شخصيات وأحداث محاولة لجمع بعض شتات تاريخنا المبعثر … بقلم: جمال عنقرة

 


 

جمال عنقرة
21 January, 2011

 


•       النور عنقرة أسر السودانيين بجسارته وجرأته علي خليفة المهدي
•       التجاني محمد إبراهيم يكشف أدق تفاصيل المبادرة ويتصدي لمن أسماهم القراصنة
•       (أيام مع نميري) نال استحسان القراء، و(السر في العلبة)
•       عبد الرحمن سر الختم الفريق المدهش وحديث من (بيت الكلاوي)
عندما أجلسني أخي وصديقي الأستاذ العظيم الراحل المقيم سيد أحمد خليفة في مقعده وهو يغادر البلاد للاستشفاء، وجدت المسئولية عظيمة، فسيد أحمد خليفة مدرسة متفردة، وكانت (الوطن) تعتمد عليه اعتماداً شبه كاملاً. فجمعت الزملاء في الصحيفة ونقلت لهم إحساسي بعظم التحدي الذي يواجهنا، وكان وقتها الأستاذ عادل سيد أحمد متجاذب بين (الوطن) و(الأسطورة) فوجدتهم علي درجة أعلي مني إحساساً بالمسئولية، فتعاهدنا أن يضاعف كل منا جهده، ويزيد عليه. وأذكر أني عندما قلت للزملاء أن سوف أشيل معكم الحمل إلي حين عودة (الأستاذ) قال لهم الأخ الأستاذ عصام عباس أنه سوف يبقي معكم علي طول. وعصام هو العمود الفقري لـ (الوطن)
          أول شيء فكرت أن أدعم به الصحيفة هو كتابي (أيام مع جعفر نميري ــ أسرار ومواقف) وهو كتاب مختبر، فلقد أثبت مكانه بين القراء الذين تيسر لهم، ولقد حدث ذلك منذ طبعته الأولي التي كانت في العام 1991م، وهي طبعة تنقص عن هذه الثانية كثيراً، إذ أن بالثانية باب كامل لم تشتمله الأولي، وهو باب (هكذا تكلم جعفر نميري) وهو باب حوي أحاديث مهمة للرئيس الراحل حول قضايا مثيرة، مثل علاقة مايو بالحزب الشيوعي السوداني، ونهاية الحزب الشيوعي، وتقديره لها، هل نحره أم انتحر، وحوي كذلك تفاصيل عن أحداث الجزيرة أبا وودنوباوي، وتجربته في تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان، هذا فضلاً عن أحاديث عن سني الدراسة وذكرياتها، وزملائها، وعن المؤسسة العسكرية، وعن السودان الوطن والمواطن.
          وأذكر عندما أصدرت الطبعة الأولي في مصر أهديت أول نسخة لأستاذي الراحل المقيم بشير محمد سعيد، وأستاذ بشير مدرسة صحفية أحاول أن أقتفي أثره في الكتابة التوثيقية، فأعطيته الكتاب نحو الساعة الثانية بعد الظهر عندما زارنا في مكتبنا مع أخي الأستاذ الكبير السر أحمد قدور، وعند الساعة السابعة صباح اليوم التالي اتصل بي أستاذ السر قدور غاضباً وقال لي (قوم أمش عمك بشير عايزك) وكان سبب غضب السر أن أستاذ بشير أيقظه في ذاك الوقت الباكر، وهو لم يتعود علي ذلك، فلما سألته عن السبب الذي يريدني فيه عم بشير في هذا الوقت الباكر، رد علي بذات لهجة الغضب الودودة (ما عارف، أمش وانت تعرف) فذهبت قلقاً وفي ذهني تجربة أحد الزملاء أعطي أستاذ بشير مسودة كتاب ليطلع عليها، فرد عليه أستاذ بشير في اليوم التالي (كتابك ده عايز يكتب من جديد)
          فذهبت إلي عم بشير في منزله بميدان لبنان بالمهندسين، ووجدته علي الصالون وبالقرب منه الكتاب، فهنأني علي ما كتبت وقال لي إنه منذ أن بدأ قراءته لم يتركه إلي أن وصل إلي آخر كلمة فيه، وقال أنه لم يسعد بكتاب منذ عشرين عاماً مثلما سعد بهذا الكتاب، وأضاف، الآن وجدت من يكتب مذكراتي. وكان هذا بالنسبة لي شرف كبير، ومنذ ذلك اليوم دخلت علاقتي مع أستاذ بشير مرحلة ثانية، غاية في التميز والخصوصية، وأطلعني علي كثير من أوراقه الخاصة، وتمددت إلي جوانب أسرية عميقة، وهي ما زالت علي هذا النحو من التميز مع أسرته.
