سيناريو النشل … بقلم: د. عمر بادي
1 March, 2010
مقتطفات من كتابي (القيام بالدفرة)
دار جامعة الخرطوم للنشر- 2009
الأخ هارون من أقربائي ، زرته في منزله في إحدى الأمسيات قبل شهر تقريباً ووجدته في غاية الإستياء . قال لي إنه قد تعرض لعملية سرقة دنيئة حدثت له في صبيحة نفس ذلك اليوم . سألته أن يستزيدني بالتفاصيل، فروى لي الآتي :
في صبيحة ذلك اليوم خرج بعربته إلى الخرطوم لتكملة إجراءات سفر إبنته إلى امريكا كي تلحق بزوجها الذي يعمل هناك . وضع في حقيبة أوراقه جواز سفرها الجديد الذي إستخرجه حديثاً من إدارة الجوازات ووضع كذلك أوراق إستقدامها إلى أمريكا والتي كان قد بعث بها زوجها وهي مجموعة من الأوراق تحتوي على أختام عدة ، ووضع دفتر شيكاته وأوراق ثبوتية أخرى تخصه . أوقف عربته قرب أحد المصارف في منتصف الخرطوم وحمل حقيبته إلى داخل المصرف حيث حرر شيكاً بمبلغ مليون جنيه وإستلم المبلغ ووضعه في الحقيبة وعاد إلى سيارته . وضع الحقيبة على المقعد الأمامي الذي يجاوره وأدار سيارته وعاد بها إلى الوراء كي يدخل إلى الشارع العام. فجأة سمع صراخ شخص يتألم وآخر يشير عليه أن ينتبه وثالث يخبط على سيارته . توقف الأخ هارون وهو في غاية الإضطراب مما يكون قد حدث، وترجل من سيارته ليرى شخصاً ممسكاً بقدمه وهو في غاية الألم ويردد أن السيارة قد داست على قدمه . نفى الأخ هارون ذلك وأكد للحضور أنه قد ألقى نظرة على المرآة العاكسة قبل وأثناء تحركه للوراء ولم يكن ذلك الشخص على درجة من القرب حتى تطأ السيارة قدمه . أخيراً هدأ ذلك الشخص وإبتعد وهو يشكو حظه وما أصابه من ظلم . صعد الأخ هارون إلى سيارته وتحرك بها خطوات ثم التفت إلى المقعد الذي بجانبه فلم يجد الحقيبة !! في قسم الشرطة سجل بلاغاً بالسرقة والمفقودات وعرضوا عليه صوراً لبعض المجرمين من مرتادي النشل ولكنه لم يتعرف على أحد يشبه ذلك اللص الممثل الذي جذب إنتباهه إليه حتى يسطو شريكه على الحقيبة، وعندما وصف له ملامح ذلك اللص المحتال أجابوه بأن أوصافه قريبة من أوصاف لص يباشر نشاطه في سوق العمارات . يا للعجب ، لقد حدد اللصوص لكل منهم مناطق نفوذ حتى لا تتداخل أعمالهم ! تركت الأخ هارون وهو يردد : (( المليون ما مشكلة ، المشكلة هسة في كل الأوراق المهمة دى ! )) ، وواصل ذهابه إلى قسم الشرطة ليسأل عما إذا كانت الأوراق قد وجدت ملقاة ، ودائماً تكون الإجابة عليه بالنفي .
الأخت نفيسة روت أنه قد حدث لها موقف مشابه ، لقد خرجت من المصرف وهي تحمل حقيبة يدها ووضعتها بجانبها على المقعد الأمامي في السيارة وأدارت سيارتها وفجأة حضر إليها أحد المتسولين وبدأ يلح عليها أن تناوله شيئاً من المال وأراها بعض الوصفات الطبية ثم فجأة تركها وإبتعد ، وعندما التفتت إلى حقيبة يدها لم تجدها !! عمليات سرقات مخططة بأساليب تمثيلية لجذب إنتباه الضحية عن أشيائه القيمة ..أذكر أنني كنت في مطلع هذا العام قد كتبت مقالة عن تعرض إحدى الأسر السودانية في إسطنبول إلى سرقة بواسطة بعض المشردين أجادوا فيها دورهم في ( لخمة) الضحية حتى سرقوا حقيبتها . هذا الأسلوب جديد علينا في السودان وأراه متأثراً بأساليب المجرمين في الأفلام وببعض الكتب البوليسية ، وأراني جد آسف لو أنهم إستفادوا من مقالتي تلك في بعض تخطيطاتهم بدلاً أن يراجعوا أنفسهم ويحسوا بموقف من تضيع كل أوراقه المهمة كالجوازات مثلاً أو وثائق السفر والشهادات الدراسية .
