سقوط حاتم: سقوط آخر رمز وطني!

 


 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

يحز في نفسي لدرجة بعيدة أن أنعي لشعب السودان إبناً من أبنائه، كنت أحسبه وطنياً نظيفاً شفافاً مكافحاً صلباً حتى الرمق الأخير، وهو حاتم السر علي، الذى لم يمت تماماً بالمعني الكلاسيكي والفيزيولوجي المعروف للموت، ولكنه توفى سياسياً ومعنوياً وأخلاقياً صباح اليوم بالساحة الخضراء بالخرطوم وهو يدافع عن نظام البشير. لقد ظللت ألح عليه طوال الشهور المنصرمة عبر الواتساب بأن ينسحب من هذه الحكومة الفاسدة إنقاذاً لإسمه وتاريخه النضالي ومستقبله السياسي، وأن ينتهز هذه الفرصة أو تلك لإعلان استقالته قائلاً إنه كان يحسن الظن بالنظام منذ حوار الوثبة، ولكنه وبالممارسة وبعد عامين بكرسي الوزارة اكتشف غور وعوار الدولة العميقة، وكيف أن المؤتمر الوطني مسيطر على مفاصل دولاب الحكومة من رأسه لقعره، وكيف أن الجميع بلا استثناء غارقون في الفساد حتى ذؤاباتهم، وأنهم يشكلون حوائط صخرية تتكسر عليها أي جهود للإصلاح أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه. ولكنه صار في الآونة الأخيرة لا يرد على رسائلي، إلا البارحة حيث أرسل لي رسالة من كلمتين فقط :"كيفك ياصديقي"؟، ولما سألته ماذا هو فاعل إزاء الثورة الشعبية الراهنة وكيف سيتخارج، لاذ بصمت القبور، وإذا بي صباح اليوم أراه أول المتحدثين بالساحة الخضراء داعماً لنظام مرفوض من كل الشعب، نظام يلفظ أنفاسه الأخيرة.

إنه لأمر مؤسف أن ينكسر ويتهاوى رجل فحل ومناضل صنديد لثلاثين سنة خلت؛ بيد أن البشر مليئون بالمفاجآت، وقد يعمل أحدكم كما قال المصطفي عليه الصلاة والسلام عمل أهل الجنة حتى يسبق عليه الكتاب...فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. ولا أدري ما هي المصالح التى يدافع عنها صديقي حاتم؟ ما أعرفه عنه حتى قبل ستة شهور أنه كان لا يملك بيتاً ولا قطعة أرض ولا رصيد في البنك ولا أياً من عرض الدنيا، فهل لحق ب"التمكين" في الزمن الضائع؟ هل هو تأثير أصدقائه الذين أعرفهم والذين أخبرني كثيراً عن محاولاتهم لإغرائه وإغوائه بالولوغ في الفساد، وهم تماسيح متمرسة؟؟ مهما يكن من أمر، فإن قراءة صديقي حاتم للمشهد السياسي خاطئة مائة بالمائة ولا تشبه حاتم الذى كان طوال الأربعين سنة الماضية حاذقاً وألمعياً ولا تفوت عليه فائتة. هذا نظام تصرم عهده وناح بومه ونعق غراب بينه، ومن لا يرى هذه الكتابة على الحائط فهو بلا يقظة ولا بصيرة ولا خبرة سياسية؛ وكنت أحسب صديقي حاتم ذا حس سياسي مرهف وذا فطرة سليمة وذكاء وقاد. ماذا جري؟

أرجو أن أؤكد للأخ حاتم أن هذه نهاية محتومة ليس فقط لنظام الإخوان المسلمين، إنما للطائفية الرجعية كذلك. كنا نتوسل بالطريقة لاستقطاب أهلنا قبائل الشمال الختمية نحو الخط الوطني الساعي للتقدم الإقتصادي والتحول الإجتماعي، ولإرساء دعائم الدولة العلمانية الديمقراطية التى تتسع لجميع أبناء الشعب بكافة أديانهم وطوائفهم كما هو الحال في الهند منذ استقلالها عام 1947، تلك الدولة التى ظل شعبنا يناضل لمدى العقود الثلاثة الماضية لانتزاعها من فك الإخوان المسلمين؛ إذا بها تنضم لركب المتاجرين بمعتقداتنا الدينية.

ما كنت أحسبني أعيش لأرى الرجال يسقطون بهذه الطريقة الدراماتيكية، ولكن ما يشد من أزرنا ونحن في خريف العمر أن نكتشف أن الأجيال الصاعدة من أبناء شعبنا مشبعة بنفس القيم التى كنا نحسبها قد اندثرت: قيم الوعي السياسي والشجاعة والصدع بالحق والمقدرة العبقرية على محاورة الخصم بلا انكسار. هنالك مد ثوري بالشارع السوداني يملأ العين حتى تفيض، وقد رآه العالم بأكمله، حتى الشعوب غير المتمرسة في السياسة، وأصبح شعبنا اليوم مضرب الأمثال فى الدنيا بأسرها.

يؤسفني جداً أن تفوت هذه الحقائق على المناضل – حتى صباح اليوم – حاتم السر. وعلى كل حال، إن قضيتنا ليست قضية أفراد، فنحن كلنا زائلون، ولكن كما يقول أهلنا : (الكلمة أطول من العمر). وقال شكسبيبر The evil that men do lives after them! ولسوف يسجل التاريخ إن حاتم إبن الحاجة السهوة قد باع دماء الشهداء أبناء عمومته وخؤولته بثمن بخس، وهوى متهالكاً في آخر عمره مع سقوط النظام الذى لحق بآخر عربة فيه. ويؤسفني جداً أن تشيعكم جماهير شعبنا غداً إلى مزبلة التاريخ.


والسلام.

fdil.abbas@gmail.com

 

آراء