بلدنا) أو إن كان يفعل هذا أو ذلك، مادام أنه يحترم إنسانيته وإنسانيّة من يعيش بينهم في تلك البلدة النائية بريفيّ سوريّة.
صرخة لورا الملحّة
قد أثّرت فيّ صرخة لورا الملحّة والتي تنشد المحبة وترنو إلى ابسط ابجديات التعايش الحضاري بين الأمم: السلام. كنت قبل يوم من حديثي مع طالبتي لورا قد قرأتُ في صحيفة سودكوريير مقالا عند المستشرق كرماني وعن كلمته العصماء التي ألقاها وأبهرت برصانتها، ألق بلاغتها وفحواها الحضور من سياسييّ وأدباء ألمانيا. والجدير بالذكر أن هذا المفكر، الذي أتى من إيران، كابن للاجئ، استطاع أن يثبت وجوده بين علماء ألمانيا؛ فكان له الحق كأول بروفسير لعلوم الاستشراق أن يُلقي كلمة في البوندستاق (البرلمان الألماني). كرماني اقتفى سبيل فلاسفة وشعراء ألمانيا في كيفيّة البحث عن إنسانية الشعوب وطرق مبادئ أخرى ساميّة تُعنى بإرساء مبادي الأخوة والتسامح. فانتهج نهج الشاعر الألماني فولفقانق يوهان فون جوته وآخرين كالشاعر الفذ فريدرش روكرت الذي ترجم القرآن إلى الألمانية ببلاغة السجع المقفّى. ولقد كتبت في غير مقال عنهما وعن حبهما لحضارتنا وموروثنا العربيّ الإسلاميّ.
جوته والإسلام
وإذا اخذنا مثالا من بين مفكريّ ألمانيا فلابد لنا أن ننتقي الشاعر جوته. إن هذا الشاعر الفذ الذي سُمِّيت معاهد اللغة الألمانية باسمِهِ يا سادتي من الأمثلة التي لا ولن تكرر في تاريخ البشريّة والتي من المستحيل أن تجود بها الأزمنة بسهولة. يعتبر (جوته) من بين جملة الأدباء الألمان مثالاً بارزاً للصلات المتبادلة بين التراث الشرقي والغربي وكان لجوته نصيبا عظيما في الاهتمام بالحضارة الإسلامية وبرسولها محمد (ص) وهذه الحقيقة تُعتبرُ من أبرز الشؤون ذات الأثر العظيم في حياته إذ أنها قلبت مسيرة حراكه الأدبيّ رأسا على عقب.
جوته والقرآن الكريم
لقد أحبَّ جوته التعاليم الإسلامية وافتتن بها فكان القرآن من أحبِّ الأسفار إلى نفسه ولقد عبَّر عن ذلك علانية عندما بلغ الكبر بقوله: (إني أُبَجِّلُ تلكم الليلة التي أنزل الله فيها القرآن كاملاً على رسوله محمد). لم يتأثر هذا الشاعر الفذ بالإسلام وفلسفته فحسب بل ذهب إلى أبعد من ذلك، فعكف في صومعته يقتفي آثار القدامى فملكت لُبَّهُ آلهةُ الشعر العربي التي تجلَّت لهُ في بلاغة امرئ القيس وتصوير لبيد وشفافية المتنبي ومُجونيّة أبي تمام. إن الديوان الشرقيّ الغربيّ والتعليقات التي كتبها جوته لفهم هذا الأخير تحمل في طياتها أعظم الدلائل التي تقف برهانا قاطعا على اتصاله الوثيق وحبه المنقطع النظير للتراث العربي الإسلامي، فهو قد انتهج فيه نهجا اخرا أضفى على مادته الشعرية رونقا بديعا في أصالته. نراه اقتبس من بحور الشعر العربيّ بحر الغزل ونسج من خلاله دررا ظلت برهانا على عبقريته الشاعريّة. فلنأخذ قصيدة (هجرة) التي كتبها عام ١٨١٤ وسماها بنفس الاسم العربي (هجير) من سفر مغني نامه (كتاب المغني) وهو يدعو فيها نفسه للهجرة إلى الشرق الْمُشرِق الصافي حيث مَهد الأنبياء ومنبع الرسل والهداه حيث الكرم الحاتمي والضيافة البدويّة. نجد في هذا الديوان قصائدا كثيرة تحمل في معانيها حب التراث العربي الإسلامي، مثال كتاب (زليخة نامة) الذي نجد فيه تناص وافي مع سورة يوسف في القرآن.