          ومن الشهادات التي أعتز بها في حق هذا الكتاب ما قاله أستاذنا مولانا دفع الله الحاج يوسف عندما اطلع علي الطبعة الأولي وكنت قد أهديته نسخة منها عندما زار القاهرة في ذاك الزمان وكان ينزل في شقة بشارع مصدق في الدقي، فعندما قرأ الكتاب، قال لي اليوم فقط وجدت أجوبة علي أسئلة كثيرة كانت حائرة عندي. ولهذه الأسباب قررت أن أدفع بهذا الكتاب (أيام مع جعفر نميري) إلي صفحات صحيفة الوطن في حلقات تنشر ثلاث مرات في الأسبوع، وبحمد الله تعالي وجدت رواجاً كبيراً، وظل القراء يلاحقونني، وكذلك الصحيفة يسألون عن الكتاب، وبهذه المناسبة أعد القراء بطبعة ثالثة قريباً بإذن الله تعالي، ولقد سألني البعض عن سر تميز هذا الكتاب، فقلت لهم ما يقوله صناع (الأقاشي) الذي غزا العاصمة وكثيراً من المدن الكبيرة، فيقولون عندما يسألون عن سر التميز (السر في العلبة) في إشارة إلي العلبة التي بها خلطة البهارات والتوابل التي تضاف إليه.
          بعد ذلك اقترحت باباً جديداً أسميته (شخصيات وأحداث) حاولت أن أرصد من خلاله بعض تجارب السودانيين الذي وضعوا بصماتهم علي حياة هذا البلد في جوانبها المختلفة السياسية والإقتصادية والفكرية والإجتماعية وغيرها، ولقد بدأت بأخي وصديقي الشيخ الخليفة عمر الشيخ إدريس حضرة، وعمر حضرة مخزون تجارب ومعارك ومعارف، فوجدت حلقاته ما تستحق من الاهتمام والمتابعة من القراء، وبعده نشرت ما جمع عن رائد من رواد التحرير الإسلامي في السودان، الكاتب والمفكر والمجاهد بابكر كرار النور، وبقدرما أسعدتني سعادة الذين يعرفون بابكر كرار بما نشر، وبالكيفية التي نشر بها، أشقاني أن جيل هذا الزمان، لا يعرفون بابكر كرار، حتى من بعض المثقفين والمتعلمين والصحفيين، والرقيبين علي الصحافة كذلك.
          ثم جلست إلي رجل أمة، وله من المعلومات والأسرار ما تنوء بحمله الجبال، إنه أبو الزاكي الحاج التجاني محمد إبراهيم، وحاج التجاني مسيرة ممتدة من العطاء، ولنقل تجاوزاً أنها بدأت منذ العام 1957م عندما فاز في الانتخابات التشريعية وصار عضواً في مجلس ريفي شمال النيل الأبيض، وأقول تجاوزاً أنه لو لم يكن له تاريخ قبل ذلك لما اختاره الحزب الاتحادي لخوض الانتخابات باسمه، وسط عتاة السياسيين ورجال الإدارة الأهلية وكبار الرتجار ورموز المجتمع، ومنذ ذاك التاريخ صار لأبي الشهيد ذكر جديد، وظل يرقي ويترقي في المواقع والمسئوليات إلي أن صار رقما من أرقام السياسة السودانية، وصار فوق الأحزاب والكيانات. ولقد تحدث حاج التجاني في مذكراته التي رصدت بعضاً منها بصراحته المعهودة، وكشف أسراراً جليلة، منها ما يتعلق بعلاقته مع الراحل المقيم الشريف حسين الهندي، الذي كان يستأمنه علي عظيم أسراره، ومنها أسرار الجبهة الوطنية والصراع مع مايو، حتى سقوطها في انتفاضة رجب أبريل عام 1985م، وحكي أسرار هذه الانتفاضة، وكيف أنه بعد أن كان أكبر داعميها صار أول معتقليها، بأمر رئيس مجلس قيادة الثورة الانتقالي المشير عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب، ومن بعده النائب العام الانتقالي الأستاذ عمر عبد العاطي، ثم تحدث أبوالزاكي بعد ذلك عن سقوط حكومة الأحزاب وقيام ثورة الانقاذ الوطني التي اعتقلته مع بقية القادة السياسيين من كل الأحزاب، بما في ذلك حزب الجبهة الإسلامية القومية الذي صنع الإنقاذ. ثم أطلق سراحه بعد نحو شهرين فبدأ حواراً مباشراً مع الرئيس عمر البشير لقيادة مبادرة للوفاق الوطني يبدأها بالإصلاح بين رفيق دربه وصديق عمر الشريف زين العابدين الهندي، فتحدث