سودنة الخدمة العامة: تحليل نقدي (2 -3)
بدر الدين حامد الهاشمي
5 November, 2024
5 November, 2024
سودنة الخدمة العامة: تحليل نقدي (2 -3)
Sudanization of the Public Service. A Critical Analysis (2 -3)
العجب أ. الطريفي Al - Agab A. Al -Teraifi
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة للجزء الثاني لما جاء في مقال عن "السودنة" بقلم الدكتور العجب الطريفي نُشِرَ في العدد الثامن والخمسين من مجلة "السودان في رسائل ومدونات SNR" الصادرة عام 1977م، في صفحات 117 – 134. واِستَشهَدَ الكاتب في مراجع مقاله برسالته للدكتوراه من جامعة بيتسبرغ الأميركية التي نالها عام 1978م، وكانت بعنوان: Administrative Reform in the Sudan with Special Reference to Personnel Aspects الإصلاح الإداري في السودان مع التركيز بشكل خاص على الجوانب المتعلقة بشؤون الموظفين (1).
ومن المقالات التي نشرت عن "السودنة" مقال بعنوان "السودنة في إطار كلي" تجده في هذا الرابط: https://shorturl.at/pDa2a
المترجم
******** ******** ********
تواصل اتباع حكومة السودان (بقيادة السير جون مافي الذي عُيِّنَ حاكماً عاماً في 1922م) لسياسة تعزيز سلطات شيوخ وزعماء القبائل. وآلت الكثير من واجبات محاسبي وكتبة الحكومة إلى سلطات الإدارات القبلية. وفي غرب كردفان استغنت الحكومة عن كل موظفيها المؤهلين في ثلاثة من مجالسها الريفية (subdistricts).
وواجهت الإدارة الأهلية الكثير من الانتقادات الحادة من مختلف الاتجاهات. فالطبقة المتعلمة كانت تعدها مؤسسة رجعية تعيق مسيرة تقدم البلاد ووحدتها، إذ أنها تحاول إعادة (سطوة) القبلية، وتسعى لإحياء المناطقية والجهوية. وكان السير جيمس كيري (أول مدير للمعارف) قد انتقد الإدارة الأهلية بشدة عام 1953م في مقال منشور (1) ذكر فيه أنه كان أمراً صادماً بالنسبة له أن يرى "إداريين شباب يبحثون عن قبائل مفقودة وزعماء مختفين، ويحاولون إحياء نظام اجتماعي اِخْتَفَى إلى الأبد".
كذلك هاجم السير دوغلاس نيوبوولد بشدة الإدارة الأهلية (عندما كان حاكماً لمديرية كردفان)، وذكر في محاضرة عامة ألقاها ما يلي: "تدريجياً، وجدنا أن الإدارة المحلية تتجه نحو التصلب أو التحجر، وتغدو هرمية متميزة تعتمد على الرواتب (الحكومية)، وكانت ميزانيتها في معظمها تعتمد على قائمة مدنية (مثلما يحدث في الدويلات الأهلية في الهند الصغرى). لم تكن هناك بذرة للتقدم، ولا مجال للمواطنين المتعلمين أو الطموحين. لقد اكتسبت الإدارة الأهلية نبرة إقطاعية ورجعية، وكانت معادية للمدن أو جاهلة بها، واعتمدت على النظام الوراثي".
سياسة إدارية جديدة
بدأت السلطات الكلولونيالية بالسودان في ممارسة سياسة مخالفة تماماً لتلك السياسة التي ذكرت آنفاً. ففي عام 1933م عُيِّنَ السير ستيوارت سايمز حاكماً عاماُ للسودان. وكان سايمز، خلافاً لمن سبقه من الحكام، يؤمن بأن "الإدارة الأهلية" ليست هي الأداة المناسبة لتطوير البلاد والمجتمع السوداني. وكان يؤمن أيضاً بأن السودانيين يمتلكون القدرة على تولي نصيب أكبر في إدارة بلادهم إن حصلوا على التعليم الضروري للقيام بتلك المهمة. لذا قررت حكومة السودان الإسراع بزيادة أعداد السودانيين في الوظائف الحكومية المستدامة. وفي عام 1934م تم تعيين بعض السودانيين في وظائف عليا (مثل وظيفتي مساعد مفتش مركز، ونائب قائد الشرطة). وبُدِئَ في برنامج تدريب للموظفين السودانيين في عدد من المصالح الحكومية المعنية بالزراعة والأشغال العامة والمساحة والجمارك. وأُنْشِئَتْ مدرسة حربية جديدة قُبِلَ بها طلاب حربيون سودانيون للدراسة لثلاث سنوات، ويتخرجون بعد ذلك ضباطاً. وأُعِيدَ افتتاح "مدرسة الإدارة" في عام 1935م.
