رماها بدائها وانسلّ

 


 

 

في ثورة ديسمبر المجيدة دروس تلقّفها العالم أجمع بالإعجاب والاستيعاب، ولا تخلو من أقنعة قبيحة علّقتها على وجهها الكيانات المتناحرة، وتخبط المحاور الإقليمية والعالمية في تأرجح قراءاتها المتسارعة، وكل ذلك خير، بجميله وقبيحه، إلا أن جيشنا الفتي وهذا الشباب الباسل والشابات الواعيات الواعدات، هم وهن رأسمال هذه الثورة والأمة، ولسوء الحظ، كلهم حطب وقود تتعرّض لالتهامه نيران الفشل الأدبي الذي لازم أكثر قادتنا بسُكر الشفقة على السلطة وضعف العقلانية والتفكير المستقيم، والذي يتوجب ويُلزمنا بحمايته وصيانته.
هذه الثورة منذ بدايتها دخلت في أخطاء إدارية من كلا المكونين، المدني والعسكري، بحجج غير دستورية وهما يهمان برسم الدستور، وتولدت من ذلك الوثيقة الدستورية، وبالطبع انقسم الناس ما بين قراءة كلٍ لتلك الأخطاء ومبرراتها، وهذا طبيعي، لأن تلك الأخطاء لا يمكن محوها أو كما يقول المثل "كالبصقة لا يمكن لعقها"، والبوصلة السودانية دخلت في سدم المجهول.
وتبيّنت الحقيقة لكل الناقدين والمتحاورين أن الجدل داخل ذلك السدم هو كالضرب في الماء لا حيل ولا حول له، ولكن لعجبي لا زال المتناظرون والمتظاهرون يصرّون في سعيهم لرفع رايتهم ليؤيدوا الانقسام وخلق فلسفةٍ له، في حين أن النداء العام في المرحلة الراهنة (في المسار السياسي الجديد) هو التصالح والحوار، واللذان لا يتما إلا بالشجاعة الأدبية في معرفة كيف لك أن تتقبل لتؤخر خطوتك خلف خطوة الغير من أجل تحكيم العقلانية وتسهيل القبول. فالواقع هو أن كل فريق يرى أن الفريق الآخر قد رماه بدائه وانسلّ. فالحرية والتغيير ترى أن الفلول (وهم يعنون بذلك الاخوان والوصائيين). ويتهم الحرية والتغيير (جماعة الميثاق) المعسكر المناوئ بأنه يساري وشيوعي. فالبوصلة هنا مفقودة، لأن دليل مسار الثورة هو حقوق الإنسان "المساواة العرقية والدينية والاجتماعية، بعيداً عن الوصائية"، وتحيد ذلك يتم بسهولة، بشيطنة أي حزب أو جماعة لا تلتزم بذلك التعريف.
ثم دخلت الثورة في ثقبٍ أسود مزق ذلك السدم دفعةً واحدة، من نفس وثيقة الاتفاق الدستورية، وهي الدستور الذي أجمع عليه كل النظراء، بتخطيها طمعاً في خلق غيرها، وتلك مغامرة طائشة تسببت في إدخال البلاد في ثقبٍ أسود. ليس قولي أن قام رئيس مجلس السيادة بثورة تصحيحية، لأنه السلطة العليا حسب الوثيقة، ولكن الوثيقة أجهضت بواسطته، فهو ليس رئيساً، ورغم أن قراراته وحده في وجود المجلس لا تلزم أحداً، إلا أن عدم موافقته (حق الفيتو) سلاح في يده، ويستطيع بالحوار عبر نقاط الوثيقة أن يستفتي ويهدد ويحذر، فإذا لم يُستمع له فيمكنه أن يرفض الإجراء. ولكن ذلك كما قلنا لم يتم، وبما أنه قائد الجيش، فله الانقلاب حتى يعالج الخطأ مع من كَتَب الوثيقة من الطرفين والوصول لحلٍ مقبول.
