زرياب السودان وكروانه: ساحر البهجة (3)

 


 

 

ما هو عارف قدمو ا لمفارق
سبانا المبدع د. عبد الكريم الكابلي: نورانية الروح في المنجز الإبداعي والفني للكابلي
ديباجة:
اختار كابلي رميات كديباجة لما تغنى به من قصائد مفعمة بالرمزية تحمل في أحشائها صور رومانسية وأحيانا حسية فيكون بها باقة من الأزهار يفوح شذاة فيملأ الأجواء الفنية عبق معتق يوسع الصدر. والأمثلة كثر ومنها اختيارية لبعض أبيات من قصيدة العقاد عندما يتغنى ب "ما هو عارف قدمو المفارق" والتي تعد من القصائد الخالدة لما تضمنته من دلالات دينية وردت في نص القصيدة اكتسبت بها الخلود: " ما هو عارف قدمو المفارق/ يا محط آمالي السلام/ في سموم الصيف لاح بارق / لم يزل يرتاد المشارق/ كان مع الأحباب نجمه شارق/ ماله والأفلاك في الظلام / يا دهر أهوالك تسابق/ فيها كم شابت مفارق/ ما علينا الفات كله فارق/ رقنا وله نعيد الملام.... يا بلادي كم فيك حاذق/ غير إلهك ما ام رازق/ من شعاره دخول المأزق/ يتفانى وشرفك تمام...... الحبائب لفتو الخلائق / بيني بينهم قطعوا العلايق /ان دلال ان تيه كله لايق/ نحن ما مجينا الخصام/يا جميل يا نور الشقائق / املا كاسك واصبر دقائق/مجلسك مفهوم شوفه رايق/عقده ناقص وله تام.......(خليل فرح: القصيدة: ما هو عارف)(1(
اختار لها كابلي رمية من شعر العقاد ليمتعك بالإصْغاء اولا ولتقدر ملكة الالغاء لديه واستقامة اللسان في نطق الفصحى وسلامة مخارج الحروف، ثانيا لتنحي ركبتيك اجلالا وتقديرا ثم يحدو بك مع ابداعات الخليل ليتمم كيفك فيشدو:
"هذا بشير الزمان/ فانشر دفين الأماني/ على دعاء المثاني/ وضجة الندمان/ ونادى.. ونادى بالخمر جوبي في كل عرق طروب/ وخالطي في القلوب مواطن الاحزان/ردي حياتك فينا/ فان حيتي حيينا/نعم وعشنا سنين في لحظة من زمان/اذ هديت فصبر او ضَل رشدي فعذر/ فإنما بك سكر فرضا وبي سكراني"(العقاد: قصيدة سكران) )2(

