شعار لا للحرب.. نقص القادرين على التمام

 


 

 

عادة ما أقول لطلابي في دراسات الكوارث أن الكوارث من صنع الإنسان أشد مُضاءاً من تلك الناتجة عن أخطارٍ طبيعيةٍ. وأستدلُ على ذلك بالآية الكريمة في سورة الروم (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) وأبرز تلك الكوارث هي الحروب والنزاعات المسلحة نظراً لما تفرزه من مخاطر متعددة من فَقدٍ في الأرواح والممتلكات ودمار واسع النطاق و نزوح ولجؤ وفقدان لوسائل سبل كسب عيش السكان وقطع خطوط الإمداد فضلاً عن الترويع والصدمات النفسية... الخ.
فالحرب ككارثة هي الإختلال العميق في التوازن بين المؤسسات، ويمكن وصفها بصورة أكثر تبسيطاً بشخصٍ قام بضرب مياه ساكنة بعصاه فتهيج في كل الإتجاهات بحيث تختلط حتى يعمها الكدر. غير أن أخطر ما فيها من مظاهر فإنها تعمل على تراجع (الأدوار العادية) وتجعل القياد في يد من يجيدون فنون الحرب أي العساكر المتقاتلين حيث لا يعلو صوت فوق قعقعة السلاح.
مهما يكن من أمر وفي إطار الحديث عن الحرب، هنالك مسلّمة أساسية يجب إبرازها وهي أنها أي الحرب كظاهرة تمثل الوجه الآخر الخفي للإجتماع البشري، وتظهر عادة عندما تخفق وسائل الحوار السلمي الديمقراطي ليتحول لحوار مختلف قوامه البندقية ومنطق القوة.
وعادة ما تُستتبع الحرب بنوع من التشويش في التفكير لدى القطاعات الأعظم من المجتمع، بحيث يفقدون القدرة على التفكير المتسم بروح المبادرة وهذا هو المقصود بما أسميناه تراجع الأدوار العادية فيؤثِر الكثير من الفاعلين المجتمعيين الإنطواء داخل ما يسميه ستيفن آر كوفي في كتابه الأشهَر (العادات السبع للناس الأكثر فعالية) دائرة الهموم، مقصلين دائرة تأثيرهم لأقصى مدى إيذاناً بالإنسحاب من المجال العام، مفسحين إياه أي المجال العام للممسكين بالزناد. وهذا بالضبط ما ينطبق على واقع القوى المدنية في السودان والتي وعندما إندلعت الحرب راحت تنطوي على ذاتها مقلصة دائرة نفذوها لأقصى مدى مقابل كم الهموم التي تواجهها سياسياً واجتماعياً وحتى أخلاقياً.. فأنسحبت من دورها المتوقع أن تلعبه لصالح شعار طرحته دون أن تحدد له آليات فعل مناسبة يجعلها في مركز دائرة التأثير، كان ذلك الشعار هو (لا للحرب) جمعت على إثره التوقيعات من مختلف الشخصيات المستقلة والقوى السياسية والمجتمعية. فبرغم أن هذا الشعار قد ينطوي على موقف أخلاقي رافض للحرب بالكلية، إلا أنه يعبر عما يمكن وصفه ب (نقص القادرين على التمام). كما أنه كشعار تتجمد فاعليته عند نقطة إندلاع الحرب في أيامها الأولى، وهو موقف يمكن أن يُفهم على أنه رافض للحرب بالمطلق غير أنه وبعد أعطت قوات الدعم السريع الحرب طابعاً " قذرا" Dirty dimension بإتخاذ منازل المواطنين والمقرات والأعيان المدنية خاصة المستشفيات ملاذات لها في المواجهات الحربية، وعمدت الي الإتجاه نحو السلب والنهب في وضح النهار فإنتفت عنها أهم الصفات التي تميز الجندي المحترف وهي صفة الإنضباط Discipline ليصير شعار لا الحرب شعاراً متجمداً عند لحظة إندلاع الحرب، ولا يُمكّن صاحبه من مواكبة تطورات الموقف اثناء مجريات الحرب، فيحوله من المحايد الاخلاقي الي المحجم السلبي عن ذات فعل الإدانة Negative abstainer. وهذا في حد ذاته موقف يثير الإستهجان خاصة وأن درجة الانتهاكات من جانب الدعم السريع صارت أشبه بالإستراتيجية المدروسة ... لكل ذلك فإن شعار (لا للحرب) هو مجرد إنسحاب من دائرة التأثير لدائرة الهموم كما يؤكد ستيفن كوفي.
لذلك فالموقف الأقوى والأدعى للتأثير هو رفع شعار (لا للجنرالات وأشباه الجنرالات) بكل ما يمثلونه من مصالح وهذه الأخيرة هي الأهم في كلما يتصل بالحرب على أقل تقدير في السياق السوداني.. فالحرب الدائرة الحالية في نهاية التحليل هي الأداة الفاعلة في يد حفنة من الجنرالات وأشباههم لتحقيق مصالحهم، شنوها على بعضهم البعض عندما تضاربت تلك المصالح، لذلك فإن توخت القوى المدنية لنفسها فاعلية أكثر فعليها أولاً أن تؤكد على ضرورة إبعاد الجنرالات وأشباههم من المشهد السياسي إبعاداً تاماً كخطوة أولى ليس فقط لوقف الحرب، وإنما لضمان افساح المجال للعمل السياسي الذي يقوم على أسس الخلاف المؤسٍس أصلا للسياسة، وسيكون في ذلك تكفيراً للخطأ الجسيم الذي نبه له الراحل علي محمود حسنين بُعيد نجاح الثورة. ومن ثم نفي كافة مظاهر العسكرة عن الحياة المدينية بما في ذلك المؤسسات ذات الطبيعة العسكرية المتواجدة داخل المدن.
جديرٌ بالذكر في هذا المقام أن المفاوضات التي تجري في جدة بين الجنرالات وأشباههم المتقاتلين حالياً وبإستبعاد القوى المدنية منها بل وتأمينها على ترك الحوار للمتقاتلين لن تعدو كونها نصب فخ Trap setting يتم من خلاله إعادة تمكين سطوة ووجود الجنرالات وأشباههم في المعادلة السياسية مستقبلا بصورة تفرض وجودهم فرضاً على القوى المدنية المغلوبة على أمرها سياسياً والمشوشة فكرياً وخصماً على آفاق سلام لن يضمن أحد - في ظل وجود الجنرالات وأشباههم القدرة - على إستدامته.
د. محمد عبد الحميد

 

آراء