ولكنه قام بالانقلاب قبل استئذان المكون المدني، فهو بذلك ألغى الوثيقة الدستورية والاحتكام إليها لأنها فقدت العناصر صاحبة التوقيعات، بإجهاض سلطاتها واعتقال أفرادها... إلخ.
لم ينصلح الأمر، بل كانت الهوة بوجود وحش فرانكن شتاين، له جسد] وهو ميتٌ في وجوده، اسمه الثورة.
كذلك وجود قائد الجيش ومعه مليشيا ا الدعم السريع الذي لم يتم تقنينه بعد ، ولماذا تبقى اللجنة الأمنية للنظام الذي لفظته الثورة، لتكوّن مجلساً سرطانياً لا ينتمي لجسم الثورة.
طبعاً لا أتوقّع من اللاعبين في كلا الجانبين أن يستوعبوا ذلك الوضع الشاذ والإتيان بحلول سريعة لعلاجه، فالعالم كله أيضاً صدم بذلك الوضع المستجد في السودان، فكانت ردود الفعل ساذجة جداً، لأن مثل ذلك الثقب الأسود لم يمر على التأريخ، رغم شبيهه في لبنان بقتل الحريري، ومصطفى كمال أتاتورك في الثورة التركية. فكان رد الفعل الغربي والأمم المتحدة الغضب في انقلاب الجيش على ثورة سائرة في طريق المدنية والديمقراطية، وتركيزهم على رئيس الوزراء المعتقل حمدوك، فكانت التهديدات القوية التي أزعجت البرهان، فتقدمت إليه المحاور الإقليمية بالوعد بالسند، وتسابقت إليه روسيا والصين لتهجم على الاستراتيجية التي كانت أمريكا تنظرها بحرص، حتى هددتهم أمريكا أيضاً.
عندها قامت الجماعات المناوئة لليسار بالإسراع بخلق مكون مدني لمساندة البرهان، وهنا كان اللعب بما معناه "عليّ وعلى اعدائي يا رب". وانقشعت السحب من أمام البرهان لحين.
إلا أ، الشارع الواعي لعق جراحه وجبّر أعضاءه المكسرة وانبرى في مسيرةٍ شجاعة لا يهاب الموت ولا يتردد في المعاناة، حتى رأي العالم أنموذجاً جديداً ورسالةّ واضحة كتبها الشعب السوداني بالدم، واحتار حيالها المجتمع العالمي.
والآن، وبعد أن أثبت الشعب وحدته وحجم قوته ومصداقية اتحاده، بدأ مجدداً المشي معصب العينين، في تحسس ما يتوجب عمله.
قلت إن المكونات المتناحرة كلها مكونات وطنية وعناصر من الشعب السوداني الأبي، إلا أن الخلاف الآن سببُه الكبرياء، فكل من رمى غيره بدائه وانسل لا يهتم بدائه الذي رماه.
أهم داء يجب البدء بسله هو ما زرعه البرهان في الثقة مع المكون المدني
كما ذكرت آنفاً، لا يخلو أيٌّ من الطرفين من أخطاءٍ بسبب تجاربهما المتواترة، وكلها تعجّ بأخطاءٍ يمكن علاجها فيما بعد.
ولكن ما قام به البرهان تسبب في هدم الثقة التي منحها المدنيون للعسكر، وحان للبرهان العمل على اكتساب تلك الثقة كما كان ينبغي، حيث لا وجود لمعامل الثقة بينهما، فالثقة تُكتسب ولا تُعطى.
في الضرورة، ربما تطلّب الوضع للمقامرة والمغامرة بمنح الثقة، ولكن بفشل ذلك عن خيانةٍ مقصودة، تذرى الثقة مهما كانت مبرراتها، إلا اكتسابها كما كان ينبغي.
