رسالة لقضاة المحكمة العليا

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الرحمة والمغفرة واعلى الجنان لشهداء ثورتنا المباركة في موجتها الثالثة التي ندعو الله فيها بنصرة المظلومين ضد الظالمين وان يُرينا الله المنتقم الجبار في عبدالفتاح البرهان وجنوده عجائب قدرته فإنهم لا يعجزونه وما النصر الا من عند الله سبحانه وتعالى.
ندعو الله ايضاً ان يُشفي الجرحى ويشف قلوب قومٍ مكلومين مظلومين ونرفعُ عقائرنا بالدعاء على الظالمين القتلة سافكي دماء المؤمنين.
السادة الزملاء قضاة المحكمة العليًا:

وددتُ ان أُخاطبكم اليوم فرداً فرداً للذكرى؛ والذكرى تنفعُ المؤمنين؛ وامامنا كتاب الله وسنة رسوله الكريم؛ وحَكَمُنا دوماً هو ضمير القاضي المتسق مع تقاليد مهنته وعدله الذي يسير بين الناس يرونه رؤي العين.
إخوتي القضاة الأعزاء استهلُ حديثي بآيتين قرآنيتين عظيمتين؛ تزلزلان الفؤاد والفطرة التي فطرنا الله بها:
الأولى؛
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
الثانية؛
وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمًا
كان الإمام أحمد بن حنبل مسجونًا في قضية خلق القرآن فسمعه السجان وهو يقول: أعوان الظّلَمة كلاب جهنم. فقال له: يا إمام وهل أنا من أعوان الظلمة؟ فال له :ﻻ. أعوان الظلمة من يطهون طعامك ويخيطون ثيابك, أما أنت فمِن الظلمة أنفسهم.
إخوتي الأعزاء قضاة المحكمة العليا:
أنتم حرّاس القانون وحماة الدستور والقضاء في السودان ذو تاريخ قديم ناصع رغم ما شابته من مِحنٍ وإحن منذ الإنقلاب العسكري في الثلاثين من يونيو عام ١٩٨٩م. فمنذ مطلع الاستقلال؛ استقرت في الفقهِ والإرث الدستوري السوداني حقائقُ هامة حول الأجهزة العدلية، وعلى رأسها التأكيد على مبدأ استقلال القضاء الذي وردت الإشارة إليه في باب الحقوق الأساسية في أول دستور للسودان المستقل (الفصل الثاني من الدستور المؤقت لعام 1956).
ونعلم جميعاً بدور المحكمة العليا في صيانة القانون والدستور إذ تُعتبر هي حارسة الدستور ولها اختصاص النظر والحكم في أية مسألة تشملُ تفسيره أو تطبيق الحقوق والحريات.
والقضاء سيما المحكمة العليا واجب عليها العمل بدأبٍ كبير على حماية حقوق الإنسان، إذ إن تلك الحقوق امتداد للقانون الطبيعي. لهذا وصف فقهاء القانون الفرنسيون القضاء بالحارس الطبيعي لحقوق الفرد (gardiens naturels des droits de l?individu ) .
لم تعد هذه الحقوق حقوقاً طبيعية يستدركها القاضي بالعقل، أو حقوقاً إنسانية تفرضها العهود الدولية ويبني القاضي أحكامه عليها بالقياس، وإنما أصبحت أيضاً ترتكز على إرادة الشارع الدستوري وقد أشارت بكل ذلك نصوص الوثيقة الدستورية التي سطا عليها الجنرالات في القوات المسلحة دونما رادع.
تعلمون جميعاً بان شعبنا الذين ندينُ له بالولاء المُطلق بعد الله وبعد حِراكٍ سلمي طويل استطاع ان يُسقط نظامًا عسكرياً عقائدياً في ابريل ٢٠١٩م وتواثقوا من بعد على الوثيقة الدستورية بالمرسوم الدستوري رقم (٣٨) في اليوم العشرين من اغسطس عام ٢٠١٩م.
الوثيقة الدستورية كما تعلمون جميعاً سادتي القضاة هي القانون الأعلى بالبلاد وتسود احكامُها على جميع القوانين وفي المادة ٦ الفقرة ٢ تلتزم السلطة التنفيذية بانفاذ القانون وتطبيق مبدأ المساءلة ورد المظالم.
سادتي قضاة المحكمة العليا وقضاة السودان :