رسالة مفكريّ ألمانيا
ربما أسهبت عليكم يا سادتي وأطلت في مقدمتي هذي، بيد أنني قصدت ذلك وأن أُعنى في هذا السياق بسرد بضع من حوادث التاريخ على سبيل العبرة والمقارنة لنتعلم نحن أولا ونُعلِّم من حولنا وفوق كل ذي علم عليم. على أيّة حال وودت أن تُلّموا وتدركوا يا سادتي أن أغلبيّة مفكريّ الغرب من أولئك الذين درسوا الأدب العربيّ والعلوم الإسلاميّة بإتقان أحبوها ونفذ هذا الحب وتبدّي على كل ما هو شرقيّ فاهتموا بألف ليلة وليلة وألّفوا على شاكلتها القصص. فموضوع الاقتراض الأسلوبيّ في الأدب المقارن بحر زاخر لا شط له. لكن الرسالة المهمة التي تحملها هذه المقارنة هي أنه ينبغي علينا أن نتخذ رسالة السلام هذه كمثال في مخاطبة البشر أو الشعوب وفي التعامل مع الأفراد والجماعات عندما نرفع شعار السلميّة لثورة أكتوبر المجيدة.
الخطاب التكفيريّ بمساجدنا
بالمقابل تعجّ المساجد في بلدنا السودان بخطاب يعاكس تماما الخطاب السلميّ المذكور آنفا. نجد أناس من الملتحين يرتجلون الحديث ارتجالا شاطحين مارقين – دون أحمٍ أو دستور- ومن خطورة هذا الخطاب المرتجل أنه عند العديد من المتشايخون أو بعبارة أخرى مدعيّ المشيخة (إذ أنّ كلمة شيخ تقتضي الحكمة) يزرعون نار الفتن والبغضاء بين أبناء الوطن الواحد في سابقة لم يشهدها السودان إلا في عصر الإنقاذ، ومن ثمّة يجاهرون مجاهرة عبر رسائلهم الكثيرة بخطاب تكفيريّ سلفيّ بغيض، سمعناه وسئمنا سماعه طوال الثلاثين عاما المنصرمة وللأسف لا يزال هذا الخطاب واقعا ملموسا في منابرنا وحلقات الدعوة في ساحات الأسواق وباحات المساجد. السؤال الذي يحيرني: هل انعدم العلماء في بلدنا الذين يمكن لهم أن ينادوا بالسلم والإنسانية؟ هل انعدمت المروءة والشجاعة الأدبية لنصيح بكلمة كلا؟ أم هو الاستهلاك السلبيّ وعدم الاكتراث تاركين هذا الخطاب لهؤلاء؟ هذا الخطاب يا سادتي أودى بالسودان إلى حروب شعواء مات بها أكثر من ثلاثة ملايين. فلماذا لا نحرك ساكنا وماذا بركم ننتظر؟ أحتى تقوم القيامة؟ أم أننا نريد أن يحكمنا سلاطينهم خلال الثلاثين سنة المقبلة؟ ألا تكفينا سنيّ الإنقاذ وزيف التدين والحروب التي قسمت ظهر البلاد إلى نصفين؟ ألا تكفينا مقاصل داعش ووأده للبشر؟ ألم نكتفي بالمجازر والتفجيرات في كل أنحاء العالم؟ ألا تكفينا النعرة السلفية التي قضت في سوريا والعراق واليمن وأفغانستان وباكستان على أخضر الحضارة ويابسها ولا زالت؟ لماذا نترك هذه الأحزمة الناسفة والسيّارات المتفجرّة على منابرنا ونترك لها كل الحريّة في أن تفتي فينا صباحا ومساءا؟ ألم نعي الدرس إلى الآن؟