وتماشياً مع موقف السودانيين من الارتباط بالإدارة الحكومية، شُكِلَتْ لجنة كانت اختصاصاتها على النحو التالي:
أ/ عمل مراجعة عامة لمدى التقدم الذي أُحْرِزَ في غضون سنوات العقد الماضي في مجال تعيين السودانيين في وظائف في المصالح الفنية، وبمسؤوليات أكبر.
ب/ تقديم المشورة والتوصيات المحددة - كلما أمكن ذلك - بشأن كيفية الإسراع بعملية توظيف السودانيين بصورة اقتصادية سليمة، ومن دون مخاطر غير مبررة على الخدمة العامة، مع الإشارة بشكل خاص إلى: (i) توفير مرافق أفضل للتدريب الفني للسودانيين الذين سوف يعينون؛ و (ii) التعديلات الممكنة والمحتملة في الأنظمة الحالية وفي الممارسات بالمصالح الفنية، التي من شأنها أن تسهل توظيف السودانيين في وظائف أكثر مسؤولية.
وكان من رأي تلك اللجنة أن كلية غوردون قد فشلت في تخريج أعداد كافية من الفنيين المدربين. وعلى الرغم من أن اللجنة كانت تطالب بتعيين سودانيين في المصالح الفنية وغيرها من المصالح الحكومية، إلا أنها كانت أيضاً تنصح بعدم التعجل في تعيينهم بوظائف ليسوا مؤهلين تماماً لشغلها.
ثم أتت خطوة مهمة نحو "السودنة" في عام 1936م مع إبرام المعاهدة البريطانية -المصرية. وقد نصت تلك المعاهدة على أن الهدف الأساسي للحكم الثنائي هو "رفاهية السودانيين". ونصت المادة الثانية من المعاهدة على أن السودانيين يجب أن تكون لهم الأفضلية في الخدمة الحكومية، ولا يجوز تعيين الرعايا البريطانيين والمصريين في أي وظائف إلا إذا لم يكن هناك من السودانيين من هم أهل لشغلها. وكانت النتيجة المباشرة لتلك المادة هي زيادة مطردة في أعداد السودانيين المعينين في الدرجات الدنيا والمتوسطة في الخدمة العامة بالمصالح والإدارات المختلفة.
قوانين ولوائح الموظفين
وقد شهدت فترة الثلاثينيات أيضاً المصادقة على أنظمة شؤون الموظفين (1938م)، ولوائح الإجازات والمأموريات (1934م) بالإضافة للوائح المالية. وكانت قد أُجِيزَتْ من قبل بعض القوانين منها قانون معاشات الخدمة المدنية (عام 1904م) ولوائح المعاشات والمكآفأت للعاملين بالحكومة من السودانيين والأجانب (عام 1919م). وأنشئ قسم للمؤسسة داخل إدارة السكرتير المالي ليكون المنظمة المركزية المسؤولة عن إدارة الخدمة بأكملها إنابة عن الحكومة. بالإضافة إلى ذلك، ونتيجة لتقرير اللجنة، تم تصنيف الخدمة المدنية في عام 1934م إلى ثلاثة أقسام كانت تُعرف باسم القسم الأول، والقسم الثاني، والقسم الثالث. وألغى ذلك التصنيف في عام 1951م بعد نشر تقرير "لجنة شروط الخدمة" (الذي صدر عام 1950م. المترجم) والذي صنف الخدمة المدنية إلى: (1) الفئة المهنية الإدارية، (2) الفئة شبه المهنية، و (3) الفئة الكتابية. وقد كان هذا التصنيف قد صَمَّمَ على غرار النظام البريطاني الذي لا يزال سارياً (على الأقل حتى عام نشر هذا المقال في 1977م. المترجم).
