شوقى أنا للبلد بى حالا والشوق لى تراب أهلى

 


 

 

 

(5)

 

بدأ القطار يتحرك من عطبرة متجهاً فى طريقه إلى بربر فى تلك اللحظة أحسست بالغربة والإغتراب بعد الإلفة التى نشأت بينى وبين عطبرة وأهلها لدرجة أنى تمنيت أن يستمر عطل القطار بها لوقت أطول .... شعرت بالنعاس يسرى فى دواخلى حتى تملكنى تماماً فأسلمت نفسى له ونمت نومة عميقة لم أستيقظ منها إلا مع نسايم الفجر وإشراقات شمس يوم جديد تملأ سماء هذه المدينة وعندما نظرت للأفق خـــُيل لى أن هذه المدينة مدينة ترمز للسلام وأن هذه الحمائم تحلق فوقنا لتعلن فرحتها بوصولنا إليها ....عندما توغل القطار شاقا أطراف المدينة رأيت الباعة يسابقونه ليصلوا المحطة فى وقت يسمح لهم بعرض ما يحملونه من تجارة يسترزقون منها وبدأ السوق يفتح أبوابه ... وبدأت الحياة تدب فيه رويداً رويدا ... شعرت أن هناك شىء قوى يشدنى إلى بربر ... يجذبنى إليها ... يدعونى أن أقبل ترابها ... أن أتمسح بجدران منازلها ... أن أشم أريج زرعها ... أن أتمرغ على أرضها ... أن أشرب من مياهها ... هذه المدينة هى البقعة التى إنحدرت منها أمى فتحية ... وهل هنالك رباط أقوى من رباط الأم ؟؟ كما حملتنى أمى فى بطنها ترانى اليوم أحمل الأرض التى إنحدرت منها فى دواخلى .....

 

توقف القطار الآن فى المحطة .... نزلت من القطار واتجهت إلى إحدى النسوة اللآتى يترزقن من عمل الشاي ... كانت إمرأة صبوحة ... ملامحها جميلة ... كانت ترتسم شلوخها على خديها زادتها بهاءا ... كانت أدوات عمل الشاى من كبابى وكفتيرة وكانون وحلة لبن فى غاية النظافة .... وكانت رائحة اللقيمات تجذب ركاب القطار نحو المكان ... جلسنا حول هذه المرأة وطلبنا الشاى أب لبن المقنن واللقيمات ودار حوار بينى وبين المرأة التى كانت تجيب على وهى تواصل عملها فأخبرتنى أنها من بربر وحكت لنا الكثير عن المدينة وأهلها وتاريخها ... وعن سيرتها الذاتية حيث أن زوجها قد توفى وترك لها ثلاثة بنات وولدين وقد كانت تعمل هى أستاذة بإحدى المدارس الإبتدائية لكن راتبها لم يكفى متطلبات أبنائها من دراسة وعلاج وكسوة ... حاولت أن تجد عملاً إضافياً لكن ظروفها الصحية لم تسمح لها بذلك وأخيرا فضلت بيع الشاى على الوظيفة عندما رأت أن دخل العمل الحر أفضل من مرتب الوظيفة .. !! مكث القطار ببربر حوالى الأربعة ساعات بعدها أطلق السائق صفارته معلنا إستعداده للرحيل فتسارع الركاب نحو القطار وجلس كل منهم فى مكانه ... نفس الإحساس الذى إنتابنى حين مغادرتنا مدينة عطبرة شعرت به الآن وبصورة أقوى من قبل .... شعرت أنى أريد أن أغوص فى رحم التاريخ لأرى طفولة أمى فى أرض بربر وانتقل معها منذ ذلك العهد القديم إلى لحظة وقوفى الآن بها .... بدأ القطار يتجه إلى أبوحمد مرورا بعدة محطات وسندات وبدأ الشباب فى التجمع والغناء بعد أن إستعادوا نشاطهم وأدار صاحب المسجل شريط الفنان وردى وتصايح الشباب وصاروا يغنون معه بينما كان خيالى يسرح بين كل الأزمان التى مرت بى بكل أفراحها وأحزانها وصرت أردد فى داخلى مع وردى :

 

 

قلت أرحل

 

أسوق خطواتي من زولاً نسى الإلفة

 

أهون ليل

 

أسافر ليل

 

أتوه من مرفا لي مرفا

 

أبدل ريد بعد ريدك

 

عشان يمكن يكون أوفى

 

رحلت وجيت

 

في بعدك لقيت

 

كل الأرض منفى

 

عيونك زي سحاب الصيف تجافي بلاد وتسقي بلاد

 

وزي فرحاً يشيل مني الشقا ويزداد

 

وزي كلمات بتتأوّه.. تتوه لمن يجي الميعاد

 

وزي عيدا غشاني وفات عاد عمّ البلد أعياد

 

وزي فرح البعيد العاد

 

وزي وطناً وكت اشتاقلو برحل ليهو من غير زاد

 

ما أروعك التيجانى سعيد وأنت تعبر عن فراق كل حبيب غال .... إنها لحظات إنهزام ,,, نقف عندها .... نستجمع قوانا ... لنواصل المسير نحو محطة أخرى من محطات الحياة

AHLAM HASSAN [ahlamhassan@live.ca]

 

آراء