تبرير قتل الشعب على المذهب المالكي
أنا أتساءل ونافيد كرماني وكل عاقل أيضا. هل يحق أن يفتي أحد من مشايخنا في قتل ثلث الشعب من أجل جبار طاغية كما سمعنا وعلمنا في الأيام الماضية؟ كيف أصبح من الممكن اقتراف وتبرير أفعال القتل وسفك الدماء وغيرها من أفعال الخنازير باسم الدين وباسم الإسلام؟ الإجابة عن هذا السؤال الأخير، كما بيَّن كرماني، تكمُن من جهةٍ في التاريخ، وبالتحديد في مواجهة العالم الإسلامي الصادمة مع الحداثة المستوردة من أوروبا والمفروضة بالعنف غالبًا؛ وتكمُن من جهةٍ أخرى في الحاضر، حيث يجري استبدال كلِّ عودةٍ فعليةٍ إلى التقاليد التي نمت تاريخيًا بالادعاء بالعودة إلى بدايةٍ أصيلة مزعومة. لذلك نرى من شاركوا في الحكومة يعيدون الكرّة وهم عندما يتفاكرون في طرق أخرى للمشاركة في حكومة عصر ما بعد الثورة! إن حادثة الأمس بصالة قرطبة هي خير دليل على استفذاذ الشعور الثوري ومحاولة الالتفاف على الثورة. نقول وبكل صراحة: إن زمن الإسلامويين قد راح وأشرق الآن زمن الشباب الذي يحتضن حمامة السّلام التي تحمل بين جناحيها مبادئ إنسانيّة ساميّة طال انتظار أمتنا لها، تنادي ب(الحرية، السلام، العدالة). فنحن يا سادتي مسلمون ولا نحتاج إلى إسلام يدعوا إلى البغضاء والكراهية والحروب. كفانا كفى من لتّ وعجن ومن أساطير الأولين. حان الوقت أن نلحق بركب الأمم فالوقت كالسيف.
لماذا قتل الحلاج؟
ولكيلا ننسى ونعتبر من صحائف التاريخ ونتخذ العبر، علينا أن نستذكر أن هؤلاء عاسوا في البلد فسادا حتى قتلوا أحد مفكريّ السودان فشنق علانيّة بنفس السجن الذي يأوي بعضهم وكان إذذاك ابن الثالثة والسبعون.
قُتل كما قتل الحلاج (الحسين بن منصور –1207 – (1273 إذ لم يخش في الله لومة لائم فذكر الله في أشاعره وقال أنا الحق وكانت تلك الكلمة التي أودت بنهاية حياته. فالحلاج لم يحمه علمه وتقواه أن يُقتل شرّ قتلة. دعوني استشهد ببعض الأبيات للحلاج واحكموا أنتم بأنفسكم عليها وعليه من خلالها.
