سودنة الخدمة العامة: تحليل نقدي (3-3)

 


 

 

سودنة الخدمة العامة: تحليل نقدي (3-3)

Sudanization of the Public Service. A Critical Analysis (3 -3)

العجب أ. الطريفي Al - Agab A. Al -Teraifi
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

تقديم: هذه ترجمة للجزء الثالث والأخير لما جاء في مقال عن "السودنة" بقلم الدكتور العجب الطريفي نُشِرَ في العدد الثامن والخمسين من مجلة "السودان في رسائل ومدونات SNR" الصادرة عام 1977م، في صفحات 117 – 134. واِستَشهَدَ الكاتب في مراجع مقاله برسالته للدكتوراه من جامعة بيتسبرغ الأميركية التي نالها عام 1978م، وكانت بعنوان: Administrative Reform in the Sudan with Special Reference to Personnel Aspects الإصلاح الإداري في السودان مع التركيز بشكل خاص على الجوانب المتعلقة بشؤون الموظفين.
ومن المقالات التي نُشِرَتْ عن "السودنة" مقال بعنوان "السودنة في إطار كلي" تجده في هذا الرابط: https://shorturl.at/pDa2a
المترجم
******** ******** ********
لجنة السودنة (1946م)
بعد القيام بالكثير من التحضيرات في مصالح الدولة المختلفة، كَوَّنَ الحاكم العام في مارس من عام 1946م لجنةً تتألف من سبعة مسؤولين (أربعة بريطانيين وثلاثة سودانيين) لتدارس أمر سودنة الخدمة العامة. وكانت اللجنة برئاسة جيفري بارتر Geoffrey Barter (مدير المؤسسات؟ director of establishments)، وعضوية ف. د. كورفيلد F. D. Corfeld (من مكتب السكرتير الإداري) وجي دبليو بور G. W. Power (من السكة حديد) ود. ب. جيمسون W. B. Jaimeson(مدير التعليم)؛ وإبراهيم أفندي أحمد (من إدارة كلية غوردون)، ود. علي بدري (من مصلحة الصحة) وعبد الماجد أفندي أحمد (المفتش بمصلحة التجارة). وعُيِّنَ د. تارتيلين (Tarttelin) سكرتيراً لتلك اللجنة.
وتضاربت آراء الجماعات السياسية المختلفة حول تلك اللجنة. فبينما كان قادة حزب الأمة و"الجبهة الاستقلالية" يرونها خطوة متقدمة في طريق توظيف السودانيين في الخدمة الحكومية، كانت الأحزاب الموالية لمصر ترفض تلك الخطة بأكملها، وتتحفظ على أسماء بعض أعضاء اللجنة. فقد كان اثنان من السودانيين الثلاثة في تلك اللجنة ينتمون لحزب الأمة، وكان ثالثهم من المتعاطفين مع سياسة وأهداف ذلك الحزب. وبالإضافة لذلك، علقت جريدة "الرأي العام" (وهي صحيفة مستقلة) على تكوين تلك اللجنة بما يلي: "على الرغم من أن اختيار أعضاء تلك اللجنة جاء بأقل مما كنا نتوقعه، إلا أنها خطوة للأمام. ووجود ثلاثة من السودانيين ضمن أعضاء اللجنة يتيح لهم فرصة سانحة لتلبية تطلعات مواطنيهم العاجلة. إنهم يعلمون أنهم في هذه اللجنة من أجل تأمين تحقيق رغبة وطنية من خلال المساعدة في تسريع عملية السودنة، وليس بوسعهم القبول بأن يكونوا مجرد مغفلين (نافعين) بحيث يتم استغلال وجودهم لتسويغ إجراء قد لا يكون في مصلحة السودانيين".