المدارس العليا
كما ذكرنا آنفاً فقد كان برنامج السودنة في غضون سنوات العهد الكلولونيالي يعتمد اعتماداً كبيراً على مخرجات المدارس. لذا فقد كان من الضروري إنشاء مؤسسات تعليمية لتمكين السودانيين من الالتحاق بالوظائف العليا في الخدمة العامة. وفي فبراير من عام 1937م استقدمت الحكومة لجنة برئاسة اللورد دي لا وار De La Warr لتضم السودان في بحثها المسحي عن مشاكل التعليم في أفريقيا (كُوِّنَتْ تلك اللجنة بطلب من مساعد وزير شؤون المستعمرات البريطاني، وهناك عرض لأعمال تلك اللجنة تجده / تجديه في هذا الرابط https://www.jstor.org/stable/717968 . المترجم). وشملت توصيات تلك اللجنة التالي:
أ) توسيع قاعدة الهرم التعليمي من خلال التوسع في التعليم الابتدائي والمتوسط،
ب) تسريع تطوير التعليم الفني في المراكز المخصصة لهذا الغرض،
ت) التركيز على التعليم العام في مناهج المرحلة الثانوية،
ث) إعطاء النظام بأكمله قمة (apex) في شكل عدد من المدارس العليا المصممة لإنتاج نخبة فكرية حقيقية.
(ذُكِرَ في موقع إسفيري (https://shorturl.at/Zi3GD) أن تلك اللجنة كانت قد أوصت أيضاً بنقل المدرسة الثانوية من كلية غردون إلى موقع ريفي، بعيداً عن مؤثرات الخرطوم الاجتماعية والسياسية. المترجم).
وقامت الحكومة بتنفيذ بعض تلك التوصيات بإنشائها لعدد من المدارس العليا لتدريس القانون والعلوم والزراعة والعلوم البيطرية والهندسة بغرض تدريب السودانيين على تلك المهن، ولتأهليهم لتولي وظائف ذات مسؤوليات أكبر في المجالات الفنية والإدارية بالخدمة العامة. وكانت مدارس القانون والزراعة والعلوم البيطرية تدار مباشرةً وبصورة مستقلة بالمصالح الحكومية المتخصصة في كل مجال من تلك المواد. أما البقية فقد كانت مرتبطة منذ إنشائها بمدير مصلحة المعارف. وفي نهايات عام 1942م، أُدْخِلَ نوع من التنسيق بإنشاء لجنة استشارية للمدارس العليا.
التطورات التي حدثت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية
شهد عام 1938م ميلاد مؤتمر الخريجين العام، الذي صار لاحقاً هو رأس رمح الحركة الوطنية. وكانت عضوية ذلك المؤتمر تتكون من خريجي كلية غوردون والمدارس الأخرى، الذين كان معظمهم يعمل في مجال الخدمة المدنية. وكان هدف المؤتمر- كما جاء في دستوره – هو "خدمة مصالح البلاد بصورة عامة، ومصالح الخريجين". إلا أن المؤتمر أفصح في عام 1942م عن طبيعته السياسية عندما قام رئيسه بتقديم مذكرة إلى الحاكم العام إنابة عن الشعب السوداني. وضمن مطالب أخرى، طالب المؤتمر في تلك المذكرة الحكومتين البريطانية والمصرية بإصدار تصريح مشترك تَتَعَهَّدَانِ فيه بمنح السودان حق تقرير المصير فور انتهاء الحرب العالمية الثانية. وبالإضافة لذلك طالب المؤتمر بتكوين هيئة /مجلس يمثل السودانيين يتولى إجازة الميزانية والقوانين والأنظمة، وإنشاء مجلس للتعليم العالي تكون أغلبية أعضائه من السودانيين، وتخصيص 12% من الميزانية للتعليم. وطالب المؤتمر أيضاً بتنفيذ الحكومة لمطالب السودانيين في نيل الرفاهية والوظائف الحكومية وذلك عن طريق:
(أ) اتاحة الفرص أمام السودانيين ليشاركوا بفعالية في حكم بلادهم (عبر تعيين سودانيين لمناصب سياسة ذات مسؤولية في كل أفرع الحكومة)
(ب) اقتصار التعيين في الوظائف الحكومية على السودانيين. أما الوظائف التي يعين فيها غير السودانيين (لسبب ضروري) فينبغي أن يتم التعيين فيها عن طريق عقود عمل لفترة زمنية محددة سلفاً، يتم في خلالها تدريب السودانيين لشغلها عند انتهاء عقد عمل الأجانب.