شعر: وحبّك مقرونٌ بأنفاسي
واللهِ ما طلعتْ شمسٌ ولا غربت / إلا وحبّك مقرونٌ بأنفاسي
ولا جلستُ إلى قومِ أحدّثُهم / إلا وأنتَ حديثي بينَ جلاسي
ولا ذكرتك محزونا ولا فرحا / إلا وأنتَ بقلبي بينَ وَسواسي
ولا هممتُ بشربِ الماء من عطشٍ / إلا رأيتُ خيالًا منكَ في الكاسِ
ولو قدرت على الإتيانِ جئتُكُمُ سعيًا / على الوجهِ أو مشيًا على الراسِ
ويا فتى الحيّ إن غنّيتَ لي طربًا / فغَنِّني وَاسَفَا من قلبِك القاسي
ما لي وللنّاسِ كم يلحونَني سفهًا / ديني لِنفسي ودينُ الناسِ للنّاسِ
تأملوا أن هذا الشاعر الصوفي ضرب بالسياط نحوا من ألف سوط وقطعت يداه ورجلاه وضربت عنقه وأحرقت جثته بالنار ونصب رأسه للناس على سور الجسر الجديد وعلقت يداه ورجلاه إلى جانب رأسه، ويذكر الكاتب مصطفى جواد أنه بعد حرق جثته تم دفن ما تبقى منها في القبر المعروف في بغداد. لقد كُفّر الحلاج واتهم بالزندقة والسحر كما اتهم المفكر محمود محمد طه بالرّدة. هنا تكمن خطورة هذا الخطاب التكفيريّ.
لماذا لا نجادل ونثور على خطاب التكفير؟
وعلى عكس دول عربية أخرى متقدمة علينا في كل المجالات نجد الحراك الثقافي لم يخلف أي أثر لجدال حاد، بناء وصادق عن انتشار خطاب التكفير في الأوساط السودانية، خاصة وسط شيوخ التيار السلفيّ فضلا عن استمراره في شبكات التواصل الاجتماعي. والأغرب من هذا أن هذا الخطاب الخطير والذي خسف ببلدنا العريق إلى عصر الجاهلية لم يثر حفيظة أيّ من الهيئات والتوجهات سياسية كانت أم مدنية أو ثقافية.
عقاب الخطاب التكفيريّ
وعلى عكس بلدنا السودان نجد أن المملكة المغربية بقيادتها الرشيدة وثورة تونس قد نجحتا في تجريم الخطاب التكفيري لا سيما السلفيّ حتى أخذ بعد لائ وصراع طريقه بين النصوص القانونيّة. شرعت هاتان الدولتان في خطوة قانونية جريئة وهامة للغاية تحثُّ على اعتبار "تكفير الأشخاص والهيئات" نوعا من القذف الذي يعاقب عليه القانون. وقدمت بعض الأحزاب البرلمانيّة مقترح قانون يقتضي بتغيير وتكميل (تتميم) أحكام الفصل ٤٢٢ من مجموعة القانون الجنائي التي تداركت الفراغ التشريعيّ والتنظيميّ في قضايا التطرف ذات الصلة بالخطاب التكفيريّ. وهذا ما نترجاه من المجلس التأسيسيّ والحكومة المدنية التي بإذن الله سوف تشرق شمسها في القريب العاجل ألا تتوكأ على سنّ القوانين (كخطوة أولى) فحسب بيد أن عليها مجابهة هذا السرطان بعلاجه على كل الجبهات من خلال تفعيل قوانين الردع.
دعاة التكفير والمساءلة القانونية
إن تجربة المغرب مثلا وبالرغم من جهود الدولة في محاربة الإرهاب جديرة بأن تهمّنا وأن نكرس جهودنا في فهمها وأخذها كنبراس. وحتى بعد الجهود المضنية التي بذلتها الحكومة المغربية في استئصال أورام القذف السلفيّ لخلق الله فإن تداول الخطاب التكفيري ما زال مستمرا في شبكات التواصل الاجتماعي. وتعتبر الهيئات والتوجهات السياسيّة والمدنية والثقافية بالمغرب استمرار هذا الخطاب التكفيريّ السلفيّ تهديدا للعديد من المكاسب التي حققها هذا البلد العظيم في مجال التعدديّة واحترام الاختلاف وتعزيز قيم التسامح. ينبغي على الحكومة الحاليّة والقادمة أن تتصدى لهذا الخطاب الآسن الذي يعبر عن أصوات ظلاميّة مدججة بالحقد والكراهية ونزعات التطرف. وينبغي لكل النقابات والاتحادات التي تؤمن بمبدأ السلميّة والإنسانية لكل فرد دون تفرقة أو عنصرية أن تقوم بحملات توعيّة على أوسع نطاق لا سيما في الجهات القرويّة والبادية وبين أعضائها لأنهم هم معمارييّ المستقبل وأن تقدم البلاغات التي تسوق كل دعاة التكفير والكراهية إلى المساءلة القانونية.
