شكراً طه سليمان وشكر الله وأحمد الصادق وأقرانهم
عكس الريح
moizbakhiet@yahoo.com
شباب يأتي من خلف طاقات الواقع ودفقات الحس الإنساني الذي لا يحتمل انفصال الذات ويحدث النفس بشفافية الحضور ونبض الشارع. هؤلاء المطربون لهم أصوات رائعة ولهم جماهير تهيم بحبهم ولهم لغة يفهمونها ويعبرون بها عما يجيش بدواخل جيلهم ولا يأبهون لمنتقديهم وواصفيهم بالهبوط والإبتذال والذين يقارنونهم بعبقرية الكاشف وعثمان حسين وأحمد المصطفي ووردي وود اللمين والكابلي، وبتفرد عركي ومصطفى سيد أحمد وبقية العقد الفريد.
هؤلاء الشباب الذي يمثل هذا الجيل هو أصدق تعبير لما نحياه الآن من عيش يستمد الوعي من كبرياء المدى، ويسترعي لقمة العيش من صهباء الوجد، وينام على بساط السؤدد الموشح بعتمة المستقبل ويرفض الخلاص تحت براثن الغضب المزيف من حراس الماضي.
طه سليمان، شكر الله، أحمد الصادق، أحمد بوتسودان، قرقوري، سامي عز الدين، نزار المهندس والقائمة تطول، لم يأت احدهم من خلف الشمس كقبطان ليحدثكم عن الحبيبة التي تغزل منديل حرير أو عن ليالي المصيف وفراشه الحائر بين شجن وبين قصتنا وبعد الصبر أو خيال الشعر حين يرتاد الثريا في ليلة المولد يا سر الليالي أو معبدي القدسي بين طيات السحاب. فإن رحلنا بعيد نهوى أوطانا حين تستعصم بالبعد عنا سماء الحلم وحين نصلي صبح الخلاص حاضراً بعد عودة الطيور الما بتعرف ليها خرطة ولا في ايدا جواز سفر.
مالهم وهذا الهراء الإبداعي والوطن يستنشق زفير الموت ويستحم بزيت الضياع ويستخلص حليب البؤس من ضرع المهانة. نعم.. انظروا لأغنياتهم كيف يطرب لها جيلهم حين ننبذها نحن دون وجه حق! كيف نستلهم دواعي الإلفة حين نهرب من مصيرنا وتكون غاية الأمال قطعة خبز وبعض ماء، وهم في غيهم يبدعون؟
أغنياتهم ليست هابطة ولا منحطة، لكن الهابط والمنحط هو هذا الزمن الذي نتوسده حريقاً ونحن من أشعل عود ثقابه وصب عليه زيت الخنوع. هؤلاء الشباب عرفوا كيف يروضونه ويعيشون مع ظلامه بنور الحاضر بينما نتدثر نحن بالظل والنهار قيام.
فلنستعرض ما يصدحون به ويغنونه فيجد في صدور محبيهم هوىً عميقاً واستحساناً يجعلهم يترنمون بألحانه ويسهرون معها حتى مطلع العبق ومرقد اليقين. وهنا بعض الأمثلة:
شلت من سودانا بيرة..
خليتا ميناء بلا ذخيرة
في هذا المقطع الساحر تنساب المعاني الراقية فتعلمنا أن جعفر نميري حين حطم زجاجات الخمر وألقى بها في مياه النهر لم يقم بالدعوى على الوجه الأكمل ولم يعدل حينها فأصبح لا رصيد لنا ونفذت ذخيرتنا من البيرة الجيدة فأصبحنا نتناول العرقي الملوث بالميثانول.
مثال آخر:
بتقتلونا وتقعدوا
يا السمحين هوي أهدوا
أنفلونزا السماحة
دي ماجابت الراحة
فضوا عنبر جراحة
للعيانين يرقدوا
وهنا حديث يحمل عمقاً ساحقاً يخاطب المسئولين عن الصحة بأن أنفلوزنا الطيور والخنازير على الطريق وأنها ستنتقل عن طريق الفتيات الجميلات لأن مثل هذه الفيروسات تعشق الجمال وتعيش عليه وحيث أن الفتيات الجميلات أصبحن كثر بعد انتشار مساحيق التجميل والتبييض فصرن بذلك خطراً على الصحة العامة يجب محاربته حتى لا نموت بالانفلونزا بينما يعشن وحدهن بلا رجال فيختل التوازن البشري في وطننا الحبيب، ونحن بصراحة ما ناقصين اختلال توازن.
وهنا تعبير جميل آخر:
أنا كنت قايل حبك اسطورة
دا انت طلعت ماسورة
المعنى يشير لأن الحب الحقيقي أصبح كالأساطير لا وجود له وأن العشق أصبح ملوثاً كماء المواسير والحبيبة أصبحت مجرد حنفية محلوجة، ويطالب الشباب المبدع هنا باسقاط الخداع في الحب وتغيير النظام العاطفي.
وهنا رائعة ذات أبعاد سداسية:
وانا في نومي بتقلب
حرامي القلوب تلب
بدل يسرق قروشنا
سرق قلبي المعذب
وهذا تحدي للمسئولين عن بسط الأمن الشامل والسواري وبوليس الحركة الذين يجب محاسبتهم عن التقصير في محاربة هذا النوع من الإجرام حيث يتركون الحرامية يتلبون من على الأسوار ويكشفون أسرار البيوت والأجساد عارية ويكتشفون أن المحبوبة تتقلب في نومها وهو أمر جد خطير على صحة الحبيب والحرامي في نفس الوقت.
