رقصتُها .. أجنحةُ الروحِ إلى المُبتَغَى 

 


 

 

لا تعرفُ متى بدأ جسدها فى تكوينِ أفلاك إيقاعه المتسقة ولا كيف إحتشدت أنجمُ موسيقاه وإمتدت بطولِ البهاء. نحنُ ..، لا نعرف كيف إجتازَ إيقاعها وتماوجها جدرانَ الجمود وصمتَ الحجرات المستكينة إلى عاديةِ الأشياء والفراغِ المستطيل. "إنْفَنْسِى. ما تَعسِّمى جسمك"، تنصاعُ العروسُ المرتقَبة إلى سوط "العلّامة" التى لا تترددُ فى إشهارهِ تزامناً مع عثراتِ الأقدامِ والجسد الذى لا يطاوعُ اللِّين (والإنفداعة). هى .. ترقبُ العروس ومعلّمةَ الرقص معاً، ذهنُها الطفولى يختزنُ الإيقاعاتِ فى مروجِ ذاكرتها  لتنثنى طوعاً تحت ريح إنعتاقٍ سِرِّى،ثم تنسابُ ينابيعُ تمايلاتها من أعلى أنغام الرغباتِ إلى سهلِ الجنونِ الفسيح. "لسّة رجّعِى أكتافك ورا وحرّكى ..." تشيرُ معلمةُ الرقص إلى أردافها "كدة .. كدة ..، بالجنبة اليمين وتانى شمال"، الأرجلُ تتبادلُ الإنثناءَ سنداً للحركة اليمين واليسار، كحصانٍ متأهبٍ لكسبِ سباقه الأخير. معلّمة الرقص، سيّدةُ الساحةِ الصغيرةِ المربعة، العارفةُ بزوايا التنغيم، مهندسةُ الإنسياب فى عُلُوّ صهيل الإندياح وهبوطِ حوافر الإنسجامِ على نسقِ الإتجاهات. أما هى، "أمال"، إذْ ترتقبُ خلودَ العروسِ إلى راحتِها القصيرة وخُلوَ الساحةِ للبنيّات الصغيرات، تبارياً فى الرقصِ، تعلمُ أنها سيّدة الكونِ إنطلاقاً بأجنحةِ روحِها إلى فضاءِ إشتعاله .. يقينِه .. وكواكب غموضِه وحقيقتِه. ترقص ... ترقص ... يتساقطُ صفقُ خجلٍ دخيل تحت غصونِ تماهيها الذى يمتدُ طويلاً .. فارعاً، تغمضُ جفنَ شتائها وتعبئُ مواسمَ إنطلاقِها بالحكاياتِ الملوّنة وزهرِ التوقّدِ والرجاء. "من فريع البان .. اليسوح نديان .. الله يا سلام" .. طق .. طَرَق .. طق .. تتَطَق .. البنات .. الصَفْقات .. (والدلوكة) تئنُ تحت تواثبِ الحماس. "تعرفى، إبراهيم لما خطبنى، كان مهتم جداً بموضوع رقيصى ده. حِس الفنان الظاهر"، تضحك وهى تستدعى قطرات ذاكرة الزمكان إلى حقولِ توقٍ دفينٍ ومتمرّد. "مرة جا عطبرة بعد سفر شغل طويل و أهااا قال إلا أرقص. أنا أبيت. كنت خجولة". القطراتُ تستحيلُ شلال يقظةٍ حميمة، تباغتُ نعاسَ الأهواءِ القديمة بضياءِ الحكى وصلصالِ الحُب. "أمى قالت لى خلاص أرقصى وبِت عمّتى ما صدّقت وجابت (الباغة) عشان تدق عليها. هى أصلاً كانت بتشاغلنى بى أغنية عن نقل إبراهيم فى شغله من مدنى للدويم وبُعد المحبين وكدة ههههه". الفستان "الكلوش" يدورُ مع دورانِها .. تتمددُ ريشاتُ رفيفِه ناميةً من خِصرِ الألحان إلى دفءِ صدرِ الأغنيات إذْ يتسع، يعانقُ فى خفقانِه الذراعين .. طيورُ الإلهامِ فى سماءِ العذوبة .. وملتقَى صباحاتُ الوعدِ بالغمام ... "من ود مدنى للدويم .. يا الله الحِبَيّب وين .. أشيلك وين يا للِى للّا .. وأخُتّك وين يا للِى للّا .. أحب الشايل الوابور جاز.. أحب القطر الودّا وجاب .. يا الله سلامة الركّاب .. يا الله الحِبَيّب وين" .. ترقص .. ترقص ..، هى ذات الطفلة التى إبتكر جسدُها قواميسَ التثَنّى منذُ الأزل وإشراقاتِ التحليق ..فالإنعتاقُ لا يتخيّرُ سنينَ أفلاكِه فى صدحِه للشموس..، "طبعاً إبراهيم كتب فيها قصيدة (رقصة)" تسترسل.

صوتُها يضفّرُ الحكايا من عتقِ البيوت الوسيمة، يسدِلُ (مساير) دفئها على صقيعِ الزمانِ وجفاءِ الأمنيات الوضيئة. جلستُ على "بنبر" شَدْوِها أشهدُ ميلادَ الأغنياتِ وتميمةَ النبؤاتِ الغامضة، (يوم المُشاط) إذْ ترتدى ثوبَها الجديد بحسبِ الطقوس، (اللقيمات) والرز باللبن، الحناء وصندل الفرح، أتذوّقُ الزغاريدَ وأحتشدُ بالعطورِ .. والحُبورِ والخالات، قهوةُ مُتعَتى تُصاعِدُ صحوَ إئتلافى و(دلوكة) سردِها  (والحبّوبات) قعَدن وباركنَ إصطفافَ الأقمارِ على ضفّتى رقصِها.

الروحُ لا تنسى نقشَ المزاميرِ على صباحاتِ بصيرتِها، فحتى بعد أعوامٍ طِوالٍ من النخيلِ والرحيلِ والتواتر، رقصتُها .. ياااا رقصتها تعودُ من سِفْرِ الحنين بأوتار الإشتعال ومن ألقِ السكونِ بطبلِ الإتساق فكان "سبت فانداس" وفرقة الزاندى التى زيّنت إحدى أمسيات السجانة، يقفُ مُحييّاً من جنوبه "ال فى الشمال" ويصدحُ بالدليب، كى تورقَ غصونُ المَحنّةِ فى تجانسِ الجروحِ وصمتِ الشجون. "أمال" .. ترقص، وحين ترقص، تنْفَرُّ أجنحةُ روحها عن سماءِ توقها ال ما غابت، تتشابى إلى ألف نجمةٍ من اليقين، يدوزنُ المطرُ إيقاعَه على خطواتِ رقصها وتستريحُ كل الغمائمُ على مُقلتَى إنسجامها .. "ما شعرتَ، مشيت أصفّق، لقيت نفسى بأرقص. لما فتّحتَ، لقيتنى المرأة الوحيدة ومُحاطة بالناس حولى" .. رقراقُ ضحكتها يسالمُ حوشَ بوحِها الهتون. مُحاطة بى كل الخُلوق والخُلوق كايسين الفرح فيك وإنثنائك عند ملتقَى الوعود.

"أمال" .. ترقص .. ترقص ..

فالروح لا تنسى نقشَ المزاميرِ على صباحاتِ بصيرتِها

الروحُ لا تنسى نقشَ المزاميرِ

الروحُ لا تنسى

الروحُ لا ..

...

 

ياسمين إبراهيم

 

noradin@msn.com

 

آراء