تجربة قانون تجريم التكفير بالمغرب العربيّ
ولنعتبر بعبرة إخواننا في دول المغرب العربيّ فهم قد انصلوا بنار التكفير حتى انفجر جدال سياسي ونضال مدني يبحث عن مثيل، وكان قد وصل إلى زهق الأرواح وسفك الدماء والاغتيال في بعض الأحيان أقر إثره المجلس التأسيسي التونسي منع التكفير ونبذ العنف في مشروع الدستور الجديد، بعد مصادقة غالبية أعضائه، بعد دعوة الرئيس التونسي السابق، منصف المرزوقي إلى سن قانون يجرم التكفير، لكونه أسلوباً يهدد السلم في البلاد. والسبب أن هذا البلد الفتيّ قد عاش واقعا توالت عليه اتهامات بالتكفير لصحفيين ومثقفين من قبل مشايخ السلف دفعت الرئيس منصف المرزوقي إلى إصدار بيان رئاسي في فبراير من العام 2013، يدعو فيه المجلس الوطني التأسيسي إلى الإسراع في سنّ قانون يجرم التكفير ويجعل من يستعمله عرضة للمتابعة القانونية؛ وذلك بعد أن نشرت بعض الصحف التونسية تصريحات نارية لقيادي إسلامي تونسي اتهم فيها جامعية تونسية، تدعى إقبال الغربي، التي عيّنت مديرة لإذاعة "الزيتونة" الدينية بـ"الكفر".
تفعيل القوانين وإضافة مادة التكفير
لن ينسى السودان الفعل الخاطئ الذي ارتكبه نميري وهيئة القضاء إذذاك بإعدام المفكر محمود محمد طه. لكن بعدها جاءت فترة الديموقراطية وألغت ذلك الحكم وكان هناك تثبيت حتى لا نلجأ لهذا النوع من الأحكام الخاطئة. واقتداءا بما فعله المغاربة والتوانسة في موضوع التكفير يمكن أن يُعمل بهذا القانون بالسودان وأن تضاف إلى القانون مواد شبه جاهزة على حد قول مولانا نبيل بانقا (المحامي المعروف)؛ إذ أن المادة ١٢٥ من القانون الجنائي التي تعنى بسب العقيدة موجودة فتضاف إليها فقرة أخرى تجريميّة عن التكفير. وأن تلغى المادة ١٢٦ المتعلقة بالرّدة. وعلى حد قوله فإن هذه الأخيرة ليست لها علاقة إطلاقا بقوانين الشرع والإسلام. وفي هذا السياق سعى د. عوض الحسن النور في أن تلغى وسالت في ذلكم الشأن الأحبار بكثافة وقامت بسببها ندوات لكن حزب الكيزان رفض التراجع عن الأمر رفضا باتا. والكل مجمع على أن المادة المعنية بالردة مخالفة للدستور لأنه يكفل حريّة الأديان والمعتقدات (لا إكراه في الدين). وبالرجوع إلى المصادر الشريعة في الإسلام فلا نجد للردة عقوبة كالقتل. وبالتالي يجب أن تلغى هذه المادة من القانون الجنائي. وهذه القضايا ينبغي أن ترجأ للجمعية التأسيسيّة في الفترة المقبلة حتى تفصل في أمرها وهي ليست من صلاحية المجلس العسكري الانتقالي. وهذا الأخير يمكنه أن يعدل المادة ١٢٥ ويضيف إليها الكراهيّة بين الأديان والتكفير. وإثارة الكراهية بين الأديان موجودة في القانون وكانت أغلب الظن معلقة بيد أن مادة التكفير غير موجودة. فعلينا تفعيل هذه المادة بصورة عمليّة حتى لا يجد شيوخ القذف مرتعا في سب وتكفير هذا أو ذاك. صحيح أنّ الشيوعيّة ليست دين لكنها تعتبر معتقد ولابد للقانون أن يعاقب هذه الانتهاكات ويحمي كل فرد.