أبوالشهيد في هذه الحلقات عن أدق تفاصيل هذه المبادرة، ثم تصدي بعد ذلك عن الذين أسماهم (القراصنة) وهم من أضاع المبادرة وخرج بها عن مسارها الذي رسم لها، وحولها إلي مصالح شخصية، ومنافع ذاتية، فلم يستفد منها الحزب ولا الوطن، وضاعت هباء منثوراً. العزاء الوحيد أنها فتحت الطريق أما التحول السياسي السلمي الديمقراطي في البلاد، وكانت كذلك مدخلاً للسلام الشامل في السودان، وكان من الممكن أن تنجز أكثر من ذلك لولا أن القراصنة حولوا مسارها. وكل هذا وغيره مما نشرناه في الحلقات ومما لم ننشره، يجده القارئ في الأيام القليلة القادمة في كتاب هو الأول من سلسلة (شخصيات ومواقف)
          كثيرون سألوني أن أكتب عن جدنا الأمير النور عنقرة، من داخل الأسرة ومن خارجها، والنور عنقرة من الشخصيات التي لها مكان خاص في قلوب كل السودانيين، ولعله قد أسرهم بشجاعته وجسارته وجرأته علي الحاكم الذي كان يتمثل في خليفة المهدي الخليفة عبد الله ود تورشين، وأكاد أواجه بصورة شبه يومية من الناس بتصنيف الخليفة عبد الله لأمراء المهدية، فكان قد قال أن بعضهم يخاف من الله ولا يخاف من الخليفة، وبعضهم يخاف من الخليفة ولا يخاف من الله، أما النور عنقرة فلا يخاف من الله ولا يخاف من الخليفة. وللناس علي ذلك دلائل وإشارات متعددة من مواقف الأمير مع الخليفة التي جعلته يصفه بهذا الوصف. ومما يروي عن النور عنقرة أنه كان يدخن الغليون فقال له خليفة المهدي أن هذا حرام وهو من صنيع الكفار ونهاه عنه، فانتهي النور عنه وصار لا يدخنه إلا في مجلس الخليفة، وقيل أيضاً أنه كان يشرب الخمر في مرحلة من حياته الأولي في المهدية، فوشي الواشون بذلك وأخبروا الخليفة بموعد جلسة النور، فأرسل له الخليفة مرسالاً يطلبه في ذات وقت (قعدته) فأجلس النور المرسال وأجبره علي الشراب حتى سكر تماماً، ثم قال له اذهب إلي الخليفة وقل له (النور قال ما جاي) فذهب المرسال ووقف بعيداً عن الخليفة حتى لا يشم رائحة السكر فيه وقال له: (سيدي أبوي النور قال ليك ما جاي) فرد عليه الخليفة (أبوك النور خلا تعال انت) فقال المرسال (أنا كمان ما جاي) وانصرف.. فأشاع الناس أن الخليفة يخشي النور عنقرة ويخافه، فدعا الخليفة يوماً كل رجاله وقادته في ساعة متأخرة من ليل فجاءوا جميعاً بملابسهم التي كانوا عليها، أو كانت عليهم، فلما اكتمل عقدهم، أرسل للأمير النور عنقرة يطلبه، فلما بلغ الخبر النور، أمر رجاله بضرب النحاس ثم امتطي جواده وأخذ سيفه ورماحه وجاء إلي الخليفة يسأله عن وجهة الجهاد، فنظر الخليفة إلي رجاله وقال لهم: (النور أنا مخليه لي دي) فقام الخليفة وانصرف الرجال مكسورين وعاد الأمير النور عنقرة مرفوع الرأس.
          فبهذه الصفات حاز النور إعجاب أهل السودان، فكتب فيه عبد الله ود سعد وهو يصف أصحاب الإمام:
النور عنقرة جرعة عقود السم          في المحاص تلقاهو يضحك ويتبسم
جسمو بي حاله بالرصاص موسم             الروح سابلها إلا الأجل ما تم
وفيه قالت بت مسيمس
وقت الشوف بشوف والقوب متخالعة  صدرك زحمة النار أم هبايباً قالعة
وقال فيه الأستاذ محمد أحمد محجوب في قصيدته عودة البطل
والنور العتيد يغير ليلاً يدك المحافل والحصون
وفي رائعة الشريف زين العابدين الهندي (أوبريت سودانية) جاء ذكره بعد المهدي والخليفة مباشرة وخصه وحده من دون الأمراء ببيتين جاء فيهما:
حباب النور عقيد الخيل عقود الشين
عنقرة المعزة الأصلو ما بتلين
