سياسة الأرض الجرداء

 


 

د. حسن بشير
1 November, 2012

 




هناك جهات تخطط لتحويل السودان الي ارض جرداء وتجد تلك الجهات مساعدة فاعلة من النهج السياسي المتبع في البلاد ، إن كان ذلك بقصد او لأغراض ضيقة او بسبب الفساد او بحسن نية ودون قصد أحيانا قليلة. في الوقت الذي تشكل فيه الزراعة عماد الاقتصاد العالمي في غالبية الدول ، خاصة النامية منها، وفي الوقت الذي يعكف فيه الخبراء وصناع القرار في الشأن الاقتصادي علي وضع الخطط التي تضمن كفاءة القطاع الزراعي واستدامة عطائه وضمان صيانة موارده من الأضرار الخطيرة التي تهددها بسبب التغيرات المناخية، نجد ان السودان يتبع سياسة ممنهجة لتدمير القطاع الزراعي وإنهاك الأراضي الخصبة في سبيل إهلاكها، ومن ابلغ الأمثلة علي ذلك ما يجري في اكبر مشروع زراعي في السودان، مشروع الجزيرة صاحب المجد التليد الذي ولي واندثر.
هل من الممكن لدولة ان تفرط في أمنها الغذائي في وقت ترتفع فيه أسعار الغذاء عالميا، خاصة وان جميع الموارد ومستلزمات الإنتاج أما متوفرة أو يمكن توفيرها بدون جهد مضني؟ السودان تتوفر فيه مصادر المياه والأراضي الخصبة ويتمتع بتنوع المناخ مما يتيح له، ليس فقط توفير الأمن الغذاء بتركيبة متنوعة من المحاصيل الزراعية وإنما أيضا، بما يوفر له قاعدة صناعية صلبة ويمده بكثير من عناصر الصادرات ذات التنافسية العالية.
حدث ذلك في السودان في وقت مبكر كما كانت عليه مصانع الغزل والنسيج، صناعة السكر والكناف ومحاولة أبدر لبناء قاعدة للتصنيع الغذائي. يمكن ان يتم ذلك اليوم وبشكل أفضل بتوفير مصادر مستقرة من التمويل الزراعي وجذب الاستثمار الأجنبي بأسس مدروسة ومخطط لها لإحداث تنمية زراعية شاملة بتوجه صناعي يستصحب جميع مزايا الاستثمار وجدواه الاقتصادية ومتطلبات الحداثة. شيء من ذلك لم يحدث حتي اليوم بل الذي يسود هو سياسة الأرض الجرداء، حتى أن الأرياف تستنزف من طاقاتها المادية والبشرية ويمتد الزحف الصحراوي والخراب البيئي بشكل مخيف. دمر ذلك مقولة خالدة هي أن (المزارع لا يجوع أبدا)، إلا انه وللأسف الشديد يموت في السودان من الجوع وسوء التغذية.
فيما يتعلق بالقطاع الصناعي فهو لم ينمو بالشكل المطلوب أبدا بسبب ما يحتاجه ذلك من أموال ضخمة وبنيات تحتية وقدرات ومهارات لا يمكن توفرها بسهولة. إلا انه وبالاعتماد علي قاعدة الموارد الطبيعية والتعدين، إضافة لقطاع البترول الذي يحظي بالاهتمام الأعظم ، فمن الممكن التأسيس لقاعدة صناعية بالتخطيط والتوجه نحو التنمية والتوظيف السليم للموارد المتاحة بعد توفر الاستقرار السياسي والاقتصادي ومناخ الاستثمار الجاذب. بدون تلك الشروط لن يتم التأسيس لصناعة ما شفافة ، واصلة ألي الأسواق، متطورة وتتمتع بالجودة والمزايا التنافسية. هذا القطاع اليوم يعاني من التلبك وعدم الوضوح ويمكن اخذ مصنع سكر النيل الأبيض كمثال.
