زخات مطر على الضريح الجميل : ترنيمة الى يوسف قريب الله .. د. عبدالرحيم عبدالحليم محمد
7 April, 2010
abdelrmohd@hotmail.com1
رأيته من بعيد في حرم معهد الدفاع للغات بمدينة مونتري بكاليفورنيا عام 2003- يسرع الخطى مختبأ من زخة غيمة عابرة حسبتها جاءت من بعيد أرسلها حاكم عادل من إحدى بلاد الله ليقول لها أمطري حيث شئت في رحاب يوسف قريب الله فسيأتينني خراجك ! ومع تعجل تلك الغيمة للخروج من بلاط الحاكم نحو فضاء الله الرحيب مضت مسرعة غير عابئة بتوجيهات الحاكم مدركة لحقيقة أن الطيور على أشكالها تقع قانعة بأن محاصرتها ليوسف في فناء معهد الدفاع تجيء لأن عناصر يوسف قريب الله هي من جنس عناصر الغيم فالغيم ماء خلق منه الله كل حي يرزق ، ويوسف قريب الله لم يكن حيا عاديا فهو الحي الإحساس ..الحيوي الحضور ويوسف عميق الحياء وهو وقود حيوى للضحكة السيالة الحلوة وهو موقد مصابيحها بين الإخوان والساعي بها بينهم كجدول نمير في إحدى سرابات عيش الريف المترعة بالخصب والخضرة والخصوبة في أسفل قريته هناك في أم دوم حيث تحمل النسائم موجات أصوات الطار وحناجر المغنين وزغاريد الأمهات في ليالي الأعراس الجميلة . وعندما يكتمل القمر يكون يوسف قد أنهى طوافه التفقدي على مجمل أهله في القرية ليعود الى بيته وثيابه مضمخة برائحة اللقيمات واللبن المقنن ليدخل بعد ذلك في أخذ ورد مع والدته الحاجة وهي تحاصره بطعام عشاء لا قبل له به.
2
كانت طلعة يوسف قريب الله مألوفة جدا لي وأنا أتقدم لتحيته في حرم المعهد والتعرف عليه فكان وسيما حميما وصادقا ذو وجه نوراني ولحية قصيرة جميلة تتماشى طريقة إرسالها مع خطه العام المعتدل المتوازن. ترددت بعد ذلك لقاءاتي مع يوسف وتعرفت عن كثب عن أسلوبه الإسلامي الهادئ العميق الذي ينبع من محبة الله تعالي ورسله لينعكس سلوكا غايته حب عباده فلم يكن يوسف غليظ القلب ينفض من حوله الناس ولم يكن أخرقا يجرحك من حيث لا يدري ولم يك منطويا لا تراه فهو الذي يعاودك في الزيارة ويعتذر لك عن ذنب لم يرتكبه .وفي مدينة سان خوزيه ، كان اللقاء مرارا في بيت الأخ سيف الدين جبريل وهناك تعرفت على صلة القرابة بينهما ثم دار الحديث من بعد لأفاجأ بأن يوسف تربطه قرابة حميمة مع جيراني في الخرطوم وصداقة عميقة مع العديد من أبناء منطقة أم دوم الذين إما عملوا معي في جدة بالسعودية أو تعرفت عليهم فيها . كنا نضحك بسخرية ودودة على يوسف وهو يتابع أمور أطفاله عبر الهاتف مع زوجته الأخت مواهب في كندا وهناك يتبادل معها حديث حنون عن رؤيته لوجبة أطفاله أو زيهم ذلك اليوم وربما اقترح طريقة معينة في تحمير الطعام أو قليه أو سلقه وكنا نضحك عليه في ذلك فيكتفي بهمهمة ضاحكة خفيفة نابعة من القلب أو ضحكة مدوية ومن عادة يوسف إدماع العين حينما يكون الضحك محتدما ومن عادته عندما تحتدم مسالك الحياة وتبدو مملة ضيقة ، فتح جداول ثرة من الأحاديث الممتعة تعيدك رويدا رويدا الى خط مزاجك العادي ان لم يرتفع به.