وكانت الجدارة والكفاءة (efficiency) هي المعيار الذي كان يحكم مداولات تلك اللجنة. وكان أعضاء اللجنة يتقيدون بما ورد في تقرير لجنة سودنة وظائف الخدمة المدنية (الصادر في 17 يونيو 1948 م) من أنه "يمكن ترقية الموظف السوداني إلى درجة أعلى إن ثبت أن بمقدوره الحفاظ على معايير الكفاءة المطلوبة عند العاملين بالخدمة العامة في السودان". وفي نفس الوقت، أشار التقرير إلى أن مثل هذا الترقي قد يكون محدوداً بعدد السودانيين المؤهلين أكاديمياً من خريجي المدارس العليا وغيرها، وأن "إدارة السودانيين لشؤونهم الخاصة في فترة معينة لا تعني بالضرورة استكمال سودنة الخدمة المدنية خلال تلك الفترة".
(أورد كاتب المقال بعد ذلك جدولاً يوضح مدى التقدم السنوي الذي حدث في الفترة ما بين عامي 1936 و1948م في عملية سودنة وظائف الخدمة العامة الوسيطة والعليا. فعلى سبيل المثال كانت جملة الوظائف في عام 1936م 457 وظيفة، كان نصيب السودانيين منها أربع وظائف فقط. وفي عام 1942م بلغت جملة الوظائف 568 وظيفة، نال السودانيون منها 33 وظيفة. وكانت جملة الوظائف في عام 1948م 729 وظيفة، كان نصيب السودانيين منها 117 وظيفة. المترجم). ويعكس ما ورد في ذلك الجدول الزيادة البطيئة في عملية سودنة الوظائف (خاصة العليا منها)، بمقارنة بأعداد البريطانيين والأجانب الآخرين خلال تلك الفترة (13 سنة).
وقدمت لجنة السودنة تقريرها عام 1948م، وأوصت فيه بسودنة 62% من كل الوظائف الحكومية بحلول عام 1962م.
(أورد كاتب المقال بعد ذلك جدولاً ثانياً يوضح نِسَب السودنة المئوية في 15 مجالاً مثل القضاء والمساحة والتعليم والري والجمارك وغيرها في عام 1962م؛ وأورد كذلك من باب المقارنة نفس النِسَب المئوية لعامي 1952 و1957م. وكانت نِسَب السودنة المئوية في القضاء 59.2% و72.7% و82.4% في أعوام 1952 و1957 و1962م، على التوالي. أما في السكة حديد فقد بلغت تلك النسب 30.2% و44.6% و71.0%، على التوالي. وكانت ذات النسب في تلك السنوات بمصلحة البريد والبرق 8.3% و24.6% و44.3%. المترجم).
وكما ذكرنا آنفاً، فقد انتقد الكثير من الوطنيين نظام السودنة. وكانوا ينادون بفتح المزيد من مؤسسات التعليم (العام والعالي) للسودانيين، إذ أن الحكومة كانت تربط عملية السودنة بمخرجات التعليم. وكان منتقدو نظام السودنة يؤمنون بأن سجل الحكومة في مجال التعليم لم يكن مرضياً بأي حال من الأحوال. وأشار بعض أولئك إلى أن برنامج التوطين localization السريع والواقعي لا يمكن أن يتحقق على أرض الواقع إلا بتوسيع الفرص التعليمية داخل البلاد، وإرسال السودانيين إلى الجامعات والمؤسسات العليا الأجنبية (كان محمد عامر بشير فوراوي من المنادين بذلك في عام 1937م. المترجم (1)). وذكر بعض المنتقدين أن الهدف الرئيس من تقرير لجنة السودنة كان هو اِستدامة وجود الإدارة الكلولونيالية حتى ستينيات القرن العشرين. وكتب أحدهم مخاطباً أعضاء اللجنة السودانيين في مقال نشرته صحيفة الرأي العام ما يفيد بأن "أهم أسباب الخلاف بين السودانيين وحكومتهم تكمن في القيد الزمني الذي حددته الحكومة لإكمال عملية السودنة. ويجب على أعضاء اللجنة السودانيين العمل على المطالبة بإكمال السودانية في وقت أقصر (مما اُقْتُرِحَ)، وعليهم تقديم استقالتهم من عضوية اللجنة إن لم يجدوا تأييداً معقولاً من باقي أعضاء اللجنة".