التكفير عند د. عبد الحي يوسف وشيخ محمد مصطفى عبد القادر
والمشهد السائد في السودان على منابر المساجد وعلى الساحات العامة هو تكاثف هذه الأصوات التكفيريّة بالميكروفونات والتي تتبع منهاج التطرف اللسانيّ والانحراف اللفظيّ ذلك حتى في الندوات الدينية فضلا عن منصات الفيس بوك والواتس آب.
وتبقى حالة أهل السلف مثال د. عبد الحي يوسف والمدعو محمد مصطفي عبد القادر اللذان وصفا الثوار بالماركسيين (الشيوعيين) وآخرهما سجل طفرة في الخطاب التكفيري حيث اتبع فيما اتبع من السب، منهج البصق على الذين أطلق عليهم هؤلاء السفلة قائلا بالحرف: (الشفاتة ديل بيدّعوا إنهم يريدون الإصلاح ودايرنها حكومة مدنية (...) حكومة مدنية إنت على كيفك؟! إنت داير تأمر عسكري يا وسخ. ديل الشيوعيّة. وأنا أعتبر جلوسهم الآن بمنطق العقل والشرع ضلال. عايزين يفرضوا على حكومة ربنا سخرها وأعطاها حق الحكم، يفرضوا عليهم (...) يفرضوا عليهم، نحن ما بنقوم من هنا إلا تحققوا لينا كل الطلبات. يا عواليق إنت منو إنت؟) نهاية النقل.
الإستريوتيب السلفيّ
وهذا النوع من الاستيريوتيب السلفيّ الذي يدعو للكراهية والمهاوشة، عاشه الحراك السلميّ المغربيّ ضد ما أسميّة أنا "الفاشيّة السلفيّة" إذ وصفوا شخصيات يسارية ونشطاء حقوقيين بالكفر والردة، ووصفوا نساء بعض الأحزاب السياسيّة بالبغايا، على إثر المطالبة بالمساواة بين الرجل والمرأة في الإرث وإعادة النظر في تعدد الزوجات.
خطاب تكفيريّ = عقاب قانونيّ
لكن لحسن الحظ فإن هؤلاء الذين أطلقوا العنان للخطاب التكفيريّ الفاشيّ تم استدعاؤهم في أكثر من مرة من لدن مديريات الأمن ومثلوا أمام القضاء بتهمة السب والقذف في حق شخصيات وهيئات سياسية وفكرية بنعوت الشتم والردة والتكفير. وقد بلغت بهم الصفاقة إلى حد الوصف لهم ب"الصهيونية"، حيث استحلوا دماء الصحفيين، بعد وصفهم بـ"المرتدين والفسقة". وينبغي أن نعلم أن هذه الأصوات سواء كانت ببلدنا السودان سواء بالمغرب أو تونس يجمعها عامل مشترك واحد: هو أنها لا تؤمن بالديمقراطية والتعددية والحداثة. وأنها تريد لنا أن نعيش في عصر الجاهليّة رغم أن الدين صالح لكل مكان وزمان.
