شهادة جدتي الجامعية

 


 

 

شهادة جدتي الجامعية
My Grandmother’s Degree
ليلى أبو العلا
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

تقديم: هذه محاولة لترجمة قصة قصيرة للروائية ليلى أبو العلا، أُذِيعَتْ في يناير من هذا العام في القناة الرابعة لهيئة الإذاعة البريطانية (https://www.bbc.co.uk/sounds/play/m001vbxd).
المترجم
********** ********** **********
قالت لي جدتي: "إن نجح خالك في الامتحان، فسأهديك هذا السوار".
وضعت السوار في يدي وأنا أداعب أَخَادِيديه ونعومته، واستمتع بوزنه؛ ثم أرجعته لها. لم تُعْلَنْ بعد نتائج امتحانات العام الأول في كلية الطب. كان علينا جميعا انتظار النتيجة، وكانت جدتي فيما يبدو تنتظر النتيجة بترقب يفوق ترقب خالي نفسه. مر عليها زمن كانت هي نفسها تطمح في أن تغدو طبيبة، غير أنه كان عليها حينها أن تهجر التعليم عندما تزوجت. لم يكن هذا هو اختيارها، بل كان من باب الشعور بالالتزام. وكان الافتراض هو أن ذلك هو الشيء المتوقع فعله في القاهرة عام 1940م. وبقيت في نفسها حسرة وندامة من فقدانها لفرصة تحقيق حلمها في أن تصبح طبيبة. وكانت أعظم أمنياتها هي أن يصبح ولدها (خالي) طبيباً عوضاً عنها، بعد أن أخفقت هي في تحقيق ذلك الحلم. سيغدو اسمه في كل مكان ومع كل شخص مسبوقاً دوماً بكلمة "دكتور"... مع حماته في المستقبل، ومع البواب وغيره. وكانت جدتي تشير إليه بـ "الدكتور" لكل فرد أو مجموعة تقابلها.
لا يكبرني خالي سوى بإحدى عشر سنةً. وكان خير رفيق لي في الملاعب وأحواض السباحة. كنا نبني معاُ قلاعاً من الرمل على شاطئ البحر. وكنت - وأنا معه – لا أخشى من أمواج البحر العاتية. غير أن خالي كان يبدو أكثر صمتاً وانزواءً وهو في البيت. وكنت ألعب معه الورق عندما يكون مزاجه معتدلاً، وكان يسمح لي بالتَّفَرُّجِ على غرفته، وأن أقلب في أسطوانات فرقة الخنافس، وصور ورسومات الهياكل العظمية وغيرها في كتبه الطبية. وكان عندما يتلقى محادثات هاتفية من فتيات، يحمل جهاز الهاتف إلى غرفته ويغلق على نفسه الباب، بينما يبقى سلك الهاتف يتلوى خارجاً من تحت الباب. كنت أخطو بحذر على أطراف أصابعي إلى غرفته، وأنصت من الخارج إلى همهمة صوته. وخمن خالي ذات مرة بأني أحوم حول غرفته، فصاح بي محذراً من خلف الباب فنَسَلْتُ عائدةً إلى حيث كانت جدتي التي تستهجن فتيات الهاتف لأنهن كن يَصْرِفْنَ خالي عن دراسته.
وأنا أكتب هذا النص، أرى أنه من المستحيل تصديق أن جدتي كانت آنذاك أصغر مني الآن. فقد كانت سيدة محترمة وتبدو متقدمة في السن، لم تتقافز في صالة الألعاب الرياضية، ولم تقف في طوابير المطارات، ولم تجرب الملابس في المتاجر. لقد شعرت بمرارتها الكريمة لأنها كانت ربة منزل عندما كانت قادرة على فعل ما هو أكثر من ذلك بكثير. كانت تتمتع بهالة من الحكمة، لأنها أدركت العواقب طويلة المدى للخيارات. وكانت لها مواقفها الخاصة التي أعلنت التالي: "أنا ملكة بيتي، أكثر ملكيّة من أن أخوض في صخب الشوارع وضجيجها". ولم تكن جدتي تخرج من شقتها إلا في مناسبات نادرة وعن قصد وتخطيط مسبق. كنت أفكر في جدتي كثيراً إبان أيام الإغلاق بعد انتشار فيروس كورونا. كان العالم بأسره قد شرع فجأة في تطبيق أسلوب حياتها؛ الرجال والنساء والأطفال يملؤون أربعة جدران بالحياة وتبادل الأحاديث، وينظرون من النوافذ ومن الشرفات. لو كانت جدتي على قيد الحياة في عام 2020م، لكانت قد قرأت كل شيء عن فيروس كورونا وطرحت الكثير من الأسئلة عنه بشغف شديد. تخيلت أنها كانت ستخيط الكمائِم (أغطية الوجه) وتصنع وصفاتها الخاصة لمعقمات الأيادي المضادة للجراثيم. كانت ستكون شديدة الاهتمام بالنظافة والصحة العامة، وتَغْدُوَ مهووسة بتعقيم كل شيء. لقد كانت هي من تقول دوماً: لا تشارك الآخرين في المناشف، ولا تستخدم المراحيض العامة، ولا تقبل المَوَاليد أبداً على وجوههم خشية أن تنقل لهم الجراثيم.