وعلى ضوء هذه المطالب (وبسبب عوامل خارجية أيضاً) تحولت سياسة الحكومة من سياسة "الأَبَوِيَّة paternalism" إلى سياسة "الشراكةpartnership "، وأُنْشِئَ مجلس استشاري لشمال السودان في عام 1944م لربط السودانيين بالحكومة المركزية. وقد تعرض هذا المجلس لانتقادات حادة بسبب طبيعته الاستشارية (البحتة)، وعضويته (التي كانت في الغالب قبلية وتقليدية)، واستبعاده للمديريات الجنوبية الثلاث. وفي عام 1946م، انعقد مؤتمر إدارة السودان. وقد كون ذلك المؤتمر لجنتين فرعيتين، واحدة للحكومة المركزية، والأخرى للحكومة المحلية. وكان على اللجنة الفرعية للحكومة المركزية أن تدرس:
1/ الخطوات القادمة اللازمة اتخاذها لربط السودانيين بصورة أقوى مع الحكومة المركزية، وعلى وجه الخصوص لدراسة الطرق التي يمكن بها تطوير "المجلس الاستشاري" الحالي، وتقديم الاقتراحات لذلك المجلس حتى يقوم أعضائه بتحمل وظائف أكثر مسؤولية.
2/ عملية إجراء مسح للمجالس واللجان الحكومية المركزية الأخرى وتقديم توصيات لزيادة تمثيل السودانيين فيها.
3/ إمكانية انشاء مجالس جديدة.
وأوصى التقرير بإنشاء جمعية تشريعية، وتوسيع تمثيل السودانيين في المجالس واللجان الإدارية. وقد قاطعت أكبر شريحة في الحركة الوطنية تلك الجمعية التشريعية التي أُنْشِئَتْ في عام 1948م على أساس أنها لا تعكس الرغبات والتطلعات الحقيقية للشعب السوداني.
إدخال الحكومة المحلية
لقد كانت الخطوة المهمة الأخرى نحو ربط السودانيين بالإدارة هي إنشاء حكومة محلية تمثيلية/ مفوضة representative. وفي عام 1948م، دعت الحكومة السودانية الدكتور أ. هـ. مارشال، أمين صندوق مدينة كوفنتري لدراسة وتقويم سياسات وممارسات الحكومة فيما يتعلق بالحكومة المحلية وتقديم توصيات بشأن أي مسألة تنشأ عن دراسته. وقدم الدكتور مارشال تقريره في عام 1949م ووافقت عليه الجمعية التشريعية بالإجماع. وبالتالي عُيِّنَّ بعض السودانيين ضباطاً تنفيذيين محليين وضباط صحة ومعلمين ومهندسين ومحاسبين وموظفين. مع هذه التعيينات، تم إيلاء اهتمام أكبر لضباط الحكومة المحلية والمديريات. وفي عام 194م، دعت كلية غوردون الآنسة مارجري بيرهام لفحص مرافق التدريب الموجودة في مدرسة الإدارة. واقترحت الآنسة بيرهام تمديد فترة دراسة المقرر لتغدو عامين كاملين، يقضي المتدرب الفصل الأول في المدرسة، ثم يذهب للتدريب العملي لعام كامل في المناطق المختلفة، ويقضي بعد ذلك فصلين أخيرين في المدرسة. وكانت الدراسة الأكاديمية بمدرسة الإدارة تشمل مواداً مثل الحكومة المركزية والمحلية في السودان، ودراسات مقارنة عن الحكومة المحلية، ومبادئ الاقتصاد، وقوانين السودان (وهي دراسة مفصلة وموسعة عن مختلف القوانين والتشريعات والمراسيم)، وقواعد المالية العامة. (اِسْتَقى الكاتب تلك المعلومات عما كان يتلقاه المتدربون في "مدرسة الإدارة" من بعض مقابلات أجراها عام 1970م مع بعض قدامي الإداريين. المترجم).