3
ما يميز يوسف قريب الله هو طريقته الجاذبة العميقة وهو يسترسل في الكلام أو الشرح أو تداعي الذكريات أو عرض الأمور بشكل عام ويوسف في هذا المجال عارف لبق ذكي يدرك مهمته كمنديل عرس لا يجرح خدا أو يسيء الى أحد . وقد كان للجمعية الإسلامية في كندا موقعا محببا في نفسه فهو يحدثك عن شئونها وشئونها ورموزها وكأنه يرى من بين حجب الغيب أن تلك الجالية ستمشي خلف نعشه وسيره نحو مستقره الأخير وأنها ستفتقده كبدر في ليلة ظلماء . في مسجد مدينة مونتري أنشأ يوسف صلات عميقة مع العديد من المسلمين وكانت له مشاركة فاعلة في جميع فعاليات المسجد متطلعا الى فجر جديد يبرز من خلاله المجتمع السلم وريثا لله تعالى في الخلق والإبداع وناصعا مشرقا متحررا من المظالم والظلمات التي تعصف بهم وتلقي بظلال قاتمة على كيانهم وهويتهم . وقد أسعفت يوسف مقدرته العالية في اللغة الانجليزية فتمكن من إيصال هذا الفهم الحضاري السامي الى الكثيرين كما أسففته هذه اللغة في تعليم أفواج عديدة متميزة من دارسي اللغة العربية فتمكن بطريقة ذكية من إدخالهم بيسر وتشوق وإبداع الى فراديس هذه اللغة ولا زلت ألأمس هذا التفوق لدى من درسهم يوسف بإدارة التعليم المستمر ففتح في وجدانهم ينابيع ثرة تتغنى بحب هذه اللغة العظيمة.
4
في انتقالاته العديدة داخل مدينة مونتري ، استقر به المقام ذات مرة --في سكن بين ساحل البحر وشارع ديلمونت. هناك كانت لنا مع يوسف زيارات عديدة فسمى اولادنا ذلك المكان "البيتش بتاع يوسف" فكانت زياراتنا له فرصة أيضا للترويح على ذلك الساحل ومشاركة يوسف العديد من الأكلات التي كان يحسن طبخها .كنا نتبادل الحديث حول مرض السكري وضرورة التحايل عليه بالرياضة مثل المشي وكان يوسف محبا لهذه الرياضة ورياضة كرة القدم التي كان يقطع اليها المسافة بين مونتري وسان خوزيه. ان هذا الرجل الذي كان يضيء دواخله بالقرآن الكريم ، كان له صوت غنائي عذب شجي اكتشفته داخل حرم معهد الدفاع وتوافقت أمزجتنا في حب حقيبة الفن فكان يوسف مولعا بأغنية : يا الغرامك لى جسمي ناحل ، فهو يحدثك حديث العارف عن النفس الصوفي لتلك الأغاني وتأثرها في كثير من الأوجه بمفردات القرآن الكريم وكان له كلف كبير بأغاني فنان الشمال النعام آدم فكثيرا ما يقابلني مستذكرا بعض مفردات أغنيته التي يحبها يوسف :
لا شوفتن تبل الشوق
ولا ردن يطمن
أريتك تبقى طيب أنتا
أنا البى كلو هين.
5
وبالرغم من الهدوء والتركيز الذي كان سمة من سمات هذا الراحل العظيم ، ألا أنني كنت أراه عجولا يسابق الريح بل أنني أوضحت له ذلك ذات مرة ليرد بنظرة مشعة مشبعة بالكثير من الكلام قلت له أنني أراك في أحوال كثيرة كالمتنبي :
على قلق كأن الريح تحتي
أوجهها جنوبا أو شمالا
ومن مظاهر سرعة الإيقاع الذي رأيته طابعا لحياته هو انتقالاته العديدة المتكررة بين السودان وكندا ومونتري وداخل مونتري نفسها بل ومن ولاية الى أخرى . قبل توجهه الأخير الى كندا كانت اتصالاتي به قليلة فعدت من رحلة طويلة لأعلم منه عبر الهاتف عن طبيعة المرض الذي ألم به وكيف أن روتين الإجراءات حال دون وصول شقيقته المتبرعة . لامني كثيرا على عدم الاتصال وشرحت له بكل الصدق بأنني لم أرد الاتصال به وهو متوعك وانما أنتظر فرجا كان يتبدى لي عبر عباراته القوية المؤمنة الحديدية بأنه لا يخشى شيئا ويعلم جيدا قصر المسافة بين الأرض والسماء .
6
يوسف قريب الله
سقت قبرك المزن وروت لأبي واخوته بعدك كيف كنت مشرقا ومؤمنا وعفويا وطيبا حليما حكيما متبسما .كنت سودانيا بكل السمات ومؤمنا مسلما يقيني العشق سماوي الملامح نبوي السلوك ووقانا الله حسرات الحزن عليك وأحاله الى تسابيح دعاء تصلك وأنت في مجالس الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.