لا أدري هل يعقل أن يكون اللصوص حاقدين إلى درجة أن يتلفوا كل تلك الأوراق المهمة؟ ربما يجدون بعض العذر في لجؤهم للسرقات من أجل المال حين تضيق بهم الحياة ولا يردعهم وازع أخلاقي أو ديني ، لكن كيف يجدون لأنفسهم عذراً في إيذاء شخص أذى جسيماً بعدم رد أوراقه المهمة إليه؟ في بعض البلاد يبيع اللصوص هذه الأوراق المهمة إلى مجرمين كبار، وعن طريق عملاء ووسطاء يتواجدون في أماكن معينة يتم التفاهم مع الشخص الضحية كي يدفع مبلغاً يحددونه هم لرد أوراقه الثبوتية!! وأظن هذا التفاهم خير ألف مرة من ( التلتلة) في خطوات إجراءات (البدل فاقد) . أقول قولي هذا ولا أتمنى من الله أن أسمع بعد أشهر أن نظام التفاهم هذا قد صار معمولاً به في السودان!!.
سأروي لكم قصة قد حدثت لي قبل عامين تقريباً . يقول المثل: ((تخاف من الشيطان يظهر ليك)) . لقد كنت في غاية الحرص وأنا في عمرة رمضان في الحرم ، والزحمة تعادل زحمة الحج ، والنشالون قد أتوا من أوطانهم مع وفود المعتمرين ليزاولوا أعمالهم الدنيئة وسط قاصدي بيت الله الحرام ، وهؤلاء يكون رجال أمن الحرم لهم بالمرصاد لينالوا سوء ما فعلت أيديهم . بعد صلاة فجر ذلك اليوم توجهت إلى النقل الجماعي والذي على بعد خطوات من الحرم كي أستقل البص إلى المدينة المنورة لزيارة مسجد الرسول الكريم صلوات الله عليه وسلم . تصاعد تزاحم الناس في إنتظار أن يفتح البص أبوابه فأمسكت بالمصحف والهاتف النقال في إحدى يدي وأدخلت يدي الأخرى في جيب جلبابي وأمسكت بها محفظتي ، وكثر التدافع صوب باب البص وكان خلفي رجل يكثر من الدعاء والتبتل بصوت عالٍ فاطمأنت نفسي له وأخرجت يدي لأقبض حديد الباب حتى أصعد فصعدت وعنّدما لمست جيبي كانت المحفظة قد إختفت ! نزلت من البص وهجمت على من هم خلفي كالمجنون وبدأت في لمس جيوبهم في تصرف غير قانوني ولم أجد ذلك الشخص الذي كان يدعو الله بصوت عالٍ. ذهبت إلى قسم الشرطة وسجلت بلاغاً بالسرقة وبمحتويات المحفظة والتي ضمت مبلغاً من المال مع وثائق الإقامة ورخصة القيادة وبطاقة الصرف الآلي، وإستغرقني الأمر أشهراً بعد ذلك كي أقوم بإجراءات الإلغاء ثم الإعلان عن المفقودات في الصحف ثم إجراءات إستخراج البدل فاقد ! في قسم الشرطة وجدت أعداداً من النشالين وقد قبضهم أفراد الشرطة متلبسين وكلهم قد قدموا من بلادهم لأغراضهم الدنيئة. إلتقيت بأحد السودانيين وكان زائغ العينين غير مصدق لما حدث له ، سالته:((هل إتنشلت؟)) , أجابني: (( بطريقة لحدي هسة محتار فيها !)) ، وحكي لي أنه قد قدم من القصيم لمقابلة والديه اللذين حضرا للعمرة وأحضر معه مبلغاً من المال يساوي عشرين ألف ريال وضعه بجانب إقامته في حقيبة صغيرة ذات مقبض جلدي لفه حول رسغه . لقد نوى على الزواج وأحضر ذلك المبلغ حتى يختار له والداه الشيلة والشبكة. أراد أن يذهب للحمامات ليتوضأ إستعداداً للصلاة قبل أن يقابل والديه ، فجلس على حوض الصنابير وفتح صنبور الماء ووضع حقيبته أمامه بقرب الصنبور وبدأ في الوضوء وعندما مرر الماء بيديه على وجهه وفتح عينيه لم يجد الحقيبة !!
صحفية (الخرطوم) ـ 24/7/2004م