الآن انظروا لهذه الدعوة المقدسة:
نحن شلة شفاتة
بنحب تلاتة تلاتة
ما نحن الريدة ذاتها ..
نحن شلة حبيبة
في اليوم مية حبيبة
ومرات بنحب كتيبة
الله أكبر.. هم هنا يدعون للتعددية ويخاطبون وجدان الأمة وينادونها بالمحبة أن تتجرأ لتمارس الحب الجماهيري.
ثم لم يغب عن فطنة هؤلاء المبدعون الأحداث السياسية الراهنة خاصة في ظل انفصال الجنوب حين قالوا:
اشتقت ليك يا منقة
اشتقت لي صفقك
وهوي يا باغة العسل
الله فيني دفقك
المعروف أن المنقة هي فاكهة استوائية وفي الأغنية حنين لجنوب الوطن بمنقته المنقة والذي انفصل عن بقية الجسد الواحد، والصفق تعبير عن الغطاء النباتي الذي افتقدناه بينما العسل يشير إلى قناة جونقلي.
أما الروح الثورية المتفجرة فهي تتجسد في هذه الأبيات القوية والتي أعتبرها أعظم ما كتب في أدب المقاومة في هذا العصر:
عمليتك ما ظريفة
وحركتك جبانة..
هنا مباشرة استدعتها التطورات الأخيرة في بعض مناطق البلاد، فما حدث من تآمر في أبيي وتمرد في جنوب كردفان هو عملية أبداً ما ظريفة وحركة جبانة من الناس الحرشوهم.
كما ارتبط هؤلاء الشباب بقضايا الإبداع في الوطن، وحيث أن الدراما هي خير وسيلة للمعرفة بين الشعوب فقد تناجى مطربونا بذلك حين قالوا:
لو قايلة ريدتنا زي مهند ونور
تبقي عيانة وشوفي ليك دكتور
يعني هسة انتي عايشه الدور
هسة في الذمة انتي تشبهي نور
وهذا نقد واضح وصريح للدراما السودانية وبعدها عن التأثير الإقليمي والعالمي مما يستدعي الإنتباه إليها والبحث في مواطن الخلل بها ومن ثم تقديم العلاج الناجع من أطباء المسرح.
وتتواصل الإهتمامات لدى هؤلاء المبدعون فيستعرضون إحدى القضايا الإجتماعية الملحة حين يترنمون بهذ الأبيات العذبة:
لو مصدق الحدثك
أضربني بمسدسك
لو مصدق قول الناس
أملاني أنا رصاص
فهذه محاولة جادة وعبقرية لشن حرب ضروس على العادات السيئة في المجتمع مثل القوالات والوشايات، ولعل هذه الأغنية تكون امتداداً اصيلاً لرائعة المطرب الكبير حمد الريح: شالوا الكلام زادوه حبة جابوه ليك.
أما الأغنية التي تقول كلماتها:
أولاد قلّبه
لو قمنا حسة بنقلبه
تزيد وتكتر
هسة فوق راسك بنطربقة
فهي تحمل إشارات واضحة وبها لفت نظر للقوى الأمنية بأن الشباب قد يحدث التغيير خاصة وأن ربيع الثورات العربية لا زال مستمراً ومثل هذه الأغنيات لها عمق استراتيجي هام يجب الإنتباه إليه.
كما تطرق هؤلاء المطربون للمجال الرياضي فأحسنوا القول في هذه الكلمات الرشيقة:
دخلني تشكيلتك
ما تسيبني في الكنبة
ألعب بي جوكر
شان تكسب اللعبة
فبالتالي لم ينس هؤلاء الشباب حال كرة القدم وحال التدريب لأن الفريق لابد أن يلعب كرة قدم مفتوحة وأن اللاعب يجب أن يكون قادراً على اللعب في أي خانة وهو ما عناه الشاعر باستخدامه لكلمة الجوكر بذكاء فطري يحسد عليه، ومثل هذا اللاعب المكتمل يجب ألا يجلس في مقاعد البدلاء حتى لا تنهار معنوياته فينهار بالتالي مستوى الكرة لدينا.
ومسك الختام هذه الأبيات المدهشة والتي حقيقة يقف المرء عاجزاً عن التعبير أمام سحرها المبين. تقول الأغنية الخالدة المخلدة:
افتح الجزرة
وكب لي عشرة
التنك اتملا
(معذرة للقراء ما بقدر أكمّلا)..
ولا حول ولا قوة ألا بالله العلي العظيم وإنا لله وإنا إليه راجعون..
مدخل للخروج:
قنبلة.. قالوا احتمال تنفجر.. بقيف معاك والله ما بجر.. ما بفيد الصد والهجر.. والبتحصل أنا بقبلا.. قنبلة.. سماحة الزول في الطول والعلا.. قنبلة.. العيون سلاح الموت.. والخشيم دا كاتم صوت.. في الجو وبالبرشوت.. جيوشك عليَّ انقلا.. قنبلة.. السنون زي در وبلّي.. والخد مسدس ستة ملّي.. يا عيوني ما تملّي شوفة العود والسنبلة.. قنبلة.. الإيدين كلاشنكوف.. القوام يشهى شوف.. والحنان المالي الجوف.. (قال ضنين الوعد قال!!! ها..).