إذا دار الحديث حول الخدمات فسنجدها قطاع اجرد بدورها. الخدمات المنتجة مثل السكة الحديد، النقل الميكانيكي، المخازن والمهمات، النقل النهري والخطوط الجوية السودانية التي كانت مزدهرة في يوم من الأيام، نجدها اليوم خارج الحساب الاقتصادي. أما بالنسبة للطرق والجسور وخطوط النقل الاخري وبنيات المدن الأساسية مثل الصرف الصحي والمواصلات والمطارات فسنجد السودان من أكثر الدول تخلفا، قياسا بإمكانياته وبتجاربه السابقة في هذا المجال. الخرطوم هي تقريبا العاصمة الوحيدة التي تحتضن مطارها في صدرها، مثل احتضانها الغريب للمؤسسات العسكرية الإدارية والصناعية ولكثير من المصانع الخطرة والملوثة للبيئة، هذه الأشياء بالتأكيد ليست من صنع مخططين وإنما بيد أشخاص يتخذون القرارات وينفذونها دون معرفة او تخصص.
هناك عدد من الطرق والجسور التي تم بناءها وبالرغم مما يقال عن كل عيوبها إلا أنها يمكن أن تحسب في مجال الانجاز. علي سبيل المثال شارع كورنيش النيل وشارع النيل الذي تم بناءه علي شاطئ ام درمان الذي حول تلك المنطقة من مستقر للظلام واللصوص ومرتكبي الجنح الي بؤرة مضيئة بمسارات واسعة بدلا عن (زقاق) النيل الذي كان يلتوي حول  المدينة (كالصل الأسود). مع ذلك فان الشارع ، بالرغم من انه يمر علي محاذاة النيل، مباشرة بعد التقاء النهرين الأزرق والأبيض، في واحدا من أبدع المواقع الطبيعية وأكثرها روعة، فهو اجرد تماما، يخلو من شجرة واحدة إلا ما كان قائما بجهد سابق، كما أن أطرافه مليئة بالأنقاض. هذه سمة مميزة لشوارع السودان فهي تبني لتترك حولها الأنقاض في انتظار الإزالة لكن الانتظار يكون أبديا. الشوارع الجديدة تضاء لفترة مؤقتة ثم تنطقي الإضاءة جزئيا او كليا ويتم تطبيع الظلام تدريجيا.
السؤال هو كيف لعاصمة تحيط بها أعظم الأنهار أن ينقطع فيها الإمداد بالمياه بشكل مستمر وان تكون شوارعها جرداء من خضرة ونوا فير مياه كما في عواصم العالم وان يتسيد مظهرها التلوث البصري. من أين أتت هذه الثقافة المحاربة للخضرة والجمال؟.
القطاعين المزدهرين في الخدمات هما الاتصالات والتشييد والبناء. الأول يقوم دون قاعدة إنتاجية ويتحول الي أداة للاستخدام الحكومي المكلف والثرثرة. لا يمكن لقطاع الاتصالات ان يكون مجدي اقتصاديا الا في حالة ارتباطه بالنمو الاقتصادي والمساهمة في الإنتاج، حتي يتم استثمار تكنولوجيا الاتصال في تغذية الناتج المحلي بقيم مضافة. ربما تكمن الفائدة الوحيدة لهذا القطاع في الضرائب الباهظة المفروضة عليه (30% ضريبة علي القيمة المضافة)، بدون ذلك لا فاعلية تذكر، حتي الانترنت بطيء ويقطع او يحجب بشكل مستمر. أما في جانب البناء والتشييد فهو توظيف غير منتج للموارد، إذ ان ما يوظف فيه لا يدخل ضمن الدورة الاقتصادية ولا يغذي القاعدة النقدية بموارد تمويلية دوارة، لكنه يعتبر ملاذا آمنا بسبب ارتفاع معدلات التضخم وانخفاض قيمة الجنيه وارتفاع مخاطر الاستثمار في الإنتاج.
