شعوبنا لا تقرأ … لكنها تتوسأب بإسهاب!
بدويات - صحيفة أخبار اليوم
من منّا لا يعرف أن القراءة كنز ثمين وسر نهضة الأمم ودعامة أي نجاح في نهج التقدم في المنظومة الإنسانيّة. إن آفاق هذه العالم بلا حدود، تتجسم في هالات من نور، كلما نهل القارئ من معينها، تبدت له أسرار الدنيا في أحلى أثوابها. القراءة ناموس من نواميس الحياة بل سفينة تحمل كل من امتطاها إلى بر الأمان فلماذا لا نصاحب ركبها وركب الأمم التي وصلت درجة لا توصف من الرقي بفضل اتساع آفاق شعوبها عبر العلم والمعرفة التي سخروها لهم حتى تكون في متناول الجميع.
لقد كنت بالأمس أتجول في قلب مدينة كونستانس الألمانية فإذا بي أجد في الساحة العامة مكتبات ضخمة في شكل سيارات، وفي منتصف الساحة انتصب مسرح لإلقاء محاضرات وتقديم الكتب، ومن ثمة أرفف وخزانات للكتب متنقلة تجدها في كل ركن من أركان هذه الساحة والأجمل – وحتى لا يقتعد الناس أرض الساحة - أحضر القائمون على الأمر مساند، كراسي طويلة ومراجيح تهافتت عليها الخلوق وانغرسوا بداخلها في وحدة ووحشة إلا من كتاب.
هذا الكنز: القراءة، عالم حقيقي تتفتح بنوره الألباب، وتتسع بلبناته المدارك وتنداح بموسوعيته سحب الليل البهيم وتنجلي إلى ما لا نهاية، فيجد الفرد منّا نفسه أمام وسيلة ثرّة من الإلهام العلميّ ومن المعرفة النورانيّة اللتان تمكنانه بدون أدنى شك أن يغيّر سراط حياته وحيوات من حوله إلى الأفضل. فنحن في غدنا المشرق نحتاج لهذه الوسيلة لنبتعد عن الإسهاب في اللغو داخل مجموعات الواتساب الوهمية التي شغلت العالم العربي بأثره عن مسؤولياته وبالأخص شغلته عن إعمال العقل والمشاركة في تنمية مجتمعاتنا في ظل المنظومة العالمية التي تنشد رقي الخلق والخلائق.
إنه يا سادتي ورغم أهمية القراءة والكم الكبير من الإصدارات العالمية التي هي في متناول الجميع عبر شبكات التواصل الاجتماعي وفي دهاليز الإنترنت إلا أنّ هناك تراجعا ملحوظا في مستوى القراءة في جميع الدول العربية، وهو ما أكده خبراء اليونسكو. والسؤال الذي يطرح نفسه كيف يمكن أن نعالج هذه الظاهرة السلبيّة؟ وبادئ ذي بدء ما هي أسبابها؟ أهو وجود كل أفراد الأسرة طوال اليوم داخل مجموعات الواتساب وفي الفيس بوك؟ هب أن بعضهم يقرأ في هذه المجموعات، فماذا يقرأ؟ وكيف يمكن لنا أن نحث صغارنا وكبارنا على حد سواء ونشجعهم على القراءة. لم أر بين الألمان هذا الاهتمام المتفاقم بمجموعات الواتساب! وإن كانت لهم مجموعة فتجد أن التعامل معها تحده الجدية والحرص واختصار المضامين. لا بأس أن كان الإنسان داخل مجموعات ترسل المفيد اللطيف الذي يخفف على المرء حدّة الروتين اليوميّ لكن لابد لنا أن نناقش الفرط في التعامل معها، فمشاكل الاستعمال الخاطئ لشبكات التواصل الاجتماعي ستؤدي، إن لم نتداركها في السنوات المقبلة، إلى كارثة معرفيّة حقيقية لا تحمد عقباها. لذا يجب أن نتدارك خطورة الظاهرة وينبغي علينا أن نضافر الجهود حتى نجد الحل الناجع لها وأن نحث أطفالنا، من جهة أخرى، إلى الخروج من العالم الوهمي في النت إلى عالم الحقيقة: الرياضة، الموسيقى، المكتبات، دور الشباب، الخ. وأن نسلحهم بطرق التعامل السليم مع شبكات التواصل الاجتماعي لأنها سلاح ذو حدين.