الفنتازيا الرومانسية واختيارات كابلي للشعر
اختيارات عبد الكريم الكابلي في الغناء لا تحصى وقد سلك دروب شتى فيها ما هو سالك وفيها ما هو وعر شائك وفي هذه الاختيارات: منها السوداني ومنها العربي. توخى في اختياراته التميز فاختار من قصائد لشعراء المدرسة الرومانسية ( ابوللو) والتي من روادها: العقاد ، جبران خليل جبران وبعض من قصائد علي محمود طه ( 1901-1949) ( الجندول ، و كليوباترا ) من ديوان ( الملاح التائه) ، كما اختار "حديقة العشاق" لتوفيق صالح جِبْرِيل (شاعر الدهليز) والذي حمل راية التجديد في الشعر السوداني متأثرا بمدرسة الديوان والتي يعد من روادها في السودان وبهذا مهد الطريق لشعراء الوسط في السودان ومن بينهم : التجاني يوسف بشير ، والناصر قريب الله في " ام بادر" ومحمد المهدي المجذوب وقد تغنى له كابلي بقصيده " ليلة المولد " . ان الاستماع الى كابلي في أدائه 'لقصيدة الجندول ' يحدث تغيرا في نغمة التخت والإيقاع لتهتف أوتار عوده وتنادي "كليوباترا".. فيتداعه سحر البيان. وبالتمعن فيما جادت به قريحة الشاعر علي محمود طه والذي وصف الشاعر بانه:" نزل الارض كالشعاع السني بعصا ساحر وقلب نبي"3 وهو من شعراء مدرسة (ابوللو)، نزل الى الارض محملا بقصيدة 'الجندول ' وكليوباترا بعد ان عرج فحملت روحة بها ليلتقطها عبد الكريم الكابلي ليصيغ لها لحنا عربيدا طروبا يبرز مفاتنها فيسكرك بالبهجة. ان الرمزية في البناء المعماري للقصيدة ودلالاته جعلها ذات نفحة خاصة تستوقفك للتأمل وتشحذ خيالك بتصويرها فتبهرك فتهز رأسك دهشة واستعجاب. ان النص الشعري ومجمل الرمزية في القصيدة جعل منه ملاذا جماليا يسرح بالخيال لتتراءى الصورة مجسدة الواقع فتبحر بك مع حوراء تغني:" بعثت في زورق من كل فن/ فرح المجداف / يختال بحوراء تغني/ فتغنى الشاطئين...".
ونجد عند قراءة النص الشعري في القصيدة سحر البيان وتجسيد المعاني لاستنطاق حتى الجمادات امعانا في الرومانسية تمثل ذلك في استحضار واستحلاف ضفاف النيل وخضر الروابي لوصف الحبيب وإعادة وصفه، وفي هذ النص دلالة عن الحب والاستمتاع بوصف الحبيب فكان الرجاء والتمني حين قال:" إذا رأيت فتا غض الإهاب/ اسمر الجبهة/كالخمرة في النور المذاب / فأصفيه وأعيدي وصفه/ فهو حبيبي...... كليوباترا" .......
حيث انتهى استجداء الشاعر لكليوباترا من ان تقوم بهذه المهمة ، لحن عبد الكريم الكابلي هذا النص في هذه القصيدة بإيقاعات متنوعة ويرسلها محمل لها في صوته لتصلك كالترانيم المقدسة ، يملأها بصوته العذب الرخيم وتداعب أنامله برقة أوتار عوده فيشجيك ، ويطربك حتى تسري النشوة في دمائك فيسكرك ببهجة لا يدعك تمل سماعه وتكرار ما صدح به فيتغلغل في داخلك ممسكا بمفاصلك فتسترخي وترنو وتصغي اكثر فتأخذك الدهشة والإعجاب بفصاحة اللسان ومخارج الحروف فتطرق لها حركات الاعراب فيزداد انبهارك بالبناء المعماري للنوتة الموسيقية التي فصلها كابلي لترتقي الى مستوى النص والرمزية التي أنبنى عليها النص الشعري.

الغنائيات والتراكيب الوصفية لحالات العشق والدلالات المادية
ومن اختيارات عبد الكريم الكابلي المميزة للقصائد “حديقة العشاق" لشاعر الدهليز توفيق صالح جِبْرِيل ( -1897 -1966) وقد اشتهر الدهليز كمنتدى للأدباء والشعراء وكان منفصل عن السرايا وقد اهتم توفيق صالح جِبْرِيل بشعر آلمتني، وبشاره الخوري، والبحتري وله ديوان (أفق وشفق) مكون من أربعة اجزاء واحتوى على 383 قصيدة ( 4) . وقد ركز في موضوعاته على الحب والسياسة. وقد اخرج القصيدة السودانية من التقليدية الى الحداثة يحذو حذو شعراء المدرسة الرومانسية (ابوللو) في مصر من أمثال: المازني والعقاد وطه حسين وعلي محمود طه. مهد توفيق صالح جِبْرِيل الطريق لشعراء الوسط في السودان ومنهم التجاني يوسف بشير، الناصر قريب الله، ومحمد المهدي المجذوب، وتاج السر الحسن تتبعا لخطوات شعراء المدرسة الرومانسية في مصر..