ظهرت نتائج امتحان خالي وعُلقت على لوحة الإعلانات بالجامعة. تجمهر الطلاب حولها ليُروا درجاتهم ودرجات زملائهم. كل شيء مكشوف في العلن... الناجحون والراسبون، الرابحون والخاسرون. وعند كل أفراد عائلتنا، كان التحرك من مرحلة التوقع إلى مرحلة خيبة الأمل يتصف بخصلة البطء في الحركة. والأمل متجمد في الأوردة والشرايين.
لم أحصل على السوار الموعود. كان ذلك واضحاً جداً. لم يكن هناك صراخ أو مشاهد قبيحة. وكان من شأن ذلك أن يسليني – كنت من ذلك الصنف من الأطفال. وعوضاً عن ذلك، أظلمت الشقة وثقل فيها الهواء وغدا بطيئاً، وأغلقت مصاريع الشقة، وحُجِبَ ضوء الشمس عنها. لا أعتقد أن جدي كان سيمتنع عن الذهاب للعمل، أو أن جدتي ستتوقف عن الطبخ، غير أن الإحساس بالسقم والاعتلال أصاب كل أفراد العائلة. خطواتي الناعمة في الممرات، حذرة من مزاج الشخص البالغ خلف الباب، وأشعر بالملل، وأرغب في جذب الاهتمام الحميد أو الإلهاء. ولزم خالي غرفته. وعندما كنت أحوم بالقرب من باب غرفته، لم أعد أَسْمَع أغنيات فرقة الخنافس. وبالطبع لم يعد من المتوقع أن تتصل أي فتاة به.
ثم بدأت جدتي في الحديث معي وكأنها تتحدث مع نفسها. ألم يكن بمقدوره أن ينجح، حتى بدرجة منخفضة؟ مثل ما حدث مع أصدقائه. في كل فصل ينجح الطلاب، ويحرز معظمهم علامات تزيد على درجة النجاح الدنيا المطلوبة. ويحتاج القليل من الطلاب إلى إعادة الامتحان. ومن بين هؤلاء يسقط القليل من الطلاب فيمنحون فرصة إعادة العام الدراسي. وهناك حتى من يرسب في امتحان السنة التي يعيدها، وهؤلاء – لا قدر الله – يستنفدون كل الفرص، ولا يُعْطَوْنَ فرصاً أخرى. ويتواصل تسابق أفكار جدتي. يمكنها أن تتخيل ابنها وهو يتصاعد ويلتف حول نفسه كالحلزون. لن يحقق الآن حلمه؛ لن يغدوا دكتوراً أبداً.