******** ********* *********
1/ نشر مقال جيمس كيري المعنون The Educational Experiment in the Anglo – Egyptian Sudan في مجلة
Journal of African Society, II, No xxiv . ويمكن النظر أيضاً لمقال مترجم عن "ثورة 1924م: انعكاساتها على نظام التعليم في السودان" في هذا الرابط https://shorturl.at/DpFLW
alibadreldin@hotmail.com
Sudanization of the Public Service. A Critical Analysis (2 -3)
العجب أ. الطريفي Al - Agab A. Al -Teraifi
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة للجزء الثاني لما جاء في مقال عن "السودنة" بقلم الدكتور العجب الطريفي نُشِرَ في العدد الثامن والخمسين من مجلة "السودان في رسائل ومدونات SNR" الصادرة عام 1977م، في صفحات 117 – 134. واِستَشهَدَ الكاتب في مراجع مقاله برسالته للدكتوراه من جامعة بيتسبرغ الأميركية التي نالها عام 1978م، وكانت بعنوان: Administrative Reform in the Sudan with Special Reference to Personnel Aspects الإصلاح الإداري في السودان مع التركيز بشكل خاص على الجوانب المتعلقة بشؤون الموظفين (1).
ومن المقالات التي نشرت عن "السودنة" مقال بعنوان "السودنة في إطار كلي" تجده في هذا الرابط: https://shorturl.at/pDa2a
المترجم
******** ******** ********
تواصل اتباع حكومة السودان (بقيادة السير جون مافي الذي عُيِّنَ حاكماً عاماً في 1922م) لسياسة تعزيز سلطات شيوخ وزعماء القبائل. وآلت الكثير من واجبات محاسبي وكتبة الحكومة إلى سلطات الإدارات القبلية. وفي غرب كردفان استغنت الحكومة عن كل موظفيها المؤهلين في ثلاثة من مجالسها الريفية (subdistricts).
وواجهت الإدارة الأهلية الكثير من الانتقادات الحادة من مختلف الاتجاهات. فالطبقة المتعلمة كانت تعدها مؤسسة رجعية تعيق مسيرة تقدم البلاد ووحدتها، إذ أنها تحاول إعادة (سطوة) القبلية، وتسعى لإحياء المناطقية والجهوية. وكان السير جيمس كيري (أول مدير للمعارف) قد انتقد الإدارة الأهلية بشدة عام 1953م في مقال منشور (1) ذكر فيه أنه كان أمراً صادماً بالنسبة له أن يرى "إداريين شباب يبحثون عن قبائل مفقودة وزعماء مختفين، ويحاولون إحياء نظام اجتماعي اِخْتَفَى إلى الأبد".
كذلك هاجم السير دوغلاس نيوبوولد بشدة الإدارة الأهلية (عندما كان حاكماً لمديرية كردفان)، وذكر في محاضرة عامة ألقاها ما يلي: "تدريجياً، وجدنا أن الإدارة المحلية تتجه نحو التصلب أو التحجر، وتغدو هرمية متميزة تعتمد على الرواتب (الحكومية)، وكانت ميزانيتها في معظمها تعتمد على قائمة مدنية (مثلما يحدث في الدويلات الأهلية في الهند الصغرى). لم تكن هناك بذرة للتقدم، ولا مجال للمواطنين المتعلمين أو الطموحين. لقد اكتسبت الإدارة الأهلية نبرة إقطاعية ورجعية، وكانت معادية للمدن أو جاهلة بها، واعتمدت على النظام الوراثي".
سياسة إدارية جديدة
بدأت السلطات الكلولونيالية بالسودان في ممارسة سياسة مخالفة تماماً لتلك السياسة التي ذكرت آنفاً. ففي عام 1933م عُيِّنَ السير ستيوارت سايمز حاكماً عاماُ للسودان. وكان سايمز، خلافاً لمن سبقه من الحكام، يؤمن بأن "الإدارة الأهلية" ليست هي الأداة المناسبة لتطوير البلاد والمجتمع السوداني. وكان يؤمن أيضاً بأن السودانيين يمتلكون القدرة على تولي نصيب أكبر في إدارة بلادهم إن حصلوا على التعليم الضروري للقيام بتلك المهمة. لذا قررت حكومة السودان الإسراع بزيادة أعداد السودانيين في الوظائف الحكومية المستدامة. وفي عام 1934م تم تعيين بعض السودانيين في وظائف عليا (مثل وظيفتي مساعد مفتش مركز، ونائب قائد الشرطة). وبُدِئَ في برنامج تدريب للموظفين السودانيين في عدد من المصالح الحكومية المعنية بالزراعة والأشغال العامة والمساحة والجمارك. وأُنْشِئَتْ مدرسة حربية جديدة قُبِلَ بها طلاب حربيون سودانيون للدراسة لثلاث سنوات، ويتخرجون بعد ذلك ضباطاً. وأُعِيدَ افتتاح "مدرسة الإدارة" في عام 1935م.