الجانب الآخر المهم في سياسة الأرض الجرداء هو التفريغ الممنهج للكوادر السودانية خاصة الشابة المؤهل منها وغير المؤهل. إذا أخذنا أساتذة الجامعات والأطباء كمثال، فسنجد ان الاستخدام لهذه الفئات بالخارج خاصة في دول الخليج وبشكل اخص اكبر دولة منها، يتم (بالكوم) ، اي بالكم دون اعتبار للنوعية بسبب السياسة المتبعة هناك بإبعادها المختلفة التي يمكن لاي باحث التمعن فيها. هناك بالطبع كوادر مؤهلة والقليل من عالية التأهيل في ظاهرة موجة التوظيف الأخيرة. إلا أن هناك أعدادا كبيرة من منً تم استيعابهم كأساتذة (للجامعات) لم يقدموا محاضرة واحدة في السودان، او أنهم قد دخلوا الي بعض القاعات كمتعاونين (بواسطة)، لزوم تدبيج شهادات الخبرة. كما ان عددا كبيرا منهم يعمل خارج تخصصه. كل ذلك غير مهم في سياسة التوظيف الجديدة ما دام هناك كراسة تحفظ وتلقن للطلاب من قبل شخص يحمل درجة علمية عليا. أقول هذا باعتباري (شاهد)، إذ إنني قمت بتدريس عدد من الذين تحدثت عنهم علي المستوي الجامعي او في الدراسات العليا، كما أشرفت علي عدد أخر منهم وامتحنت آخرين كممتحن خارجي او داخلي بمختلف الجامعات السودانية لعقدين من الزمان.
المهم في هذا الموضوع ليس التقليل من شأن بعض الذين تم توظيفهم (فليس ذنبهم قلة التأهيل أو انعدام الخبرة أو العطالة)، وإنما لإظهار منهجية سياسة تجريد السودان من كوادر كان من الممكن الاستفادة منها وتوظيفها ورفع قدراتها بالتدريب والابتعاث الخارجي، إلا أنهم لم يجدوا غير الإهمال وبعض منهم ظل عاطلا لسنوات ومن الغريب ان تقوم دولة أجنبية باستيعاب مثل هذه الكوادر بينما تحمد دولتهم الله علي خروجهم باعتبارهم مصدر لتحويل النقد الأجنبي وفرصة للتدريب, لكن هل ستعود تلك الكوادر وتنخرط في العمل بالشكل المطلوب مع تدني العائد وبعد عقد مقارنة بما كانوا عليه وما سيكون؟ الآن أصبح كثير منهم يفكر بشكل مختلف، وربما الانصراف كليا عن العودة ما لم تصحح الأحوال، مما يؤكد تعمق منهجية الأرض الجرداء.
أخر فصول سياسة الأرض الجرداء يتمثل في العلاقات الدولية وما دار من جدل حول الصناعات العسكرية بعد حادثة اليرموك. هذه العلاقات والصناعات ذات تكاليف باهظة من الناحيتين المادية والتأثير علي الأمن القومي والسيادة الوطنية. الشعب السوداني يدفع دم قلبه في تمويل الأمن القومي ومن ناحية شخصية، لا أري حجة في الاعتراض علي أهمية ضمان الأمن القومي من حيث المبدأ ، خاصة عندما يتعلق الأمر برفع قدرات وجاهزية  القوات المسلحة (الجيش)، باعتبارها مؤسسة قومية، حتى إذا تم تسيسها فستعود لا مناص إلي قواعدها القومية ودورها في حماية ارض الوطن. بذلك فان القوات المسلحة لا يمكن الاستغناء عنها تحت إي ذريعة كانت أو استبدالها بمليشيات او حتى بقوات خاصة، لأنها غير قابلة للاستبدال مثل عدم قابلية الأمن القومي للتجزئة، هذه من الثوابت القومية غض النظر عن نظام الحكم ودرجة رشده.