وبالإضافة لذلك، كان منهج عمل لجنة السودنة قد لقي انتقادا لاحقاً في تقرير صدر عام 1954م عن "توطين الوظائف في نيجيريا Nigerianization"، وجاء فيه: "لقد رفضنا عمداً منذ البداية أي نهج يعتمد على تحليل عَددِيّ للتوقعات ضمن فترة زمنية محددة، بحسبانه نهجاً غير عملي. ولم نتخذ هذا القرار جُزافًا ومن دون تفكير متأن، إذ أننا كنا على علم بأن حكومة السودان كانت قد تبنت ذلك النهج على وجه التحديد. ولقد علمنا من وكالة السودان في لندن بأن جدول مواعيد السودنة قد فات أوانها منذ زمن. إن التنبؤات الحسابية الدقيقة بإنجاز عملية حيوية على مدى فترة طويلة لا تبدو جديرة بالجهد الهائل المبذول فيها. إن الخدمة المدنية ليست شيئاً ثابتاً، بل إنها تتشكل من حيث التركيب والحجم، وبقدر ما، من خلال أنشطة الحكومة، وليس بمقدور أحد أن يتنبأ بثقة بمدى أو اتجاه مثل تلك الأنشطة في المستقبل. وهذا الاعتبار يحرم التنبؤات الرَقْمِيّة من الكثير من قيمتها. ولكن هذا لا يعني أن البرامج الإدارية القائمة على تواريخ التقاعد المحتملة للعاملين الأجانب، لن تخدم أي غرض مفيد".
السودنة بعد الحكم الذاتي: لجنة السودنة عام 1954م
نال السودان الحكم الذاتي في عام 1954م. وكانت النتيجة المباشرة لذلك هي تسريع عمليات سودنة الوظائف. وكانت الاتفاقية الإنجليزية – المصرية (الموقعة في 12 فبراير 1953م) التي تناولت أمر الحكم الذاتي للسودان وتقريره لمصيره، قد مهدت الطريق للجنة جديدة للسودنة كان عليها "أن تكمل - تحت إشراف مجلس الوزراء - سودنة الوظائف في مجالات الإدارة والشرطة وقوات دفاع السودان، وكل الوظائف الحكومية الأخرى التي قد تؤثر على حرية السودانيين في فترة تقرير المصير ... في غضون سنوات لا تزيد عن سنوات ثلاث".
وكانت اللجنة الجديدة مكونة من ثلاثة سودانيين وعضو مصري وآخر بريطاني، وكانت تصدر قراراتها بتصويت الأغلبية. وكان على تلك اللجنة مراجعة الوظائف الحكومية المختلفة بغرض الغاء الوظائف غير الضرورية أو الزائدة عن الحاجة التي يشغلها موظفون بريطانيون أو مصريون. واجتمعت اللجنة لأول مرة في يوم 7 مارس 1954م، وقررت في ذلك الاجتماع سودنة 8 وظائف في الشرطة كان يشغلها ضباط بريطانيون يعملون في "قوة دفاع السودان". وفي الاجتماع التالي الذي عُقد في أبريل من ذات العام قررت اللجنة سودنة أو الغاء كل الوظائف التي يشغلها البريطانيون أو المصريون في مختلف الأقسام بإدارات المديريات والمناطق. وراجعت اللجنة كذلك أوضاع الوظائف في 26 مصلحة حكومية، وقسمت تلك الوظائف التي يجب سودنتها إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول هي الوظائف التي ينبغي سودنتها على الفور، والنوع الثاني هي الوظائف التي ينبغي سودنتها بأعجل ما تيسر؛ أما النوع الثالث فهي الوظائف التي يجب إلغائها. وكانت جملة الوظائف التي تُعَدُّ وظائف ذات مسؤولية ونفوذ influential ويشغلها بريطانيون تبلغ 647 وظيفة. ومن بين 153 وظيفة كان يشغلها مصريون اعتبرت اللجنة أن 87 فقط من تلك الوظائف يمكن أن تُعْتَبَرُ وظائف ذات مسؤولية ونفوذ.