سودان الغد المشرق (حرية سلام وعدالة)
ففي سودان الغد ولكي نبلغ الرقي الذي ننشده لبلدنا بعد أن صرنا في عداد الدول التي هي عالة على العالم فينبغي علينا أن نختار الإطار السياسي المناسب الذي تتبوتق به دولة ديموقراطية تسع كل سودانيّ وسودانية، شمالا، جنوبا، شرقا وغربا، وإن تسود هاهنا كلمة الحق وأن تؤسس الدولة على أرضية قانونية صلدة بأهل القانون الشرفاء الذين لم يتنكروا يوما لهذا الوطن، وأن نرفع من شأن مؤسسات البلد التي عانت طوال السنين الماضية في غضون عهد الإنقاذ من داء الخيانة وأن نعيدها سيرتها الأولى لتخرج بيضاء من غير سوء حتى تتمكن من أن تثق أولا بنفسها وأن تعمل بعد ذلك بكل وطنية ونكران ذات حتى يتمكن لنا نحن احترامها وتوقيرها وحتى تنمو الثقة فيها وفي كل دواوين الحكومة التي أصابها التصدع الأخلاقيّ المريع. يجب علينا يا سادتي أن نعصرن ونحدث مؤسسات بلدنا ونجعلها كما الإنسان مواكبة للتطور والرقيّ وأن نمنحها القوة الكاملة بوطنيتنا وتفانينا حتى يتمكن لها من أن تدير أمور البلد وأن تحكم انطلاقا من مبادئ العفة والحكامة الجيدة لتستطيع إن ترسي دعائم مجتمع سوداني معافا ومتضامن يسع الجميع حتى ينعم كل فرد بالأمن والحرية والعدالة والاستقرار.
رسالة إلى سعادة رئيس المجلس العسكري الانتقالي البرهان وسعادة نائبه حميدتي
سعادة السيد رئيس المجلس العسكري البرهان وسعادة السيد نائبه حميدتي من أجل سلامة البلاد وتفادينا للفتنة ينبغي على المجلس أخذ قضايا الخطاب التكفيريّ الخطير بعين الاعتبار. يجب أن يبت في أمرها في أقرب وقت ممكن وإلا تفشت الفتنة واضطرمت نارها لتحرق أحشاء الثورة وتقضي على الأخضر واليابس من حصاد الثوار. لا تخشوا في الله لومة لائم ولا في أيّ خطاب تكفيريّ، إن كان قولا مقروءا كتابة، أو مسموعا لفظاً يثير التحريض أو الكراهية، أو يأجج نيران العنف أو القبليّة والطائفية أو التمييز بين الأفراد أو الجماعات.
رسالة الرحمة اقتداء بسيد الخلق (ص)
سعادة السيد البرهان وسعادة السيد حميدتي إن خطورة الخطاب السلفيّ التكفيريّ تكمن في زعزعته لأمن الدولة فضلا عن الأمن الفكريّ والاجتماعيّ المؤثرين في النسيج المعرفي والاجتماعي في بلدنا السودان. فإن كنا نريد الاستقرار ودرأ الفوضى بين أفراد الأمّة فعلينا بخطاب سلميّ معاف من الكراهيّة والبغضاء. فحثوا الناس وكونوا لهم قدوة لِيُنشؤوا ثقافة قبول الآخر فأثر ذلك بالغ في تعزيز أواصر المحبة والتكافل الاجتماعيّ بين أفراد الأمة. كونوا قدوة في خطاب صريح يخاطب الضمائر كي تعرف معنى الإشفاق بالبشر لا التنكيل بهم، وكي تعي الحرص على إيصال رسائل السلام النافعة لا رسائل الكراهيّة الهدامة، وأن يتعلم كل فرد منا أن يحيط خطابه تجاه أخيه بالرحمة لا بالقسوة قدوة بسيد المرسلين الذي انزله الله رحمة للعالمين: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم).
العزّة للسودان والمجد للوطن.
نشر بصحيفة أخبار اليوم في يوم الإثنين الموافق 29 أبريل 2019
Mohamed@Badawi.de