شيوعيون عرفتهم: من وحي ذكريات رفيقة (إلى الدكتور صديق الزيلعي)

 


 

 

"وجد كتابي (هل يمكن تجديد الحزب الشيوعي السوداني؟)، الذي صدر في الذكري السبعين لتأسيس الحزب الشيوعي، قبولا جيدا من القراء. ولكن عدد من الرفاق استنكروا العنوان، واستغربوا لدعوة كتاب من خارج الحزب لتقييم تجربته. أعتقد انها كانت تجربة ناجحة، وأتمنى ان نصدر اسهامات مماثلة تشمل كافة القوي السياسية ومنظمات المجتمع المدني" من مقال د. صديق الزيلعي بعنوان " ذكري تأسيس الحزب الشيوعي: وقفة للتقييم وتعلم دروس الماضي" ، سودانايل والراكوبة، 16 أغسطس 2023
والمقال بالعنوان أعلاه ، هو مشاركتي في الكتاب الجماعي الذي صدر في عام 2016 ، بعنوان "هل يمكن تجديد الحزب الشيوعي السوداني"؟ تحرير صديق الزيلعي.
ــ إلى نص المقال:
تعرفت على الحزب الشيوعي السوداني في بداية المرحلة الثانوية عن طريق الصديق جورج، ذي الخلفية القبطية، والذي كان يسكن في حي مكي ود عروسة ويزورنا كثيرا في بيت المال وودارو . كان جورج يتميز بطيبة الخلق ورغم فارق السن بيننا الذي لم يتجاوز العامين كان يدهشني بسعة معرفته. ولاأزال اذكر عندما ذهبت معه عام 1955 الى الندوة الكبيرة التي أقيمت في مكي ود عروسة في حوش واسع، اشبه بميدان الكرة، بمناسبة زيارة سعيد رمضان القائد المصري البارز في جماعة الإخوان المسلمين. وبينما كنت أتابع محاضرة سعيد رمضان بصوته الجهوري والكل في صمت رهيب وقد اصابهم الخدر من سحر كلماته، كان جورج بجانبي يدخن بشراهة وينفث الدخان بقوة فيتطاير سحبا، وكان وجهه محتقنا. سألته هامساً: ما بك؟ فرد بانفعال: الزول جنّد نصفهم. وعلمت بعد ذلك بأنه عضو ناشط في الحزب الشيوعي السوداني وقدير في التمويه والإفلات من قبضة ودالكتيابي، رجل البوليس السري في حينا. كنا نذهب سويا الى دار الجبهة المعادية للاستعمار بالقرب من طاحونة كلبس في حي مكي ود عروسة لحضور الندوات وهناك شاهدت عن قرب الشخصيات القيادية في الحزب الشيوعي السوداني.
حصلت عام 1955 - 1956 على الشهادة الثانوية وتقدمت لجامعة الخرطوم ودخلت امتحان المعاينة ضمن أربعين لاختيار ثلاثين لكلية الطب. وكنت ضمن العشرة الذين أحيلوا إلى كلية العلوم --- وتبخر حلمي الكبير.
منتصف الخمسينيات والساحة السودانية تموج بتباشير وأهازيج الاستقلال وتكوين الحكومة الوطنية بقيادة «أبو الوطنية» الزعيم إسماعيل الأزهري وجامعة الخرطوم معقل النضال الوطني والفكري وساحة المحاضرات والمناظرات السياسية والثقافية من طلابية وحزبية ونحن الطلاب الجدد ننظر بإعجاب واندهاش لهذه الحياة الخصبة الغنية بالمعرفة. ولا أنسى الندوة السياسية التي أقامها اتحاد طلاب جامعة الخرطوم في داره لمناقشة خطاب الميزانية لحكومة الأزهري عندما وقف المناضل الكبير والقيادي في الحزب الشيوعي عبد الرحمن عبد الرحيم الوسيلة يناقش خطاب الميزانية بطريقته الهجومية الصدامية المعروفة ويفند بنودها. ثم جاء دور الحكومة يمثلها القطب الاتحادي البارز والسياسي والمحامي الضليع مبارك زروق. بدأ زروق رده بسخرية لاذعة عندما طالب الوسيلة بأن يتعلم مبادئ علم الاقتصاد أولا قبل أن يجرؤ على مهاجمة الحكومة ثم ناقش أراء الوسيلة بموضوعية وبدقة عالية وهو يفند النقاط التي أثارها الوسيلة. كان الوسيلة قد خلط بين بعض المصطلحات الاقتصادية مثل بند المصروفات وميزان المدفوعات والسيولة النقدية والمعونات الخارجية.
وقف الوسيلة للمرة الثانية بدون خجل أو وجل ليقدم اعتذاره عن الخطأ الذي حدث بسبب العجلة ولم يترك الفرصة وهو السياسي المحنك والقدير بعد أن عاد إلى المنبر من جديد ليكرر الهجوم معتمدا على النقاط التي أثارها زروق. كان اعتذار الوسيلة وحججه لا تقل روعة ومنطقا عن حديث نظيره زروق. وكنا نحن الشباب نستمع إلى هذا الحوار الديمقراطي الخصب العميق بين الكبار وأفئدتنا مطمئنة ومنشرحة. وكذلك كنا نتابع بدهشة وإعجاب «صراع الجبابرة» عمر مصطفى المكي (من الشيوعيين) ودفع الله الحاج يوسف (من الإخوان المسلمين). وأذكر عندما قابلت مولانا دفع الله الحاج يوسف في منزله في القاهرة بعد أكثر من أربعين عاما أن تذاكرنا تلك الفترة الخصبة وقلت له لقد كنا نحن طلاب (البرلم) نجلس في الصفوف الخلفية رهبة واحتراما لكم أنتم الكبار ونتابع بشغف وقلوب مفتوحة سجالك مع عمر مصطفى المكي. قال لي باسماً: "كان عمر عندما تحضر الشرطة أو البوليس السري بحثا عنه، يختفي في غرفتي، فالبوليس لا يتصور وجوده هناك." هكذا كان سودان الخمسينيات لا يحترم الخصم السياسي والفكري فحسب بل يعمل على حمايته.