وتماشياً مع موقف السودانيين من الارتباط بالإدارة الحكومية، شُكِلَتْ لجنة كانت اختصاصاتها على النحو التالي:
أ/ عمل مراجعة عامة لمدى التقدم الذي أُحْرِزَ في غضون سنوات العقد الماضي في مجال تعيين السودانيين في وظائف في المصالح الفنية، وبمسؤوليات أكبر.
ب/ تقديم المشورة والتوصيات المحددة - كلما أمكن ذلك - بشأن كيفية الإسراع بعملية توظيف السودانيين بصورة اقتصادية سليمة، ومن دون مخاطر غير مبررة على الخدمة العامة، مع الإشارة بشكل خاص إلى: (i) توفير مرافق أفضل للتدريب الفني للسودانيين الذين سوف يعينون؛ و (ii) التعديلات الممكنة والمحتملة في الأنظمة الحالية وفي الممارسات بالمصالح الفنية، التي من شأنها أن تسهل توظيف السودانيين في وظائف أكثر مسؤولية.
وكان من رأي تلك اللجنة أن كلية غوردون قد فشلت في تخريج أعداد كافية من الفنيين المدربين. وعلى الرغم من أن اللجنة كانت تطالب بتعيين سودانيين في المصالح الفنية وغيرها من المصالح الحكومية، إلا أنها كانت أيضاً تنصح بعدم التعجل في تعيينهم بوظائف ليسوا مؤهلين تماماً لشغلها.
ثم أتت خطوة مهمة نحو "السودنة" في عام 1936م مع إبرام المعاهدة البريطانية -المصرية. وقد نصت تلك المعاهدة على أن الهدف الأساسي للحكم الثنائي هو "رفاهية السودانيين". ونصت المادة الثانية من المعاهدة على أن السودانيين يجب أن تكون لهم الأفضلية في الخدمة الحكومية، ولا يجوز تعيين الرعايا البريطانيين والمصريين في أي وظائف إلا إذا لم يكن هناك من السودانيين من هم أهل لشغلها. وكانت النتيجة المباشرة لتلك المادة هي زيادة مطردة في أعداد السودانيين المعينين في الدرجات الدنيا والمتوسطة في الخدمة العامة بالمصالح والإدارات المختلفة.
قوانين ولوائح الموظفين
وقد شهدت فترة الثلاثينيات أيضاً المصادقة على أنظمة شؤون الموظفين (1938م)، ولوائح الإجازات والمأموريات (1934م) بالإضافة للوائح المالية. وكانت قد أُجِيزَتْ من قبل بعض القوانين منها قانون معاشات الخدمة المدنية (عام 1904م) ولوائح المعاشات والمكآفأت للعاملين بالحكومة من السودانيين والأجانب (عام 1919م). وأنشئ قسم للمؤسسة داخل إدارة السكرتير المالي ليكون المنظمة المركزية المسؤولة عن إدارة الخدمة بأكملها إنابة عن الحكومة. بالإضافة إلى ذلك، ونتيجة لتقرير اللجنة، تم تصنيف الخدمة المدنية في عام 1934م إلى ثلاثة أقسام كانت تُعرف باسم القسم الأول، والقسم الثاني، والقسم الثالث. وألغى ذلك التصنيف في عام 1951م بعد نشر تقرير "لجنة شروط الخدمة" (الذي صدر عام 1950م. المترجم) والذي صنف الخدمة المدنية إلى: (1) الفئة المهنية الإدارية، (2) الفئة شبه المهنية، و (3) الفئة الكتابية. وقد كان هذا التصنيف قد صَمَّمَ على غرار النظام البريطاني الذي لا يزال سارياً (على الأقل حتى عام نشر هذا المقال في 1977م. المترجم).