واتفقت الحكومتان البريطانية والسودانية لاحقاً عام 1955م على أنه إذا لم يكن هناك من السودانيين من لديهم الكفاءة المطلوبة لشغل وظيفة كانت اللجنة قد حددتها للسودنة، فيجوز تعيين شخص لا يحمل الجنسية البريطانية أو المصرية عوضاً عنه. ونتيجةً لذلك، تم تعيين عدد كبير من الهنود والباكستانيين والألمان الغربيين ومواطني دول أخرى في كثير من الوظائف، خاصة الفنية منها. وكانت الزيادة المطردة في عدد الأجانب، بخلاف البريطانيين والمصريين، في الخدمة المدنية منذ عام 1920 إلى عام 1958م على النحو التالي (أوردها الكاتب في الجدول الثالث بالمقال، وهنا أقدم تلخيصاً لبعض تلك الأرقام. المترجم):
بلغت أعداد الموظفين السودانيين بالخدمة المدنية في أعوام 1920 و1954 و1958م: 1,520 و8,774 و13,810، على التوالي. وكانت أعداد الموظفين البريطانيين بالخدمة المدنية في أعوام 1920 و1954 و1958م تبلغ 550 و1,111 و182، على التوالي. أما أعداد الموظفين المصريين بالخدمة المدنية في ذات السنوات فقد بلغت 1,630 و108 و163، على التوالي. وكانت أعداد الموظفين من جنسيات أخرى بالخدمة المدنية في تلك الأعوام تبلغ 280 و56 و218، على التوالي.
غير أن عملية السودنة أفضت لنقص حاد في العمالة المدربة بالبلاد. لذا أعلن السودان في أكتوبر 1958م عن إتاحة فرص التوظيف للمسؤولين البريطانيين السابقين الذين كانت وظائفهم قد أُلْغِيَتْ بحسب قانون تعويضات المسؤولين الأجانب. وبنهاية عام 1958م كان هناك بالسودان حوالي 375 موظفاً بريطانيا (منهم 73 مدرساً و115 مهندسا و64 من العاملين والعاملات في الخطوط الجوية، و67 من العاملين في الحقلين العلمي والطبي).
وفي هذا الصدد، كانت السودنة المتعجلة تتناقض بصورة كبيرة مع ما تم في الدول الإفريقية الأخرى. ففي نيجريا، على سبيل المثال، وبعد شهرين من نيل الاستقلال في عام 1960م، كان هناك 1,112 موظف نيجيري من بين 3,974 موظفاً يعمل بالحكومة الفيدرالية (أي أقل من 28%. المترجم). ولم تكتمل عملية توطين الوظائف الفيدرالية في نيجيريا حتى عام 1964م. وفي شمال نيجريا كان النيجيريون في عام 1963م يشغلون نحو 75% وظيفة سكرتير دائم، ونحو 77% في وظيفة سكرتير إقليمي.
وعلى الرغم من أن تلك التغييرات الكاسحة في الوظائف وشاغليها كان قد ألقى بعبء ثقيل على الإدارة، وأن بعض الأجانب الذين كانوا قد استقدموا للعمل بالسودان وجدوا صعوبة كبيرة في التأقلم على الظروف المحلية، إلا أن بعثة من الأمم المتحدة كانت قد زارت السودان في نهاية عام 1957م في مهمة تتعلق بدراسة مشروع اتفاق لتقديم عون للسودان ذكرت في تقريرها أنها تعتبر "أن الخدمة العامة بالسودان واحدة من أفضل مثيلاتها في دول أفريقيا النامية". وقد يعود السبب في هذا إلى أنه كانت هناك بالسودان قوة عاملة مدربة بأكثر مما كان موجوداً في كثير من الدول الإفريقية الأخرى. ولعل هذا جاء نتيجةً لجهود مؤتمر الخريجين في مجال التعليم، وللمنح الكثيرة التي قدمتها الحكومة المصرية للطلاب السودانيين للدراسة في الجامعات والمعاهد المصرية العليا، والتي كانت أكثر عدداً من تلك التي كانت تقدمها حكومة السودان. ففي عام 1948م مثلاً كان مجموع من تخرجوا في المدارس العليا السودانية لا يزيد على 290 طالباً، بينما بلغ عدد من يدرسون من الطلاب السودانيين في الجامعات والمعاهد العليا المصرية في ذلك العام 789 طالباً.
ملخص وتقييم