لا يخفى على أحد منّا أن بلداننا في العالم العربي تواجه بأثرها تحديات ثقافية، اجتماعية، سياسية واقتصادية لا يتسع المجال لذكرها في هذه السانحة. فنحن نعاني كل يوم من صعاب ومشقات وحواجز بنيناها بأنفسنا. منذ استقلال الدول العربية باسرها والإنسان العربي في صراع دائم نحو الأفضل. فها هي ذا دول نامية عديدة قد أطلقوا العنان، في غضون بضع سنوات عجاف، لنهضة تبحث عن مثيل. فلنسأل أنفسنا بصدق وأمانة عن دورنا في منطقتنا وعن دورنا في العالم بين الشعوب التي نشير إليها الآن بالبنان. الإجابة، لا شيء. نحن نشير إليهم بقلوبنا ونعتز بأعمالهم في بلادنا، فالجسور والمصانع ومحطات الكهرباء والمطارات وحتى مستلزمات الحياة اليومية نستوردها منهم دون أدنى حرج؛ نأكل من بيرغر كنج وماقدونالد ونشرب الكوكاكولا ونغسل بمستر بروبر ونركب النيسان والتويوتا. لكن إلى متى تبقى الأحوال على هذا المنوال، ألا نريد رقيا لشعوبنا؟ ألا ننشد مستقبلا نيرا لأبنائنا؟ فكل بلد من بلادنا العربية تعاني من قلة المستوى المعرفي، مثلها مثل دول العالم الثالث؛ كلنا نعاني ضعفاً في معدَّلات النمو في حصة الفرد من إجمالي الناتج المحلي، مقارنة بمعدلات النمو في اقتصادات الدول المتقدمة في آسيا وأروبا. بيد أننا الأسرع نمّواً في العالم من الناحية السكانية. هذا يعني أننا ننمو سكانيا ولكن لا فكريا، فأين العقول العربية التي تنال جوائز نوبل في العلوم؟ أين المؤلفات العربية في المكتبات الغربية؟ أين الكتاب العرب، أين المثقفون العرب؟ أين نشاط الترجمة الذي عرفناه في القرون الوسطى في الأندلس وفي دار الحكمة ببغداد؟ أين نحن من تعاليم أدياننا الحنيفة، كالنظافة والرفق بالحيوان والرفق بالبيئة، والإتقان في العمل؟
لابد أن يكون بكل فرد منّا نار مستعرة، متقدة وعارمة راغبة في بناء مستقبل أفضل لشعوبنا وأهلنا الذين مازالوا يعانون من مشاق تتعلق بأبجديات الحياة اليومية، من قلة المعرفة والتوعية والرعاية الصحية والاجتماعية، وشح الماء النظيف، وقطع الكهرباء وندرة المواد التموينية، وشح الأجر وهبوط مستوى التعليم الأكاديمي والمدرسي وسوء البنى التحتيّة من شوارع، جسور ومواصلات حديثة. يجب علينا تحويل التحدِّيات إلى فرص حقيقية، لكي نصل إلى بر الأمان رافعين رؤوسنا بين الأمم بأعمال ثرية، واضعين بلادنا وشعوبنا وحب العمل والخير لها في قلوبنا، متطلعين إلى مستقبل أفضل وحياة تتسم بالإخلاص في العمل والإتقان في كل المجالات الحرفية، التعليمية والعلمية.
إن نجاح شعوبنا ورقي بلادنا يرتكز على توطيد وتأسيس مناخ معرفيّ شامل وعلى تعليم وتحفيز وتنشِئة براعم اليوم وقواد الغد إلى بناء مستقبل أفضل.
نشر في صحيفة أخبار اليوم – الجمعة ٩/٨/٢٠١٩
Mohamed@Badawi.de
///////////////////////////