ومن غرائب الأشياء أن هذهين البيتين سقطا وحدهما من الأوبريت المغني بواسطة الفنان الكبير عبد الكريم الكابلي، وأكاد أجزم أن الذي أعطي الكابلي النص لم يعطه فيه بيتي النور عنقرة، ذلك أني أعلم أن الفنان الكابلي له معزة خاصة للأمير النور عنقرة، فهو فضلاً عن اعتزازة بشاعته وبسالته، فواحدة من النساء اللاتي تزوجهن النور عنقرة في القضارفة جدة للفنان الكابلي، ومن نسائه في القضارف أيضاً حبوبة السرة والدة عمنا وأستاذنا محمد الخليفة طه الريفي وأخوانه. ولذلك أجزم أن بيتي النور عنقرة لم يصلا لكابلي، ويبدو أن الذي حزفهما خلط بين الأمير النور عنقرة، وحفيده جمال عنقرة، فظن بذلك أنه يباعد بين الحفيد ودوره في مبادرة الحوار الشعبي الشامل، وهو دور يكفي أن الشريف أثبته موثقاً في أجمع حشد له عندما ذكره مع أدوار الحاج التجاني محمد إبراهيم، والدكتور عبد الله سليمان العوض في قاعة الصداقة في المؤتمر العام للمؤتمر الوطني الذي أختير فيه الشريف زين العابدين نائباً لرئيس المؤتمر الوطني، وهذا أمر موثق، ولم يذكر الشريف في ذاك اليوم فضلاً لأحد من بعد الله تعالي في صناعة المبادرة غير هؤلاء الثلاثة.
          وما دعاني أيضاً لبداية الكتابة عن الأمير النور عنقرة ضمن سلسة شخصيات ومواقف أن كثيرين يعتقدون ألا أحد من أحفاد الأمير نال شهرة غير (العبد لله) وهذا ظن ليس صحيحاً، فأكثر أحفاد النور عنقرة من أبنائه الثلاثة بعد المائة من بناته، وليس من أولاده، ومعلوم أن نسل البنات لا يظهر فيهم الاسم، ومن هؤلاء الأحفاد الذين يعرفهم الناس، ويعرفون عطاءهم لكنهم لا يعرفون أنهم من أحفاد الأمير، الأستاذ المحامي الكبير حسين عثمان وني، وهو ابن بنت النور عنقرة، والشاعر بابكر الطاهر شرف الدين شاعر (في الليلة ديك) التي يغنيها العندليب زيدان إبراهيم، و(ملك مجافي الناس) التي يغنيها محمود علي الحاج، وغيرهن من الأغنيات والأشعار، وأمه بنت بابكر النور عنقرة. والملاكم السوداني المشهور الكابتن حيدر الصادق، جدته لأمه بنت النور عنقرة، وجدته لأبيه بنت تمساح شقيق النور عنقرة، والإعلامي والمذيع المعروف الرشيد بدوي عبيد والده أمه بنت النور عنقرة وجده عبيد ابن أخت النور عنقرة، وأمه حبوبتها بنت النور عنقرة، والأستاذ بابكر محمد الحسن أحد رموز وزارة الثقافة، وشاعر أغنية(أخواني كان رقتو بوصف الشفتو) التي يغنيها علي إبراهيم حبوبته لأمه وزلأبيه بنات النور عنقرة، والمحامي المشهور والرياضي المطبوع الأستاذ محمد عوض حميدة أمه جدها النور عنقرة، ووزير المالية الحالي في حكومة القضارف معتصم علي موسي أمه بت بابكر النور عنقرة. وهذه قائمة تطول، واختصاصي بالاسم لأنني من أبناء أولاد النور، وحفيد مباشر له، ومن تقاليد الأسرة عندنا أنهم يقدمون أبناء الأولاد، ويجلون الذين يقتربون في النسب إلي الجد. ولذلك فإن كثيرين يتقدمون علي مقاماً وسناً، لا يقولون لي إلا عمي أو خالي أو جدي، ومنهم المهندس أحمد الصادق وأخوانه، وعوض محمد الحسن، وأبناء أختنا حرم يوسف معلا ورشيدة وأخوانهما، وزاهر خالد الذي أحسب له جداً، وغيرهم كثر. وأعكف الآن علي جمع ما تيسر من تاريخ الأمير لنشره قريباً بإذن الله تعالي.
          وخلال وجودي هذه الأيام في مصر، وجدتها سانحة طيبة لأسجل مع الرجل المتميز الفريق المدهش عبد الرحمن سر الختم سفير السودان في القاهرة، وهو كنز من العطاء، ورحلة ممتدة في مجالات السياسة والرياضة والمجتمع، وسوف أبدأ نشر حلقات السفير الفريق المدهش خلال الأيام القليلة القادمة علي صفحات (الوطن) بإذن الله تعالي.
 
Gamal Angara [gamalangara@hotmail.com]

 

آراء