يتضح مما سبق ذكره في هذا المقال أن سياسة حكومة السودان منذ عام 1915م كانت تسعى لتعيين السودانيين في وظائف دنيا في الخدمة العامة، كل ما كان ذلك ممكناً. وترافقت تلك السياسة بشكل لصيق مع التوسع في خدمات التعليم والتدريب. وكان انتشار التعليم بطيئا ومحدوداً. ولم تكن الحكومة مهتمةً بتطوير التعليم الثانوي والتقني أو العالي في غضون الثلاثين سنة الأولى من الحكم الثنائي. ففي عام 1936م كانت هناك بالبلاد مدرسة ثانوية واحدة (هي كلية غوردون التذكارية)، و11 مدرسة وسطى، و7 مدارس أولية (هكذا ورد الرقم الأخير في المقال! لمزيد من الأرقام المتعلقة بأعداد الطلاب بمكن النظر في الإحالة المرجعية رقم 1. المترجم)؛ ولم يكن عدد جميع الطلاب بالسودان يزيد على 9,000 طالب. وبلغت جملة الذين تخرجوا في المدارس العليا وكلية الخرطوم الجامعية ومدرسة كتشنر الطبية على مدى 22 عاماً (1935 – 1956م) 665 خريجاً. وبالإضافة لذلك لم يكن هناك إلا سوى النذر اليسير والمتقطع من التدريب. وكان المقرر الوحيد الذي يُدْرَسُ بانتظام هو ذلك الذي كانت تقدمه "مدرسة الإدارة" لمن سيعملون مفتشين إداريين في المناطق المختلفة. وكما ذكرنا آنفاً، فقد كان التركيز في ذلك المقرر يدور حول الجوانب القانونية والعامة للإدارة، وهي الجوانب التي كانت تعكس اهتمامات النظام، حيث كان "الباشمفتش" هو أهم موظف يسيطر على مقاليد السلطات الإدارية وغيرها في المنطقة المعينة. ولا حاجة لنا بالقول بأن المسؤول الإداري في فترة ما بعد الاستقلال صار هو من ينسق البرامج الاجتماعية والاقتصادية (بمنطقته)، بأكثر من كونه يدير وظائف الشرطة وجمع الضرائب.
ونتيجةً لما ذكرنا، لم يكن هناك سوى عدد قليل من السودانيين المؤهلين لتحمل مسؤوليات أكبر. وفي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تمت ترقية بعض الإداريين السودانيين لرتبة الباشمفتش ومساعد باشمفتش، إلا أن التقدم في تلك الرتب كان، على وجه العموم، بطيئا. غير أن ما زاد الوضع سوءاً هو تمسك الحكومة الكلولونيالية بقاعدة المعايير standards والتركيز على نيل التدريب واكتساب الخبرة قبل الترقي لوظائف أعلى.
وكانت تلك هي السياسة التي انتهجها الحكومة الكلولونيالية في كل المناطق التي حكمتها بريطانيا سابقاً. فعلى سبيل المثال صدر في يوم 14 أكتوبر من عام 1949م، بيان عن هيئة الخدمة العامة في نيجيريا جاء فيه ما يلي:
"إن سياسة حكومة نيجيريا هي تسريع عملية توطين الوظائف العليا، ومن ضمن سياسة الحكومة كذلك – ومن أجل صالح البلاد – ينبغي التأكد بقدر الإمكان من أن عملية التوطين هذه لن تخفض من معايير الكفاءة".
لقد أوضحنا في هذا التحليل النقدي أن الإدارة الأهلية ليست أداة ملائمة لربط السودانيين بالحكومة. وسبق أن ذكر خبير قانوني سوداني (هو مأمون سنادة) في رسالة الدكتوراه التي نالها من جامعة أكسفورد عام 1972م والمعنونة: "التطورات الدستورية في السودان بين عامي 1942 و1956م" التالي:
" في كل الأحوال، كانت طبقة الانتلجنسيا السودانية مقتنعة بأن سياسة الحكومة في الاعتماد على الإدارة الأهلية تهدف إلى استدامة الحكم البريطاني في السودان، وكانت ترغب في أن يعمل زعماء القبائل بمثابة درع (واقٍ) بين الإدارة والشعب".
