شَعُر لأصابع الحسان لا للجز بمقص الأوغاد

 


 

 

٧ أكتوبر ٢٠٢٠

لم أكد أفرغ من بيان مفهوم "الحق في المدينة" الذي جاء به الفيلسوف الفرنسي الماركسي هنري لوفافر حتى حملت الأنباء خبراً عن خرق عظيم لهذا الحق. فورد أن الشرطة اعتدت على شباب بالخرطوم وحلقت شعرهم الكث صلعة. وهو مجازفة بحق هؤلاء الشباب في المدينة في قرارهم كيف يكون عليه حال شعرهم.
فلا يملك سواهم أن يقرر من موقع شوكة بشأن ما تكون عليه كثافة الشعر. ومع ذلك فكثافة الشعر ليست هي ما يستفز من يجز الشعر. فالمطلب الحق هو الإذلال وليعرف الشاب بيد من مقاليد الأمور.
كان لشعر الفتيان حضور كبير في سياسات تملك المدينة وفي سياسات من كرهها ممن مرجعيتهم الريف. فقد نشأ جيلنا و"الكاريه" في عقيدة بعضهم من عيب المدن تَبذل فيه شباب نسوا ما كان عليهم أهلهم من الحلاقة زيرو. بل هو خيابة. والقم إبراهيم عوض هؤلاء المرجفة في منتصف الخمسينات حجراً صلداً بتسريحته الغناء الفاتنة. وصارت تلك التسريحة من الجانب الآخر رمزاً للميوعة كما تجسدت في شخصية "سحسوح" التي اخترعها الرسام شبر في كاريكاتيراته في جريدة الحياة نحو١٩٥٧.
وتجلت سياسات الشعر والشوكة خلال ثورة ديسمبر. فكان من ضمن ما يوقعه الدعم السريع والرباطة من عقوبة على شباب التظاهرات هو الإمساك بهم وحلق شعرهم عنوة. وكنت أخشى ما أخشى أن يقع مولانا التاج فريسة لجماعة منهم في تلك الأيام العصيبة. ولكن لم يمسسه شعره أحد. وبدا أنهم رأوا أنه فات عليه فوات التبذل ولو أراد.
الشَعر لغة وامتياز ومورد ولذا يخشاه أهل الشوكة قاطبة من الأب في البيت إلى السلطان وشرطته. وكان أول من دلني إلى سياسات الشعر هو البروف عبد الله الطيب في كلمة له عن الشاعر الأموي يزيد بن الطثرية. وكان يزيد من أصحاب الشعر الجثل، أي الغزير، وصاحب غزل. وكان حسن الوجه، حسن الشعر، حلو الحديث. وكانت النساء مفتونات به. وسموه "مودقا" لأنه "إذا جلس بين النساء ودقهن" (أي دنون منه يستأنسن به). وبلغ من شدة أناقته أنه لا يترك لباسه الجميل حتى في عثير الحرب وقتام المعركة.
وكان يزيد تغزل بحسناء يقال لها وحشية فأمر الوالي أخاه ثَور أن يجز لمته. وفعل. فرثي ابن الطثرية لمته المجزوزة رثاء عذباً ذاع. ومن ذلك:

أقول لثور وهو يحلق لمتي بحجناء مردود علي نصابها
ترفق بها يا ثور ليس ثوابها بهذا، ولكن غير هذا ثوابها
ألا ربما يا ثور قد علّ وسطها أنامل رخصات حديث خضابها
وتسلك مِدري العاج في مدلهمة إذا لم تُفَرج مات غماً صُوابها
فراح بها ثور ترف بها كأنها سلاسل درع خبؤها وانسكابها
فأصبح رأسي كالصخيرة أشرفت عليها عقاب ثم طارت عقابها

فتجد يزيد وصف نكبته في شعره الجثل من الوفرة إلى التصحر بفعل الجز فصار صخرة يحط عليها طائر العقاب ليطير سأماً من الصلع القحط. وقال إن ثواب شعره ليس الجز بل أن تتخلل غزارته أنامل الحبيبة الرخصة التي وضعت الخضاب على أناملها لتوها. فتوالي الحبيبة ترجيل شعره فاحم السواد بمشط من العاج. وجعل سواد ذلك السواد كأنه الليل المدلهم. وخصله تشرق بالمشط والأنامل. وإن لم يفرج المشط وبنان الحبيبة دخائلها مات غماً الصؤاب فيها وهو صغار القمل. ونقول عنه "الصُواب" كما هو معلوم. فأنظر أناقة "صواب" هنا. فللشَعر صدقات.
وقال عبد الله الطيب إن فلي صغار القمل (حقاً أو ذريعة) من لهو الغزل في الزمان القديم. ووصفُ ابن الطثرية للمشط بأنه من العاج في دلالة الترف لندرة العاج.
ولم يتأخر عبد الله الطيب في السفور عن ذائقة للشعر رحبة. فقال إن الظاهر أن ابن الطثرية قصد ب"مدري العاج" المشط. وزاد: ولو أنه قصد أصابع الحسان كان أغزل وأشد ترفاً.
من حقوق شبابنا صبايا في المدينة والريف وصبيانها الشعر الجثل تتخلله الأنامل. ومن ظن أن الأصل في الرأس أن تكون "كالصخيرة" مجزوزة الشعر يتحاشاها حتى العقاب فليعرفلو بلد.

IbrahimA@missouri.edu

 

آراء