إلا أن خلط الأوراق في الأمن القومي والالتباس في العلاقات الدولية وعدم التوازن في حساب القدرات والدخول في معارك خاسرة أو بدون معترك يمكن ان يؤدي الي خراب الدول وتدمير الأمن القومي بشكل تام. يمكن النظر للعالم من حولنا وما حدث لدول عربية وافريقية وآسيوية كما يمكن الاعتبار بالكثير من التجارب الحميدة لدول أمريكا اللاتينية ودول مثل ماليزيا في صيانة أمنها القومي وسيادتها الوطنية رغم انفتاحها وتوفير المناخ الملائم لمختلف أنواع الاستثمار. تخطيط الأمن القومي أمر بالغ الدقة والحساسية لارتباطه بالسيادة الوطنية وكرامة الشعوب وبالتالي فان ما يصيب هذا الجانب من اختراق  وانتهاكات مستمرة يحدث خسائر لا يمكن تداركها، وهي من اكبر عوامل تحول اي دولة مهما كانت مواردها وقدراتها الي دولة فاشلة و ارض جرداء.
هذه المحاور تعبر عن أزمة حقيقية وتعيدنا الي ضرورة البحث في سبل معالجة مشكلة الدولة السودانية في أساسها والعمل علي تأسيس دولة بمنهجية مختلفة قائمة علي عناصر متكاملة في السياسة، الاقتصاد ، الاجتماع والأمن القومي، وهو ما يستدعي البحث عن إمكانية قيام حكومة قومية تمثل جميع أطياف الواقع السوداني (إذ أن إي طرف لوحده غير مؤهل لإدارة الأزمات التي تعني منها البلاد والخروج بها إلي بر الأمان)، تقوم بمهام فترة الانتقال نحو التأسيس لوضع دستور قومي متوافق عليه والسير نحو انتخابات حرة نزيهة مراقبة في جو ملائم وقانون ترتضيه جميع الأطراف؟ هل هذا ممكن؟ تقول نتائج مفاوضات أديس أبابا وما تم التوصل إليه بين الأخوة الأعداء في السودانيين، وما تقوم به الآلية الإفريقية والمجتمع الدولي، أن هذا ممكن، خاصة عندما يتعلق الأمر بالحوار مع أطراف لا يمكن تجاوزها في طريق الوصول إلي حل شامل واعني بذلك الحركة الشعبية قطاع الشمال والحركات المسلحة بدار فور التي لا زالت تحمل السلاح. يقود ذلك للتفاوض المسبق مع جميع أطراف النزاع السوداني وحل المشاكل العالقة التي تعرقل التوافق الوطني. إي طريق أخر مثل السير نحو دستور غير متفق عليه أو إجراء انتخابات صورية كتحصيل حاصل والاعتماد علي مقولات مثل ضعف المعارضة، (لحس الكوع) أو إسقاط النظام بقوة السلاح ، كل ذلك سيقودنا الي ارض جرداء غير صالحة للحياة وبالتالي فان الصراع من اجل التربع علي عرشها لن يكون له منافع مستقبلية مضمونة.
علي الأقل الحسابات الاقتصادية، اعتمادا علي متغيرات إفرازات الأزمة المالية العالمية، أزمة منطقة اليورو وأزمات تشكل النظام العربي الجديد  بعد ثورات (الربيع)، تثبت هذه الفرضية بشكل غير قابل للنفي. يحتاج العالم إلي فترة طويلة لترتيب أموره بشكل مختلف بعد الأزمات العاصفة، كما تحتاج الدول العربية التي أنجزت ثوراتها بشكل جزئي او في طريقها الي ذلك، تحتاج الي سنين طويلة والي دفع مستحقات وتكاليف باهظة لإعادة ترتيب أوضاعها والتخلص من عناصر الاحتواء التي تسعي إلي حرفها في اتجاه مغاير تماما عن أهدافها التي قامت من اجلها. هذا ما يجب أن تأخذه القوي السياسية المتناحرة في السودان في الحسبان. علي الأقل من اجل صيانة الأمن القومي والمحافظة علي وحدة ما تبقي من البلاد ومن اجل ضمان الأمن الغذائي وحياة طبيعية للمواطن السوداني المطحون الذي مل التناحر والفشل المقيم. إلا يستحق ذلك التضحية والتواضع وإحكام العقل والرشد السياسي؟    
hassan bashier [drhassan851@hotmail.com]

 

آراء