همس الرومانسية
يبعث الكابلي الروح في كل قصيدة تناولها باللحن والشدو فتصبح معبره وملامسة للأحاسيس والمشاعر وباعثه للجمال ومحركة للحواس والتأمل. حباه الله بتموجات في صوته حيث تسري النشوة والطرب لعلها سر جمال وسحر ذلك المزمار، وكان له عزف ناعم ناعس على أوتار عودة فيزيد من نورانية الروح على أعماله الإبداعية وقد ميزه الله بهذا التموج في صوته محدثا نغمة ذات رنين وجرس موسيقي تجعل التخت ليس بخماسي ولا سباعي ان جاز التعبير فصعب تقليده. ففي قصيدة:" حديقة العشاق" المليئة بالألحان الحنينة الرطبة يرسلها صوت كابلي الشجي عبر الأثير فتنتقل بخيالك الى تلك للحظات من الأجواء المعتقة بالرومانسية وصوت كابلي وهو يصدح بها يداعب مشاعرك فتستأنس وتستريح أعصابك لتكتمل عندك المؤانسة والبهجة وقد ساعدة في ذلك هندسة النص الشعري التصويري المجسم والرمزية ليكون حتى التمني في حياء:" والمني بين خصرها ويديها/ والسني في ابتسامتها البراق/ اتني بالصبوح يا بهجة الروح ترحني/ ان كان في الكأس باقي" ، فمن الانسيابية والتغني في القرار ينتعش كابلي فيصعد من القرار الي الجواب صادحا محملا ب كسلا واشراقات شمس الوجد بها وانها حقيقة جنة الاشراقي .كذلك ابلغ صوره تصوريه مفعمة بالرمزية جادت بها شاعرية توفيق صالح جبريل ضمن بناء القصيدة وما اضاف عليها لحن كابلي من سحر وجاذبية تجعلك مسحور بها:" نغم الساقيات حرك اشجاني/ وهاج بي الهوى انين السواقي/ بين صب في حبة متلاشي/ ومحب مستغرق في عناقي/ وتلاقت في حلبة الرقص أيد وخدود / والتفت ساق بساق/فظللنا والكل هام في انسجام وبهجة وانساق/ ظلت القيد والقوارير صرعا /والاباريق بتنا في اطراقي" . تناول كابلي هذه القصيدة والبسها روح نورانية وتغنى بها فبرزت التراكيب الوصفية لحالات العشق والرومانسية جليا فانصهر ثلاثتهم: فنتازيا الرومانسية للشاعر ولحن كابلي للقصيدة والتطريب في اداءه لها.
يختار الكابلي القصائد التي تغنى بها عن دراية وبمعرفة مثقف رمى سهمه فأصاب وتغنى بأجمل القصائد لشعراء الوسط ومن بينهم الناصر قريب الله فكانت" ام بادر" هي القصيدة المحظوظة وكان يبدأها ب: " رزقته في الكمال/ واحتوى ضمير الرمال/. فتنهى إليك كل جميل/ قد تنهى إليك كل جمال/ وفتاة لقيتها تجني ثمر السنط/ في انفراد الغزالي/ تمنح الغصن أسفل قدميها/ ويداها في صدر اخر عال/ فيظل النهدان في خفقان الموج / والكشح مفرطا في الهزال/ شاقني صوتها المديد تنادي/ والعصافير ذاهب الآمال/ فتشيها ابتسام/ يسكن الخمر في كؤوس لألي/اي أنس اتاحة ذلك اليوم /وأي الجواء فيه صفا لي/ فجزى الكاهلية الحب عني/ ما جزيت عن جرأتي واتصالي". (5)
لم تكن هذه النزعة الحسية في شعر الناصر قريب الله مرضية لأهلة وهم من بيوت الطرق الصوفية في السودان، وقد طلبوا من المجلس القومي للآداب والفنون حذف بعض أبيات من قصيدة " ام بادر". (6)
لم يكن اختيار الكابلي لهذه الابيات المشبعة بالحسية اعتباطا بل لأنها تحمل في أحشائها قصة دارت رحاها في "وادي الوكيل" في كردفان ولها اثر قوي ممتد مع امتداد الليالي فكانت بمثابة غذاء للروح في زمن الحرمان فكان يغذي بها شعوره بشكل مستمر ، ومن هنا يمكن ان نجزم بان الكابلي لا يختار القصائد اعتباطا بل عن دراية وترف ثقافي وفكري وادراك بما هي دلالات النص الشعري وما يحمله في احشائه من تجارب دارت رحاها خلف الكواليس وداخل الدهاليز ، او لا يثبت ذلك ان الكابلي يدخل في زمرة المثقفين دون أدنى شك في ذلك وهو من أصحاب الاسرار رحمة الله تغشاه وقدس الله سره...

المصادر
1احمد، عبد الحميد محمد( 2005). امدر مان... حقيبة الفن لماذا ؟،الناشر دار عزه للنشر والتوزيع
2العقاد، عباس محمود http so://www.almaany. Com,(available 18Sept(2020).
3.اسماعيل، محمد. السيد (2009) “عبد القادر، حميده... شاعرا، دليل على عصر .. وشاهد على جيل “، الناشر مجلة الهلال يوليو٢٠٠٩، رجب ١٤٣٠ه
4بدري، شوقي)2022 ) . " توفيق صالح جِبْرِيل ابوالوطنية السودانية" نشرت بتاريخ 18 سبتمبر 2022
https//Sudanile.com ,(available
18Sept2022)
https://Alantologia.com ( 5)
( 6 )
د. النور، حمد (2019). مهارب المبدعين. قراءة في السيرة والنصوص. الناشر، دار المصورات للنشر والطباعة (156-164

kargwell65@yahoo.co.uk
////////////////////////

 

آراء