المدارس العليا
كما ذكرنا آنفاً فقد كان برنامج السودنة في غضون سنوات العهد الكلولونيالي يعتمد اعتماداً كبيراً على مخرجات المدارس. لذا فقد كان من الضروري إنشاء مؤسسات تعليمية لتمكين السودانيين من الالتحاق بالوظائف العليا في الخدمة العامة. وفي فبراير من عام 1937م استقدمت الحكومة لجنة برئاسة اللورد دي لا وار De La Warr لتضم السودان في بحثها المسحي عن مشاكل التعليم في أفريقيا (كُوِّنَتْ تلك اللجنة بطلب من مساعد وزير شؤون المستعمرات البريطاني، وهناك عرض لأعمال تلك اللجنة تجده / تجديه في هذا الرابط https://www.jstor.org/stable/717968 . المترجم). وشملت توصيات تلك اللجنة التالي:
أ) توسيع قاعدة الهرم التعليمي من خلال التوسع في التعليم الابتدائي والمتوسط،
ب) تسريع تطوير التعليم الفني في المراكز المخصصة لهذا الغرض،
ت) التركيز على التعليم العام في مناهج المرحلة الثانوية،
ث) إعطاء النظام بأكمله قمة (apex) في شكل عدد من المدارس العليا المصممة لإنتاج نخبة فكرية حقيقية.
(ذُكِرَ في موقع إسفيري (https://shorturl.at/Zi3GD) أن تلك اللجنة كانت قد أوصت أيضاً بنقل المدرسة الثانوية من كلية غردون إلى موقع ريفي، بعيداً عن مؤثرات الخرطوم الاجتماعية والسياسية. المترجم).
وقامت الحكومة بتنفيذ بعض تلك التوصيات بإنشائها لعدد من المدارس العليا لتدريس القانون والعلوم والزراعة والعلوم البيطرية والهندسة بغرض تدريب السودانيين على تلك المهن، ولتأهليهم لتولي وظائف ذات مسؤوليات أكبر في المجالات الفنية والإدارية بالخدمة العامة. وكانت مدارس القانون والزراعة والعلوم البيطرية تدار مباشرةً وبصورة مستقلة بالمصالح الحكومية المتخصصة في كل مجال من تلك المواد. أما البقية فقد كانت مرتبطة منذ إنشائها بمدير مصلحة المعارف. وفي نهايات عام 1942م، أُدْخِلَ نوع من التنسيق بإنشاء لجنة استشارية للمدارس العليا.
التطورات التي حدثت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية
شهد عام 1938م ميلاد مؤتمر الخريجين العام، الذي صار لاحقاً هو رأس رمح الحركة الوطنية. وكانت عضوية ذلك المؤتمر تتكون من خريجي كلية غوردون والمدارس الأخرى، الذين كان معظمهم يعمل في مجال الخدمة المدنية. وكان هدف المؤتمر- كما جاء في دستوره – هو "خدمة مصالح البلاد بصورة عامة، ومصالح الخريجين". إلا أن المؤتمر أفصح في عام 1942م عن طبيعته السياسية عندما قام رئيسه بتقديم مذكرة إلى الحاكم العام إنابة عن الشعب السوداني. وضمن مطالب أخرى، طالب المؤتمر في تلك المذكرة الحكومتين البريطانية والمصرية بإصدار تصريح مشترك تَتَعَهَّدَانِ فيه بمنح السودان حق تقرير المصير فور انتهاء الحرب العالمية الثانية. وبالإضافة لذلك طالب المؤتمر بتكوين هيئة /مجلس يمثل السودانيين يتولى إجازة الميزانية والقوانين والأنظمة، وإنشاء مجلس للتعليم العالي تكون أغلبية أعضائه من السودانيين، وتخصيص 12% من الميزانية للتعليم. وطالب المؤتمر أيضاً بتنفيذ الحكومة لمطالب السودانيين في نيل الرفاهية والوظائف الحكومية وذلك عن طريق:
(أ) اتاحة الفرص أمام السودانيين ليشاركوا بفعالية في حكم بلادهم (عبر تعيين سودانيين لمناصب سياسة ذات مسؤولية في كل أفرع الحكومة)
(ب) اقتصار التعيين في الوظائف الحكومية على السودانيين. أما الوظائف التي يعين فيها غير السودانيين (لسبب ضروري) فينبغي أن يتم التعيين فيها عن طريق عقود عمل لفترة زمنية محددة سلفاً، يتم في خلالها تدريب السودانيين لشغلها عند انتهاء عقد عمل الأجانب.