وكانت الحركة الوطنية بالمثل شديدة الانتقاد للمؤسسات المركزية والإقليمية والمحلية التي أقامتها الحكومة بغرض منح السودانيين نصيباً في إدارة بلادهم. وكانت الحركة تنتقد تلك المؤسسات لأنها كانت في الغالب ذات تكوين قبلي، وطابع استشاري بحت.
وقد قاد التعجل في تنفيذ برنامج السودنة عام 1954م لآثار بعيدة المدى على تطور الخدمة العامة بالبلاد. فقد سبب الخروج المفاجئ للموظفين البريطانيين والمصريين نقصاً حاداً في القوي العاملة المدربة، خاصة في المستويات الوسيطة. وقد جاء ذلك في أحد تقارير الأمم المتحدة عام 1960، حيث ورد فيه:
" إن أغلب الأعباء الإدارية الكبرى التي تتحملها حكومة السودان الآن إما أنه يتحملها رجال أصغر سناً تلقوا تدريباً أكاديمياً جيداً ولكنهم جدد نسبياً في الحكومة، أو رجال أكبر عمراً قضوا سنوات عديدة في الارتباط بالخبراء الأجانب الذين شغلوا مناصب إدارية. وكلهم مثقلون بواجبات وأعباء ضخمة، وليس معهم العدد الكافي من المرؤوسين المدربين".
وقد أفضى التعجل في تنفيذ برنامج السودنة عام 1954م أيضاً لإصابة الجنوبيين المتعلمين بالإحباط وخيبة الأمل. وجاء في كتاب بشير محمد سعيد المعنون "The Sudan: Crossraods of Africa السودان: مفترق طرق أفريقيا" أن أحد الجنوبين ذكر أن "السودنة قد أفضت لنتيجة مخيبة للآمال، أي أنها اقتصرت على أربعة أشخاص في وظيفة مساعد باشمفتش ومأمورين، وهذا يعني أن إخواننا في الشمال يريدون استعمارنا لمائة عام قادم".
وكان السودانيون الجنوبيون يطالبون بشغل الوظائف العليا التالية: ثلاثة حكام مديريات، وثلاثة مساعدي حكام مديريات، وستة في رتبة الباشمفتش، وثمانية في رتبة مساعد باشمفتش، و12 في رتبة مأمور، وعدد غير محدد من نواب المآمير؛ وثلاثة في رتبة مدير سجون؛ وواحد في منصب قائد قوات الشرطة؛ وثلاثة في منصب مدير شرطة. وكانوا يطالبون أيضاً بتعيين وزير جنوبي إضافي في الوزارة، مع ستة وكلاء وزارات دائمين على الأقل. وكانوا يطالبون أيضاً بنيل ما لا يقل عن 145 وظيفة اشرافية في الحكومة المركزية والمحلية، وفي الهيئة القضائية.
وذكر بشير محمد سعيد في ذلك الكتاب أن ... "الحكومة الوطنية في الخرطوم قد رفضت معظم تلك المطالب بدعوى أن غالب المتعلمين الجنوبيين كانوا يفتقرون للأقدمية الواجبة، والخبرة والمؤهلات التعليمية اللازمة، وكلها من المطلوبات الأساسية لشغل الوظائف التي شغرت نتيجة للسودنة".
غير أن بعض الأكاديميين السودانيين كانوا يرون أن التمسك الصارم لأول حكومة وطنية بضرورة الإيفاء بالمعايير الأساسية لاختيار وترقية الجنوبيين قد أضر ضرراً بليغاً بالعلاقات الشمالية – الجنوبية (لم يذكر الكاتب مرجعاً لهذه المعلومة، وربما كان واحداً من هؤلاء الأكاديميين هو محمد عمر بشير. المترجم). وظل الكثيرون يؤمنون بأن سودنة وظائف الخدمة العامة كانت من العوامل التي ساهمت في خلق الاضطرابات التي حدثت في جنوب السودان عام 1955م.
********* ********** *********
إحالات مرجعية
1/ يمكن النظر في ترجمة مقال لأيريس سيري – هيرش بعنوان: "التعليم في السودان في سنوات الاستعمار (1900 – 1957م)" في هذا الرابط: https://shorturl.at/auPLc

 

alibadreldin@hotmail.com

 

 

آراء