سد النهضة رؤية جديدة – رؤية من أسفل

 


 

 

كما كان متوقعًا لم تحقق جولة مفاوضات سد النهضة بين أثيوبيا والسودان ومصر التي عقدت في القاهرة في شهر أغسطس الماضي أي تقدم يذكر، مما أتاح لأثيوبيا المضي منفردة في ملئ بحيرة السد (الملء الرابع). وذلك لأن المفاوضات لا تقوم على الرؤية الصحيحة وهي أن شعوب دول حوض النيل تتشارك نفس المصير، وتواجه تحديات اقتصادية وسياسية واجتماعية متماثلة. كما تواجه ايضا ارتهان القرارات الاستراتيجية لقوي خارجية طامعة في السيطرة على مقدرات دول حوض النيل.
كما ان المفاوضات تناقش في جلها قضايا مليء وتشغيل السد، وهي قضايا متجددة لا يمكن الوصول فيها الي حلول نهائية بسبب التغيرات المناخية وزيادة السكان وتفاوت معدلات التنمية بين دول حوض النيل.
ومع ذلك تفتح مناقشة تلكم القضايا الباب أمام التمترس حول رؤية محلية كثيرا ما تكون خاطئة، كونها تقوم على نظرة انتقائية للتاريخ، تقسم الشعوب الي مغتصب ومظلوم، وبالتالي تأليب شعوب دول الحوض بعضها على بعض.
فمثلا تقوم الرؤية الاثيوبية للمفاوضات على أن النيل الأزرق هو نهر اثيوبي في الأساس ويجب عليها الاستفادة أولاً من خيراته، وما فاض عن حاجتها يمكن أن تجود به على "الأشقاء" في السودان ومصر. وأنه حان الأوان لأثيوبيا أن تنهض وتستخدم مواردها المائية للنهوض كما فعل السودان ومصر في السابق دون أدني اعتبار لها (أي لأثيوبيا كما تزعم).
في المقابل تقوم الرؤية المصرية على أن نهر النيل ومصر صنوان لا يفترقا، وأن لمصر "حقوقا تاريخية" في النيل لا يمكن المساس بها. وان لمصر كامل الحق في استخدام كافة الوسائل المتاحة حتى العسكرية منها للحفاظ على تلك "الحقوق التاريخية".
أما السودان فيدخل باب التفاوض بلا رؤية، ولذلك تجده مذبذبا مرةً مع الموقف المصري، ومرة اخري مع الاثيوبي.
وفي ظل غياب السودان ظلت الرؤى والمفاهيم بين اثيوبيا ومصر متباينة، فلا يمكن الوصول الي حل مرضٍ لكل الأطراف، وبالتالي يتخوف كل طرف من أي تنازل، لأنه سينظر إلى التنازل أنه تنازل عن حقوق أساسية أو سيادية او تاريخية.
لحل هذه المعضلة نرى أن تتحرك المفاوضات الي مربع جديد، ألا وهو مربع الشعوب ومصيرها المشترك، وليكن المدخل لذلك طرح أسئلة جديدة، مثل التساؤل حول مدى تحقيق مشاريع السدود الكبيرة في القرن الواحد والعشرين للتنمية المرجوة منها مع وجود بدائل؟ في تقديرنا أن هذا السؤال ليس مثيراً، وإنما هو مبرر ومشروع، ويتأسس على ما خلصت إليه من مقالات دراسات علمية، نورد بعض منها كما يلي:
1/ أوردت مقالة بعنوان "مع انخفاض المشاريع هل قارب عصر السدود الكبيرة على الانتهاء" نشرت في مجلة ييل البيئية ٣٦٠ الصادرة عن جامعة ييل الأمريكية. حيث ذكرت تلك المقالة ان لعوامل عديدة منها التكلفة العالية أحجمت الصين عن بناء أي سدود جديدة داخل الصين أو خارجها. حيث ذكر تقرير قامت به الوكالة العالمية للطاقة المتجددة الصادر في عام 2023 أن الاستثمارات في بناء سدود جديدة قلت من (26) مليار دولار في عام 2017 الي (8) مليار دولار في عام 2022. كما أن تكلفة تركيب الكهرباء المنتجة من السدود المائية ارتفعت بنسبة (62٪) للفترة ما بين 2010-2021، ينما انخفضت تكلفة تركيب ألواح الطاقة الشمسية بنسبة (82٪) لنفس الفترة. كما أن تكلفة الطاقة المستخرجة من شبكات الطاقة الشمسية أصبحت تساوي نظيرتها المنتجة من مصادر كهرومائية والتي تبلغ 4.8) سنت) لكل كيلو وات ساعة.
2/ اقترحت دارسة منشورة في (Nature Energy) بعنوان "الطاقة الشمسية والرياح في شرق أفريقيا مع تشغيل سد النهضة الإثيوبي" عدة سيناريوهات لإنتاج كهرباء مستقرة لأثيوبيا من خلال المزج بين الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة الكهرومائية من السد. وقد أكدت تلك الدراسة أن هذا المزج لإنتاج الكهرباء سيفك جمود مفاوضات سد النهضة ويجعل من اثيوبيا مركزا لإنتاج وتصدير الطاقة المتجددة في الإقليم كما يبدد مخاوف مصر، ويحافظ على مصالح السودان.

ومن مجمل ما تقدم يمكن القول إن حل قضية سد النهضة يكمن في تغير طريقة وفلسفة التفاوض، وتبني طريقة وفلسفة جديدة تقوم على ان شعوب وادي النيل هي في الأصل واحدة. لذا لزم مساعدة اثيوبيا في تحمل الضغوط الاقتصادية والتي أتوقع ستنجم من التكلفة المالية العالية لأنشاء للسد وانخفاض العائد منه. ولذلك بسبب انعدام البنية التحتية الصناعية التي يمكن ان تستهلك كميات كبيرة من الكهرباء وبالتالي تحمل تكاليف السد. ويتم ذلك بمساعدة اثيوبيا في بناء شبكات طاقة شمسية ورياح وطاقة حرارية أرضية وبنيات تحتية لتحمل أي صعوبات من تغيرات المناخ المتوقعة. لابد ان تتفهم مصر ان هنالك حوجه حقيقية في اثيوبيا وباقي دول حوض النيل الأخرى في استخدام مواردها ومنها المياه لدفع قاطرة التنمية وليس من باب الكيد لمصر. كما يجب ان تتفهم دول المنابع ان النيل مثل المورد الرئيسي للمياه لمصر.
وفي المقابل تلتزم اثيوبيا بتقليل التخزين في بحيرة السد واشراك مصر والسودان في إدارة السد وعدم التعدي على الأراضي السودانية وامتناع اثيوبيا عن التصرف احاديا مستقبلا في حوض النيل الأزرق. مثل هذه التدابير وغيرها من شانها ان تعزز من الثقة بين الدول الثلاث وتحفظ السودان من مصير مجهول. وذلك لان السودان أصبح مهددا في وجوده بسبب كبر سعة بحيرة السد التي قد تندفع منها نحو السودان بكميات لا يمكن السيطرة عليها بفعل الطبيعة مثل الفيضانات الكبيرة أو الزلازل أو بفعل الانسان كالأخطاء البشرية او تعرض منظومة السد لهجوم الكتروني من دولة أو من شخص. فقد تم تفجير سد نوفا كاخوفا في أوكرانيا من طرف مجهول وقد تم استخدام هذا السد كواحد من الأسلحة في الحرب الروسية الأوكرانية.

د. احمد عبدالله الشيخ
aaer4c@gmail.com

 

آراء