وأعادت جدتي عن طريق الهاتف ذلك الخبر على مسامع أفراد العائلة والأصدقاء وعيناها تفيضان بالدمع. وعندما تسللت إلى حيث مجلسها لم تلحظ وجودي. زحفت نحوها وجلست بالقرب منها، حتى أتمكن من احتضانها، ولوي أجزاء من فستانها، واستنشاق رائحتها، وامتصاص آلامها. كنت أسمع الردود المتعاطفة التي تتلقاها عبر سماعة الهاتف. وفي بعض الأحيان، كانت تربت عليّ بطريقة تلقائية غير واعية، وفي أحيان أخرى كانت تتخلص من وجودي وتتركني محرومة من البقاء بجانبها. لقد كانت شديدة الإيمان بولدها، وأن بإمكانه أن يفعلها، وأنه قادر على ذلك. ألقت باللوم على نفسها، وبطريقة ما قالت إنها ربما كانت السبب فيما حدث، إذ لم تسنده وتقف إلى جانبه بما يكفي. ذلك كان هو القدر المحتوم وما من سبيل لتغييره؛ قدر أن نتيجة الامتحان من الحقائق التي لا مجال لتحويرها. والآن، ما العمل؟
فرض جدي علينا صيفاً قاسياً، ليس فيه ذهاب للشاطئ أو لأي نوع من المرح والتسلية. وعوضاً عن ذلك جلب لخالي مدرساً خاصاً وجعله ينكب على دراسته طوال اليوم استعداداً للملاحق (إعادة الامتحانات). كانت كلمة "الملاحق" تُنْطَقُ همساً من فرط العار وشدة الألم. وحُرمت أنا أيضاً من الشاطئ، فقد كان علينا جميعاً أن نتساوى في الحرمان. كان على الجميع بذل جهود فورية ومتضافرة إذ أن هذه هي الفرصة الأخيرة. وإن أخفق خالي في تلك الامتحانات المعادة، فإن عليه إعادة العام الدراسي، وأن يدرس فيه كل المواد من جديد ويجلس للامتحان فيها، حتى تلك المواد التي سبق له النجاح فيها! شرحت لي جدتي أن خالي سيكون في فصل دراسي طلابه أصغر منه سناً، وهذا ما سيصيبه بوصمة، علاوةً بالطبع على التكلفة المادية الإضافية. كان ذلك من الأمور التي لا يمكن تخيلها، ولم تحدث قط في عائلتنا من قبل. كان هناك ضغط شديد وتركيز على النجاح في الامتحانات النظرية والشفهية كذلك. الشفهية. ظللت أجرب ترديد كلمة "الشفهية" مراراً وتكراراً، فهي كلمة تفيض بالاحترام الذي تخالطه الرهبة. كان خالي يمقت الامتحانات الشفهية، فقد كان عليه أن يواجه الممتحنين المرعبين، وأن يحتمل احتقارهم، ويتجاهل سخريتهم وإجحافهم وتحيزاتهم. غير أن جدتي قالت إنه ما من مفر من تلك الامتحانات الشفهية. كنا جميعا نقف من خلفه، ونشد أزره مستخدمين في ذلك وسائل الترغيب والتهديد والرَشْو.
كنت جزءاً من تلك العملية. السوار. أعلنت جدتي أن بإمكاني الحصول على ذلك السوار برغم كل ما حدث. طلبت مني أن أخبره بذلك. أن أذهب إليه في غرفته وأنا أحمل السوار (ولا ألبسه)، ولكن أن أمسكه بيدي. وأوصتني بأن أريه السوار وأن أقول له: "عندما تنجح في الامتحان فإن جدتي سوف تعطيني هذا السوار". أتذكر جيداً أنني كنت مترددة ومتأبية على أن أفعل ذلك. وأتذكر العسر الذي واجهني في السير نحو غرفته. ففي وسط تلك الأزمة، وإبان كل الأيام السابقة، لم أكن قد تحدثت معه قط عن نتائج امتحانه، أو في الواقع عن أي أمر آخر. هذا بالإضافة إلى أن رسوبه جعلني شخصاً غير مرئي. وفي وقت الأزمة تلك لم يكن لأحد في البيت الوقت الكافي لمشاهدة التصرفات المخجلة أو الردود اللطيفة التي يصدرها طفل. طرقت بابه وعندما دفعت باب غرفته، صرخ في قائلاً: "ماذا تريدين؟"
تمتمت قائلة ويدي ما تزال على مقبض الباب: "لا شيء". وتراجعت للخلف وأغلقت بابه.
سألت خالي وأنا في سن التاسعة والخمسين وهو في السبعين عن ذلك الصيف. لم يعد يذكر شيئاً عنى أو عن ذلك السوار. وعوضاً عن ذلك قال لي بأنه لم يكن يرغب قط في أن يصبح دكتوراً.
فوجئت برده وسألته: " قَطّ؟ ما الذي كنت ترغب في دراسته إذن؟". قال لي أن أحداً لم يسأله أو يستشره عما يريد دراسته. لم يكن هناك وقت يُعْطَى لبحث الأمر، ولم يكن هناك ما يُعْرَفُ اليوم بـ "سنة الفراغ أو الاستراحة"، أو استكشاف الخيارات. لا يعرف خالي أحداً من زملائه استطاع تحقيق حلمه ودراسة ما يتفق مع رغباته وميوله الشخصية. الكل يؤدي واجبه نحو أسرته ووطنه. وقد قام هو بأداء واجبه نحو أمه. كانت قد أعطته الحنان والإرشاد، وكان المتوقع منه أن يطيعها. لم يكن ذلك بالشيء الكثير بعد أن ضحت هي بتعليمها، ووهبت نفسها لرعاية شؤون الأسرة.