كانت الحكومات الأوروبية شرقاً وغرباً، بجانب الاتحاد السوفيتي، تقدّم للسودان منحا مجانية للدراسة الجامعية وفوق الجامعية لمساعدة الدولة الفتية بعد خروجها من قبضة الاستعمار. وكنتُ ــ بعد ان غادرت جامعة الخرطوم جريا وراء دراسة الطب ــ ضمن الدفعة الثانية التي تم اختيارها عام 1957 للدراسة في المانيا الديمقراطية.

بمرور السنوات ازداد عددنا بجانب البعثات الخارجية غير الحكومية وكذلك البعثات عن طريق اتحاد نقابات عمال السودان واتحاد الشباب السوداني واتحاد الطلاب العالمي والحزب الشيوعي السوداني. وأصبحنا صورة مصغرة من جامعة الخرطوم: الجبهة الديمقراطية "الشيوعيون"، الإخوان المسلمون والمستقلون. ودخلنا في دوامة من الصراعات السياسية. وبدأت الجبهة الديمقراطية في استقطاب الطلاب الجدد عن طريق الترغيب تارة وعن طريق الترهيب تارة أخرى حتى كبر الكوم وأصبحت القوة السياسية المؤثرة. وكانت تفوز دائما بقيادة اتحادنا وكنت ضمن الذين دخلوا في صراع دائم مع قيادة الجبهة الديمقراطية ورفضوا الأغلبية الميكانيكية وطالبوا بالتمثيل النسبي. وكان هناك من أعضاء الجبهة الديمقراطية نفسها من انتقد هذا المسلك داخل التنظيم وفي العلن --- ولكن لا حياة لم تنادي. فالقيادة التي بدأت تظهر عليها علامات الستالينية، كانت تتمسك بصرامة بأغلبيتها الميكانيكية. وتفرقنا وضعف اتحادنا الى حين.
وهذه القيادة نفسها تسببت فيما لا يصدق. عندما أكمل سيد أحمد نقد الله دراسته في كلية الآداب بلايبزج وأوشك على الرحيل صوب الوطن، عقدت قيادة الجبهة الديمقراطية تلك اجتماعا عاجلا وعاصفا في مدينة لايبزج اتصلت بعده بالمسئولين الألمان وطالبت بسحب ماجستير الدراسات الاجتماعية من سيد أحمد نقد الله بحجة أنه لا يستحق شرف أن يكون أحد خريجي جامعات ألمانيا الديمقراطية.
وفي جلسات السمر تسرب الخبر إلى مسامع نقد الله أو أريد له أن يتسرب . ذهب نقد الله إلى وزارة التعليم العالي في برلين ودفع غاضباً شهادة الماجستير إلى المسئولين وقال إنه زاهد في ذلك مادام الطلاب السودانيون هم الذين يتحكمون في الشهادات الجامعية لألمانيا الديمقراطية، وأردف بأنه حضر إلى ألمانيا الديمقراطية وكان يعمل من قبل بالصحافة السودانية وسيعود إلى بلاده أيضا كصحفي وهذا الماجستير لن يغير كثيرا في واقع حياته المهنية.
حضر مستر لانق بنفسه، وهو أحد كبار المسئولين في الوزارة ورجل صعب المراس، ووضع الأمور في نصابها، وتعلمنا درسا لا يُنسى. وهذه القيادة التي تسببت في الكارثة، لم تصمد نفسياً، عندما تم فصلها من الحزب، بقرار الحزب العجيب الذي كان يحرّم على الرفاق الزواج بالأجنبيات. وبدون مبالغة لقد تعرف المواطن السوداني على جمهورية ألمانيا الديمقراطية عن طريق مقالات نقد الله التي كانت تنشر في صحيفة " الرأي العام" تحت عنوان "رسالة لايبزج". وعلى عكس ما تصوّر نقد الله فإنه استفاد من شهادته الجامعية إذ عاد الى جامعة الخرطوم العريقة أستاذاً، بعد أن غادرها مفصولا كطالب لنشاطه السياسي ضد الحكم البريطاني.

في عام 1961 كنت ضمن المبشرين للمشاركة في مهرجان الشباب العالمي بهلسنكي عاصمة فنلندا
وكانت فرحتي طاغية أن أشارك لأول مرة في إحدى هذه المهرجانات التي كنا نسمع عنها كثيرًا. وكانت قيادة الجبهة الديمقراطية تتحكم في الاختيار. وعندما خرجت قائمة الأسماء كانت خالية من اسمي، وكانت الرسالة واضحة لكل ذي عينين مفتوحتين. وسافر ضمن الوفد بعض الذين كانوا دائماً على استعداد للنفاق وركوب الموجة وتسلق السلم من الذين خلع بعضهم رداء الماركسية حال حصوله على شهادته الدراسية وقبل أن تحلق به الطائرة متجهة إلى سماء الخرطوم والذين ركز بعضهم و"ولبد" في الداخل مترصداً الوظيفة أو البعثة فوق الجامعية.
ولكن وبالمقابل كان هناك أصحاب الانتماء الصادق الذين آمنوا بقضيتهم ودافعوا عنها وتحملّوا في سبيلها المصاعب. عندما كان أمثالي من المثقفين السودانيين يجمعون المال وينجبون العيال كان محمد سليمان يُنقل من سجن الأبيض الى سجن شالا، وعندما انتقلت من ألمانيا الديمقراطية إلي برلين الغربية "جنة الرأسمالية" كان محمد مراد الحاج يُنقل من سجن كوبر إلى سجن بورتسودان، وعندما تحصلت على وظيفة العمر في كلية الطب بجامعة برلين الحرة للتخصص كان عثمان حمد يقود المظاهرة الصاخبة امام سفارة السودان في برلين الشرقية، مندداً بالطاغية نميري الذي قام بإعدام خيرة قادة الحزب الشيوعي الذين كانوا من خيرة مواطني السودان، راكلاً بذلك البعثة الحكومية فوق الجامعية في برلين ومضحياً بمستقبله الأكاديمي والوظيفي والأمثلة لا تحصى ولا تعد .

عام 1962 كان لي شرف التحضير لأول مؤتمر ثقافي لاتحادنا في مدينة هاله وكان نجاحاً باهراً كتجربة أولى حاولنا أن ننافس بها مؤتمرات لندن الثقافية الشهيرة التي كنا نسمع بها. ولا أزال أذكر المحاضرة القيمة التي قدمها الطبيب عمر محمد إبراهيم عن الخدمات الطبية في السودان مدعمة بالإحصائيات في ذلك الزمن الغابر، وكذلك محاضرة الشاب محمد سليمان عن ماركس والماركسية وهو لايزال يتلمّس طريقه على أرض الفكر الماركسي وتعقيب محمد مراد الحاج. أما محاضرتي عن نزار قباني شاعر الحب والجمال فقد أثارت جدلا حاداً حول ماهية الأدب ومسؤولية الشاعر ونحن على أرض الاشتراكية في وقت كان الصراع فيه حول نظرية الفن للفن أم الفن للمجتمع يسود مساحات الصفحات الثقافية في العالم العربي.
كنا نسمع بالزيارات المعلنة والخفية لكبار قادة اتحاد نقابات العمال أو الطلاب أو اتحاد الشباب أو الحزب الشيوعي وأحيانا نلتقي مع بعضهم مثل محمود بابكر جعفر و إبراهيم زكريا و عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ والطيب أبوجديري –وقتها كان رئيساً لاتحاد الطلاب العالمي ومقره براغ، تشيكوسلوفاكيا سابقاً، وعبدالرحمن عبدالرحيم الوسيلة. وكان الوسيلة، "المثقف الغرامشي"، يسعى دائما للقاء بنا. وهو واسع الاطلاع وطيب المعشر بالرغم من أسلوبه الهجومي التي أتصف به أثناء الجدل والنقاش السياسي. وكان عندما يحضر إلى لايبزج يبحث فقط عن الموسيقى الكلاسيكية لبتهوفن أو باخ أوهندل، علاوة على غرامه بأعمال شكسبير.

الذاكرة تموج بأسماء كثير من الديمقراطيين السودانيين، الذين كانوا في مستوى القيادة أو المشاركة الفعالة في المجال الثقافي أو الاجتماعي أو في قيادة اتحاد الطلبة، في فترات زمنية مختلفة. نذكر منهم تمثيلا لا حصراً: السر حيمورة، الطيب زروق، قاسم بشير، مصطفى إبراهيم مالك، عبد الماجد محمد علي (بوب)، أبوأمنه أبو محمد وسليم عيسى عبد المسيح.

وتعود بي الذاكرة الى عام 1969 عندما حضر حسن الطاهر زروق الى برلين الشرقية ضمن وفد بلادنا لحضور مؤتمر مجلس السلام العالمي وكان السودان قد اعترف بجمهورية المانيا الديمقراطية وتم التبادل الدبلوماسي الكامل بين البلدين. وكانت أسئلة الصحافيين تدور حول هذا الحدث الهام فردّ عليهم حسن الطاهر ببديهة حاضرة بقوله: لقد اعترف السودان بجمهورية المانيا الديمقراطية في الخمسينيات وكان يعني بالتورية يوم دخول اليسار السوداني أول برلمان وطني. وعندما وصلنا في برلين خبر وفاته في بغداد عام 1980 كتبت في نفس العام نصا مطولا في مجلة السودان البرلينية جاء في بعض فقراته: حين وصلني نبأ نعيك لم ترهبني كلمة الموت فهي عالقة في ذهني كل يوم بحكم مهنتي، ولكن كانت ساعات من الرهبة، ساعات من الخشوع وجيشان الخاطر وفرط الحزن العميق. ثم كانت سنوات الغربة المريرة سنوات المنفى وعذابه. كنت أتابع أخبارك عن طريق قادم من القاهرة أو بيروت أو العراق وكانوا يذكرونك بالخير ويقولون أنك لا تزال ثاقب الذهن حاد النظر رغم المرض والوهن. والآن اذا اختفيت من حياتنا ستبقى أيضا حاضرا بيننا لأن أسمك محفور في ذاكرة الطالب في مدرسة أم درمان الأهلية ومرسوم في قلوب عمال عطبرة ومزارعي الجزيرة وكل المسحوقين في بلادي الذين من أجلهم ناضلت وتشرّدت وسجنت وتغربت وفي يقيني عندما يكتب تاريخ السودان بأمانة وموضوعية سيكون اسمك ضمن الروّاد الذين صنعوا هذا التاريخ وساعدك الأمين ضمن السواعد التي شاركت في بناء السودان الحديث.
بدعوة كريمة من الحزب الشيوعي السوداني (اغسطس 1996) للمشاركة في الاحتفال بالذكري الخمسين لمولد الحزب ( 1946- 1996) في لندن جاء ضمن كلمتي التي قدمتها أمام أعضاء الحزب وضيوفهم أنني لا اريد أن أتحدث عن تاريخ الحزب الشيوعي السوداني وبدون أي احساس بتواضع زائف لا أستطيع ذلك ولكني أستطيع أن أقول كمتابع ومشارك للأحداث الوطنية بقدر ما تسمح به ظروف المغترب بأن الحزب أحيانا يفتقد الوضوح النظري والتحليل للقضايا والاكتفاء بالوصف فقط وعدم الالتفات الى موضوع الدين ودوره الروحي في حياة الفرد وكذلك عدم الانفتاح على الثقافة العربية الاسلامية الا مؤخرا (مثال الاستشهاد بالآيات القرآنية (التيجاني الطيب) والقول إن "الهوية السودانية محصلة التنوّع والتعدّد" (الشفيع خضر سعيد)). أثارت كلمتي حفيظة بعض الرفاق، كما اصابني الكثير من الاحباط، ولكنها نشرت في مجلة قضايا سودانية، التي كان يرأس تحريرها القيادي المخضرم الراحل التيجاني الطيب وقام بتحرير العدد الخاص بالاحتفال القيادي صدقي كبلو.
التقيت لأول مرة بشاعرنا صلاح أحمد ابراهيم في أحد بيوت أم درمان بالقرب من محطة ودارو بدعوة للمشاركة في تكوين فرع لاتحاد الشباب السوداني ثم التقيت به مرة أخرى في جامعة الخرطوم. وتفرقّت بنا السبل وعاد الاتصال عن طريق الهاتف، بعد ان ترك المنصب الدبلوماسي الرفيع بكبرياء زاهداً ومغاضباً، ليعيش في رقة حال ومعاناة قبل التحاقه بالسفارة القطرية في باريس. كنا نتبادل الكتب والرسائل. وكان كريما معنا نحن البرلينيين إذ شارك بمقالاته في مجلة السودان التي كانت تصدر بصورة غير منتظمة في برلين وكان يكتب المقالات خصيصا لمجلتنا وتشجيعا لنا وهو يعلم صعوبة الاستمرارية لمجلات المهجر بسبب التكاليف أو الحصول على مواد قيمة وقابلة للنشر. وكنت اتابع مسار اصدار ديوانه الأخير غابة الأبنوس وقصائد أخرى. وقد كتب المقدمة بكثير من المحبة أديبنا المبدع الطيب صالح وصمم الغلاف واللوحات الداخلية الفنان والخطاط الرائع عثمان وقيع الله. وبذكرى صلاح تثور ذكرى زميل المهنة الصديق السوري سلطان أبا زيد (والذي كان مطلعا بصورة جيدة على تاريخ الحزب الشيوعي السوداني ويعرف بعض قادته) وتثور ذكرى كلمتي التي ألقيتها في تأبينه بعنوان "نحن والردى، في تذكر سلطان ـ أبو رشا" والتي اقتطفت فيها فقرة من قصيدة لصلاح:
لو أن الشعر شواظ لهب
لمضيت أقول الشعرَ
أقول إلى أن تفنيني الكلمات
لو أن القلب يسيل بحار لهب
لعصرت القلب عصرت
إلى أن يفلت من كفي قطرات

مثل هذا الشعر يضع بصماته على روح وجسد مبدعه. فعصفور أم درمان لم يرحل مبكراً ولكنه صار عليلاً ولم يعمر طويلاً. ولكن ما العلاقة بين سلطان أبا زيد السوري وصلاح أحمد ابراهيم السوداني؟
كلاهما نال قسطاً وافراً من العلم الرفيع – هذا طبيب اختصاصي وذاك شاعر كاتب - ونذرا نفسيهما للعمل السياسي في سن مبكرة في صفوف الأحزاب الماركسية دفاعاً عن المحرومين والبسطاء، هذا يشفي بمبضعه وذاك يحرّض بقلمه، كلاهما مثقف عضوي بالمفهوم الغرامشي، كلاهما عاش مسارب السياسة وتعرجاتها واكتوى بنارها، من نجاح وإخفاق، من انشقاق ومرارات عميقة بين رفاق الأمس. كلاهما خبر عسف السلطة ومرارة الغربة وأصابهما المرض اللعين وتوفيا في العاصمة الفرنسية.

شارك معنا محمد نور حسين عام 1991في تأسيس منظمة حقوق الانسان في الدول العربية بألمانيا وانضمت اليها الناشطة في مجال حقوق الانسان والعمل الطوعي منال سيف الدين وعلوية الدشوني وعثمان سعيد. كما شاركت منال سيف الدين وعلوية الدشوني مع آسيا سيد أحمد في تكوين فرع للاتحاد النسائي السوداني في ألمانيا.
كما أشير الى مجلة الطريق التي كانت تصدرها رابطة الطلاب الديمقراطيين السودانيين بألمانيا وضمت أسرة تحريرها عزالدين سليمان بخيت والفنانين التشكيليين صلاح سليمان بخيت وأسامة خليفة.
تعرفت على الشفيع خضر سعيد عندما حضر الى برلين مشاركا في الندوة الكبيرة بتاريخ 16 سبتمبر 1995 الذي اقامتها منظمة حقوق الانسان في الدول العربية بألمانيا بالاشتراك مع الجمعية الثقافية "حوار الشرق والغرب" عن الوضع في السودان تحت عنوان "السودان: الديمقراطية والمجتمع المدني وأوضاع حقوق الانسان". وتحدث في الندوة استاذ العلوم السياسية الألماني والخبير في شؤون السودان البروفيسور تيتسلاف، وكان يستقبل في معهده في هامبورج أساتذة من جامعة الخرطوم، كباحثين زوار. كما تحدث كل من فاروق ابوعيسى وبونا ملوال وعبد السلام حسن وبيتر كوك وخالد المبارك (الذي تعرفت عليه في ستينيات القرن الماضي في مدينة لايبزج عندما حضر للدراسة بعد ان تم فصله من جامعة الخرطوم مع قيادة اتحاد الطلاب لمعارضتهم للحكم العسكري الأول بقيادة الفريق إبراهيم عبود). وتوثقت علاقتي مع الشفيع مع زياراته المتكررة الى برلين ومشاركته محاضرا او معقباً في منبر السودان الشهير، الذي ظل ينعقد بانتظام في مدينة هيرمانسبورج في ولاية ساكسونيا السفلى على مدار أكثر من خمسة وعشرين عاماً. واستطاع الشفيع أن يخلق علاقات مع بعض الأحزاب السياسية الألمانية وبعض مراكز الابحاث، وكان يحرص على ان نلتقي، حتى في زياراته الخاطفة.
أنني أكتب عن تجربة طويلة وشخصية وغالبا من الذاكرة وعن شخصيات التقيت بهم على درب الحياة وربطتني مع بعضهم علاقات وطيدة وحميمة أعتز بها، بعضهم الآن في رحاب الله يرقدون في مثواهم الأخير في أمان وبعضهم لايزال على قيد الحياة، منهم من تعثر في الطريق، وآخر اختلف في الرؤيا، وبعضهم لايزال على الدرب يواصل النضال من أجل مستقبل واعد وزاهر للوطن تحت راية الحزب الشيوعي السوداني، الحزب الذي نما من داخل التربة السودانية وشرب من ماء النيل وترعرع وشبّ عن الطوق وشارك مثل سائر الأحزاب السياسية السودانية والمنظمات المهنية والنقابية والطلابية في النضال ضد الاستعمار وجاد بالدم والشهادة وأنتج شيوعيا سودانيا ليس بشخصية ملائكية أو أسطورية وخصاله من خصال الشخصية السودانية المترسبة في نفوسنا مع حساسية مرهفة للوقوف بجانب المهمشيّن والبسطاء من أهلنا الطيبين. إنني أعتبر نفسي صديقا للشيوعيين السودانيين – هم لم يطالبوا بذلك ولم يطلبوا مني شيئا، إنما أنا الذي أسعى اليهم --- أختلف معهم أحيانا في الرؤية والتفسير وأجادلهم في ذلك ولكنني أشاركهم فرحة الانتصار وأتضامن معهم وقت الصعاب --- والصديق وقت الضيق والصديق من صدقك القول لا من صدّقك.
الذي تنبأ بنهاية هذا الحزب العريق الذي بلغ السبعين (1946 ــ 2016 )عاما من النضال المتواصل، لعله لم يشاهد الجماهير التي خرجت لتشييع محمد إبراهيم نقد والمبدعين الرائعين محمد الحسن حسن سالم (حميد) ومحجوب شريف.

برلين 16 أغسطس 2023

 

hamidfadlalla1936@gmail.com

 

آراء