تعلمون جميعاً بأن الفريق عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة قد قام بإنقلابه العسكري في ٢٥ اكتوبر من عام ٢٠٢١م ومزّق هذه الوثيقة الدستورية وعاث فيها فسادًا لم ترى بلادنا مثيلاً له الا في عهد الانقلابات العسكرية. ثم بدى له تعطيل المواد التي تُعنى بالحرية والسلام والعدالة وعطّل قرارات لجنة ازالة التمكين التي أُنشئت وفقاً للوثيقة نفسها التي مزّقها شر ممزق. ولم يلتفت ابداً لنص المادة ١٢ الفقرة ١ من الوثيقة الدستورية التي تحدد اختصاصات مجلس السيادة التي أُسيء تطبيق ما فيها منذ أمدٍ طويل.
ومن أسوأ قرارات البرهان بعد انقلابه العسكري سطوه على نص المادة (١٢ الفقرة يي) من الوثيقة الدستورية والتي تنص على اعلان حالة الطوارئ. ولا يتأتّى ذلك الا بطلب من مجلس الوزراء على ان يصادق عليه المجلس التشريعي الانتقالي خلال ١٥ يوماً من الإعلان. عليه فإن اعلان حالة الطواريء في البلاد سادتي القضاة الأعزاء يقعُ باطلاً بطلاناً مطلقاً ولا يُعتد به لمخالفته نصاً دستورياً.
أخاطبكم اليوم وقد تنحيتُ عن العمل في السلطة القضائية بالقرار الصادر من مجلس السيادة المؤرخ في ٢١ ديسمبر من عام ٢٠٢١م بإحالتي للمعاش الإختياري. لستُ ابدأ بأفضل منكم ولستُ بتلك الشجاعة التي يزهو بها الانسان ولستُ في مقام التوجيه وانما أبذل ما بوسعي لتقديم النصح لزملاءٍ اعرفهم وآخرون لم تتح لنا الفرصة لمعرفتهم. ان ما حدث من قتل مرّوع لشبابنا الذين حصدتهم بنادق القوى الامنية بتوجيهٍ مباشر من الفريق عبدالفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو لا يمكن تفسيره في اطار القانون والدستور الا بوصفه قتلاً عمداً وفق تعريف نص المادة ١٣٠ من قانون العقوبات السوداني لسنة ١٩٩١م.
انني اخاطبكم اليوم وفي القلبِ غصّة وحزنٍ لا يعلم مداه الا الله ملتمسًاً منكم الوقوف بجانب هذا الشعب العظيم الذي علّمنا وربانا بكريم شمائله وبسالات بناته وابنائه ويكون ذاك الوقوفُ إبراءً للذمة امام قاضي السماء ولا يتأتّى ذلك الا باتخاذ خطواتٍ عملية يراها البعض صعبة ولكنها واجبة في هذه المرحلة المفصلية وعلى رأس تلكم الخطوات مخاطبة الفريق عبدالفتاح البرهان باعتباره رئيساً de facto لمجلس السيادة بوقف هذا العنف الذي لم تشهد بلادنا له مثيلاً وذلك باستخدام اسلحة لا نراها الا في الحروب بين الدول. يجب ان يعلم البرهان وغيره بأن هنالك قضاةٌ شجعانٌ بواسل لا يخافون في الحق لومة لائم. ولا اود غير القول بان الكثيرين منكم يُحسون بهذا الوجع الذي يحس به كل انسان مفطور بفطرة الله. ان مجرد قول الحق سيربك هؤلاء القتلة الذين استباحوا كل خُلقٍ كريم وافسدوا في ارضنا إفساداً كبيراً. لا نقولُ لكم سوى القيام بعملٍ صغير ولكنه كبيرُ المعاني والدلالات.
سادتي القضاة الأجلاء قضاة المحكمة العليا لقد ورثنا من قضاتنا البواسل الكثير من إقدام الفرسان حين وقفوا امام الفريق إبراهيم عبود وقفةً سجّلها التاريخ للقاضي الراحل عبدالمجيد امام الذي امر الشرطة بالانصراف فانصرفوا بكل وقار ونعلم كفاح القضاة لاسقاط الحكم العسكري لجعفر النميري بدأ منذ السبعينيات وانتهى باضراب القضاة الشهير في عام ١٩٨٣م والذي عجل بسقوط ذلك النظام العسكري. كما لا يفوتني ايضاً وقفات القضاة المشهورة امام رئيس القضاء جلال علي لطفي وتلك الاستقالة المزلزلة للزميل عبدالقادر محمد احمد.
وعليه فاننا ننتظر من قضاتنا الأجلاء بالمحكمة العليا وبقية القضاة عملاً يليق بالتأريخ العريق للقضاء السوداني في مواجهة الانظمة الشمولية العسكرية واتمنى من الله العلي القدير ان ينصركم وينصر شعبنا الأبي على أعدائه ويرحم شهداء الثورة الأبرار.

zomrawy@yahoo.com
/////////////////////

 

 

آراء