يقول خالي أنه لم يرغب قط في أن يصبح دكتوراُ. غير أنه كان بالفعل طوال حياته العملية "دكتوراً". كل يوم وإلى يوم تقاعده المبكر عن العمل عندما توفيت جدتي. لقد حقق لها حلمها ونال درجة جامعية أولى في الطب، بل نال دراسات فوق الجامعية وتخصص، وفتح عيادة خاصة. نال بحق لقب "دكتور". لقد كان ابناً باراً ومخلصاً. وكان هو الطبيب والممرض الخاص لجدتي في شهور حياتها الأخيرة، طوال ساعات اليوم الأربع والعشرين. كان يعطيها بنفسه الأدوية والحقن، ويضمد جروحها، ويصغي باهتمام لشكواها وأعراض أمراضها.
سألته: "وماذا كنت ترغب في فعله عوضاً عن الطب إذن؟"
أجابني: "لا أعرف. لم أكن متأكداً قط مما أريد فعله".
عدم المعرفة وعدم الرغبة كان هو الفراغ الذي رسمت فيه جدتي أحلامها، وجعلت منه ما لم تستطع هي أن تحققه لنفسها. لقد أربكها افتقاره إلى الحماس، وعوزه في الدافع، لكنها تجاهلت كل ذلك. لقد اعتقدت أنه مع قليل من الدفع يمكن أن يصبح دكتوراً، وهو ما لم تستطيع تحقيقه لنفسها. لقد آمنت أن لديه الكفاءة والإمكانات، وأن بمقدورها أن توجهه. لقد كان لديها فيض من الذكريات عن المحاضرات التي حضرتها بنفسها قبل زواجها. أواخر الثلاثينيات. كانت هي إحدى الفتيات القلائل اللاتي قُبِلْنَ في كلية الطب بجامعة القاهرة. جميع الفتيات الجالسات معاً في قاعات المحاضرات يعلمن أنهن متفوقات. لقد نجحت جدتي في اجتياز السنة الأولى والثانية بفرح وبدرجات ممتازة.
وبعد أن أخفق خالي في امتحانات العام الأول، تولت جدتي بنفسها مراجعة الدروس معه – إضافة لما كان يتلقاه من دروس خصوصية. كانت تحرص على قراءة ما يكتبه من مذكرات، وتعود إليها ذكريات الماضي، إلى ما كانت تدرسه باهتمام بالغ ثم تحفظه. كل عظم في جسم الإنسان وكل جزء فيه. لقد ضحت بوقت فراغها وبمدخراتها القليلة. وكانت تطبخ له أطايب الطعام لتشجيعه، وتدعوا له وتشكر الله عندما تجاب دعواتها. وكانت تطلع على أوراق الامتحانات القديمة، وتبتدع طرقاً عديدة لتدخل بعض المرح والتسلية في دراسته ومذاكرته؛ فكانت تساعده على الحفظ بوضع المعلومات العلمية والطبية في شكل أغنيات وأهَازِيجَ، وتوقظه من النوم صباحاً وتغطيه حين يحين موعد نومه وهي تشيد به وتثني عليه وتدعوا له بالتوفيق والسداد وتحقيق الآمال. وكانت تقضي الساعات وهي تستمع لشكواه وتبرمه وتذمره، وتخضع لأهوائه وتفضيلاته، مع قليل من التنمر بين الحين والآخر. وكانت تعيد على مسامعه تهديدات بأنه ما لم يحصل على شهادته، لها ولنفسه، فسيغدوا رجلاً فاشلاً. سياسة الجزرة والعصا. وكان سواري جزءًا من ذلك النهج. لا أذكر اليوم الذي لبست فيه ذلك السوار. اليوم الذي أصبح فيه ملكي. أنا لا أتذكر سوى جدتي فقط. كل شيء عن جدتي. ابتسامتها، استحسانها الذي كان واسعاً مثل الشعاع، يجمعنا كلنا سوياً، وكل شيء على ما يرام وكما ينبغي له أن يكون. الخفة والجذل في صوتها، وكيف كان جسدها يسترخي ويلين عندما أندفع نحو ذراعيها.

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء