شعار تصفية دولة ٥٦.. عَوار وعورات الخطاب الشعبوي

 


 

 

لم يعهد أحدٌ خطاباً بعينه للجنجويد إن كان على المستوى السياسي يخاطب قضايا سياسية محددة، أو على المستوى الشعبوي ليستثير نزعات وجدانية عند جماعة بعينها، إلا بعد إندلاع الحرب في ١٥ أبريل ٢٠٢٣م فقد تركز الخطاب لأول العهد بالحرب على مفردتين ظل يرددهما قائدهم حميدتي قُبيل اختفاؤه المثير عن المشهد وهما (استعادة الديمقراطية، ومحاربة الفلول). وفيما هو واضح أن هذا الضرب من الخطاب السياسي يمكن تسويقه لدى قطاعات واسعة في أوساط الطبقة الوسطى المستنيرة من سكان الحواضر المدنية والقوى الحزبية المنظمة كقوى الحرية والتغيير وكذا لجان المقاومة التي كانت تقاوم إنقلاب ٢٥ أكتوبر مقاومة شرسة من خلال التظاهرات والاحتجاجات الميدانية. وهنا تبدو مفارقة لا تخلو من الدهشة وهي أن إنقلاب ٢٥ أكتوبر فضلاً عن أنه صب في صالح الفلول مباشرة، فهو كذلك قد قطع الطريق على مسار التحول الديمقراطي بلا مبررات أو مسوغات. وقد كان قائد الجنجويد راضٍ تماماً عن ذلك الانقلاب بل ومهّد له في خطاب مشهور ومشهود بالقول أن:(مصارينه أتهردن... والتمطر حصو).. وقد يبدو أن هذا الخطاب قد أتى أكله في بعض الجوانب، فقد غضت قوى الحرية والتغيير البصر عن تمرد قوات الجنجويد بشكل يثير الريب ولاذت بشعار أخلاقي في ظاهره، إلا أنه يبطن نوعاً من التواطؤ مع الجنجويد كان ذلك الشعار هو (لا للحرب). وهو شعار لم يسعف رافعيه أخلاقياً مع زيادة حدة تجاوز فظائع الجنجويد ضد المدنيين والتعدي على ممتلكاتهم وتحويل الأحياء السكنية لساحات للحرب.
ففي محاولة يائسة لتطبيق ذلك الخطاب في الواقع قاموا بإختطاف إثنين من رموز الإسلاميين وعرضهم في فيديوهات بصورة مذلة لم تضفِ على الخطاب جدية، وإنما أضافت إليه مسحة إنتقامية مقززة وغير مستساغة لكل من يحترم المُثل الديمقراطية ويُجلّها ويتمثلها في ممارسته السياسية كحاكمية ومرجعية فكرية. لم تزد هذه العملية خطاب الجنجويد إلا خبالاً على المستوى الجماهيري إذ لم يصفق أحدهم لذلك الإنجاز " البطولي" بل لم يحترمه أحد - حتى وسط عتاة خصوم الاسلاميين من العلمانيين - لأنه في الأصل مفارق لبنية الوعي السياسي المركوز على التسامح وتحمل الآخر لا التحامل عليه وتصفيته.
على عموم الأمر، لم يكن للجنجويد بعد إفلاس خطابهم السياسي وتناقضه مع الممارسة الميدانية أثناء مجريات الحرب بُدٌ من تغيير الخطاب وبسرعة مدهشة لشعار آخر يناشد نزعة شعبوية لدى قطاعات مختلفة عن تلك التي تمت مناشدتها في الأصل. وهؤلاء هذه المرة مَن يمكن تسميتهم بجماهير الهامش وذلك تحت شعار أساسي وهو تصفية ما أسموه (دولة ٥٦ ) دون أن يعطوا تعريفاً محدداً لماهية تلك الدولة ومَن هي القوى التي يجب أن تُصفى بموجب تصفية تلك الدولة.. ولصالح مَن؟! غير أنه ومن مجمل ما يمكن قراءته من طرح هذا الشعار أن المقصود بهذه الدولة هي القوى المدنية السياسية التي تسيدت المشهد السياسي منذ العام ١٩٥٦م وهم في الواقع جماع أحزاب الأمة وكيان الأنصار والاتحادي بكل تفرعاتهم والإسلاميين بمختلف أطيافهم ومشاربهم واليساريين بشيوعييهم وبعثييهم وناصرييهم وكل من تواجد في تلك الدولة تاريخياً من طرق صوفية ونقابات فئوية وكافة أبناء الشمال النيلي وأبناء الغرب ممن يسمونهم (الزُرقة) وأبناء الشرق قاطبة لصالح القوى الإثنية التي يمثلها الجنجويد من أعاريب أفريقيا جنوب الصحراء الهائمون على وجوههم بلا دولة. والذين يحاربون اليوم الجيش السوداني بوصفه أيضا أحد ركائز وممسكات دولة ٥٦ وكل ما يتصل بملامح ومقومات تلك الدولة من طبقة وسطى قوامها الرأسمالية الوطنية في المدن الكبرى خاصة في الخرطوم والذين تعرضت ممتلكاتهم ووسائل انتاجهم، ومؤسساتهم العلمية والثقافية ومراكزهم المالية وبيوتاتهم التجارية لتخريب متعمد وممنهج تمهيداً لتصفية دولتهم التي بنوها منذ العام ٥٦.
الواضح أن هذا الشعار الشعبوي شعار قد تم سلقه على عجل، فهو لا يرتكز بنية فكرية يستمد منها مشروعية طرحه، فعلاوة على هلاميته، فإنه يقوم على كراهية مضمرة لكل ما هو تاريخي في السودان. أو قل هو تجسيد لكراهية السودان التاريخي منذ ٥٦، وهو في نهاية التحليل أداة لتسويغ وتبرير سلب الآخرين حقوقهم وممتلكاتهم وتوزيعها كغنائم على المحاربين من الجنجويد ولمهمشي المدن مِمَن عُرفوا "بالنهابة" الذين يأتون على ما تبقى من ممتلكات المواطنين والذين يظهرون بشكل منسق ومريب في أعقاب كل عملية سطو استابحوا فيها كلما يمت لدولة ٥٦ بصلة.
د. محمد عبد الحميد
/////////////////////

 

آراء