وعلى ضوء هذه المطالب (وبسبب عوامل خارجية أيضاً) تحولت سياسة الحكومة من سياسة "الأَبَوِيَّة paternalism" إلى سياسة "الشراكةpartnership "، وأُنْشِئَ مجلس استشاري لشمال السودان في عام 1944م لربط السودانيين بالحكومة المركزية. وقد تعرض هذا المجلس لانتقادات حادة بسبب طبيعته الاستشارية (البحتة)، وعضويته (التي كانت في الغالب قبلية وتقليدية)، واستبعاده للمديريات الجنوبية الثلاث. وفي عام 1946م، انعقد مؤتمر إدارة السودان. وقد كون ذلك المؤتمر لجنتين فرعيتين، واحدة للحكومة المركزية، والأخرى للحكومة المحلية. وكان على اللجنة الفرعية للحكومة المركزية أن تدرس:
1/ الخطوات القادمة اللازمة اتخاذها لربط السودانيين بصورة أقوى مع الحكومة المركزية، وعلى وجه الخصوص لدراسة الطرق التي يمكن بها تطوير "المجلس الاستشاري" الحالي، وتقديم الاقتراحات لذلك المجلس حتى يقوم أعضائه بتحمل وظائف أكثر مسؤولية.
2/ عملية إجراء مسح للمجالس واللجان الحكومية المركزية الأخرى وتقديم توصيات لزيادة تمثيل السودانيين فيها.
3/ إمكانية انشاء مجالس جديدة.
وأوصى التقرير بإنشاء جمعية تشريعية، وتوسيع تمثيل السودانيين في المجالس واللجان الإدارية. وقد قاطعت أكبر شريحة في الحركة الوطنية تلك الجمعية التشريعية التي أُنْشِئَتْ في عام 1948م على أساس أنها لا تعكس الرغبات والتطلعات الحقيقية للشعب السوداني.
إدخال الحكومة المحلية
لقد كانت الخطوة المهمة الأخرى نحو ربط السودانيين بالإدارة هي إنشاء حكومة محلية تمثيلية/ مفوضة representative. وفي عام 1948م، دعت الحكومة السودانية الدكتور أ. هـ. مارشال، أمين صندوق مدينة كوفنتري لدراسة وتقويم سياسات وممارسات الحكومة فيما يتعلق بالحكومة المحلية وتقديم توصيات بشأن أي مسألة تنشأ عن دراسته. وقدم الدكتور مارشال تقريره في عام 1949م ووافقت عليه الجمعية التشريعية بالإجماع. وبالتالي عُيِّنَّ بعض السودانيين ضباطاً تنفيذيين محليين وضباط صحة ومعلمين ومهندسين ومحاسبين وموظفين. مع هذه التعيينات، تم إيلاء اهتمام أكبر لضباط الحكومة المحلية والمديريات. وفي عام 194م، دعت كلية غوردون الآنسة مارجري بيرهام لفحص مرافق التدريب الموجودة في مدرسة الإدارة. واقترحت الآنسة بيرهام تمديد فترة دراسة المقرر لتغدو عامين كاملين، يقضي المتدرب الفصل الأول في المدرسة، ثم يذهب للتدريب العملي لعام كامل في المناطق المختلفة، ويقضي بعد ذلك فصلين أخيرين في المدرسة. وكانت الدراسة الأكاديمية بمدرسة الإدارة تشمل مواداً مثل الحكومة المركزية والمحلية في السودان، ودراسات مقارنة عن الحكومة المحلية، ومبادئ الاقتصاد، وقوانين السودان (وهي دراسة مفصلة وموسعة عن مختلف القوانين والتشريعات والمراسيم)، وقواعد المالية العامة. (اِسْتَقى الكاتب تلك المعلومات عما كان يتلقاه المتدربون في "مدرسة الإدارة" من بعض مقابلات أجراها عام 1970م مع بعض قدامي الإداريين. المترجم).
******** ********* *********
1/ نشر مقال جيمس كيري المعنون The Educational Experiment in the Anglo – Egyptian Sudan في مجلة
Journal of African Society, II, No xxiv . ويمكن النظر أيضاً لمقال مترجم عن "ثورة 1924م: انعكاساتها على نظام التعليم في السودان" في هذا الرابط https://shorturl.at/DpFLW
alibadreldin@hotmail.com