فإذا ما تأزم الموقف كما هو الآن، هذه المرة فيتوجّب أولا أن يعترف من خان الثقة بالاعتراف بالخطأ ويعضّد كلاهما من خلال اتفاقهما ذاك كيف علاج العيب وقبول الواقع، في حالة البرهان، بمسماه أنه انقلاب، ثم الشروع في مشروع التصحيح اللازم والاحتياطات لعدم حدوث ذلك مرةً أخرى، وتكون تلك التجربة بسلبياتها درساً جديداُ في العراك الثوري
إنني قطعاً أقتنع بأن ذلك دار في خلد البرهان ولا أظن أنه يستعصى عليه تنفيذ ذلك الرجوع الصحيح، ولكني في متابعتي لما يحدث خارج الحلبة في الإعلام، خاصةً في قناة الجزيرة الغراء، تجري محاوراتٍ تتبلور فيها آراء مفيدة.
ففي بث قناة الجزيرة اليوم في برنامج ما وراء الخبر، موضوع ماذا تبقى لتكمل الثورة السودانية مسارها؟ استقبلت كلاً من الدكتور لواء محمد جمال الدين نائب مدير الدراسات الدولية بالأكاديمية الأمنية وطاهر المعتصم، نائب رئيس تحرير السودان الدولية.
في حواراتٍ ثرة، يتلخص رأي السيد محمد جمال الدين أن العسكر تعاقدوا مع المدنيين لتأمين الثورة، ولكنهم دخلوا اللعبة السياسية وهو ما لا يجوز بحكم العسكرية. إنني أجد في تحليله قبولاً لديّ من ناحية الخطأ حسن النية، ولكن لا يكفي "التحليل" من عندي كمدني بتبرير الخطأ وإيجاد العذر له. إن الطريق السليم لإرساء ذلك يحتاج إلى الشجاعة الأدبية التي لا يملكها المتردد ولا الجبان. وضع الأصبع في مكان الخطأ والإقرار بأنه خطأ.
لو تم ذلك فلا أرى ما يمنع أن يتحد الجميع ويقودون السفينة بالتنازلات، فعندها لا يوجد سبب للشفقة.
وكان رأي السيد طاهر المعتصم يرتكز على جدلية دور حمدوك، معتقداً أن حمدوك هو الرمز الممثل للمدنية في رأي المراقبين العالميين، ويرى أن الشارع لا ولن يستطيع تغيير مسار حمدوك، وأن حمدوك ليس له تنظيم معيّن (ويعني أنه لا يتأثر بأي عقيدة سياسية)، وهذا تحليل خارج الهدف، فحمدوك لا يمثل شيئاً الآن لأن الثقة التي وضعها فيه المكون المدني كسرها بانكساره للبرهان، الذي بدوره فقد الثقة التي تخوله لتعديل الوثيقة الدستورية، وهي الوحيدة التي يمكن من خلالها تناول موضوع حمدوك. والخطأ لا يصحح بالخطأ. وأما تأثير الشارع هو المطلوب لأنها رحلة للديمقراطية، ولكن يبدو من تعليقات السيد طاهر انقفال في الانقسام لذي كان البرنامج يسعى لتناوله لحله.
مرةً أخرى ذكر السيد طاهر أن المكون العسكري ضروري كضامن لأمن الثورة، وهذا صحيح بالنسبة للجيش، فهي رسالته الروحية من أجل حماية تراب الوطن وأهله. أما المكون العسكري فليس ضرورة للثورة، ولكن أي قوة عسكرية تفيد الثورة طبعاً ولكن الضرورة هي قوة صلابة الشعب، ويتطلّب العمل تحت راية الثورة.
كما ذكرت الآن جمع الشمل وفضّه يرتكز على هذا التعريف الدقيق لضرورة الثقة والتراجع في خرقها بوضوح وبشجاعة.

izcorpizcorp@yahoo.co.uk
////////////////////

 

 

آراء