طائر الفنينق الناهض من رماد الحريق صلاح احمد ابراهيم: ابداعات ادبية وروح عبقرية (4)

 


 

 

صلاح احمد ابراهيم متنسما على ضفاف ادونيس يقطف ورده.
د. سامية عباس كرجويل
أكاديمي باحث وناقد

تأثر صلاح احمد ابراهيم بشعراء الديوان ومن بينهم ادونيس حيث استطاع ادونيس (علي احمد سعيد) ان ينقل الشعر العربي الى العالمية وهو من أكثر الكتاب العرب إسهاما في المجالات الفكرية والنقدية. بلور ادونيس منذ أغاني مهيار الدمشقي (1961) منهج جديد في الشعر العربي اصطبغ بالتجريب والابداع الذي ارتقى به على الاستخدامات التقليدية، كما وظف فيه اللغة العربية الفصحى ومقاييسها اللغوية بصورة ابداعية. يختلف الشعر الحديث عن الشعر القديم في مضامينه، أساليبه، بناياته الفنية والموسيقية، اغراضه وأنواعه المستجدة والمختلفة، وكل ما كتب بعد النهضة العربية. والشعر الحديث بدا إبان الحملة الفرنسية على مصر (1798- 1801). ويعد ادونيس من أبرز ممارسي الحداثة وقد اعاد بعث الموروث الأدبي والشعري في صياغة جديدة ضمن جدلية الثابت والمتحول. يعتقد ادونيس ان العلاقة بين الكلمات والاشياء متحولة أبدا وان بينهما فراغ دائم لا يملأه القول والذي يكمن فيه التساؤل عن حقيقة المعرفة وبالتالي فانه يري ان المعرفة لا تكتمل وان الحقيقة بحث دائم... يعد ادونيس ممن دفع بالشعر الي مساقاته المتجددة ، والمؤثرة ، والمنفتحة كلية على آفاق الإبداع الحر...(Awais. Com ). حيث صاغ قصائده بحرفية ممزوجة في بوتقة ومعتقة بالرمزية... وقد قال:
"احلم ان في يدي جمرة/آتيه على جناح طائر
من أفق مغامر/اشم فيها لهبا هياكلنا
ربما لصورة فيها سمة لامرأة/يقال: صار شعرها سفينة
المح فيها أمرا- ذبحة المصير" (قصيدة البعث والرماد: 1.الحلم)
تطل الصورة الرمزية وبقوة في شعر ادونيس مهما صغر المقطع وهذا ما ميزه عن شعراء العصر الحديث. وتظهر براعة الصور الرمزية في شعر ادونيس اذ يقول:
"خذيه هذا حلمي/ خيطيه والبسيه
غلالة
انت جعلت الامس/ينام في يدي
يطوف بي، يدور كالهدير
في عربات الشمس/في نورس يطير
كأنه يطير من عيني" (قصيدة: مرآة واحلام حول الزمان المكسور)
يأخذك الشاعر لعوالم يحلق فيها خيال القارئ في اجواء سريالية ليرتاح فيها ويحلم وعلى شؤاطي ادونيس يسترخي ويستكين ليقطف ورد مصبوغ بلون الدم نبت من كل قطره دم. وقال:
" يهبط الليل من شرفات،/ويجلس في حينا
هرما، شاحبا،
معه تجلس البيوت وأحلامها/ تترامى على صدره،
وتغازل عكازه..".(قصيدة : أساطير)
وعلى وزن هذا الإبداع وسحر البيان دوزن ادونيس قصائده فتحركك صورها الرمزية فتتأمل في التجديد والحداثة الآسرة التي تلظت برفض اتباع المدرسة التقليدية في الشعر لهذا التجديد والانطلاقة والتحرر من التبعية التقليدية والتي تدعى الاصالة.
يعتقد ادونيس ان الحداثة تقتضي تحرر الفكر والجسد معا وأنها انفجار المكبوت وتحرره وانه أوصي العربي بان يفكر ويكتب ما لم يفكر فيه ولم يكتب بعد من المكبوت دينيا، وثقافيا، واجتماعيا ، ونفسيا ، وجسديا .. ولهذا يري ان الحداثة انخراط في التاريخ الذي يوضع موضع التساؤل كما تضع الكتابة نفسها موضع التساؤل المستمر وبالتالي فهذا يجسد حركة دائمة ان استكشاف طاقات اللغة ومدلولات النص.
انتهج صلاح احمد ابراهيم نهج ادونيس وعلى ضفافة جلس يتنسم عبير أزهاره وأطلق العنان لأشعاره لتتمتع بالحرية والتحلل الأكبر من قيود الشعر العمودي والقافية فتقطرت الرمزية فيه ليكون 'وقع الحافر على الحافر،'. فقال:
" تأرجحي على نائمات السحر/ على حبال النور عند عتمة الفسق
تأرجحي
على مفارق الطرق/ مرصوصة على جبين الضوء كالجراح
مثل اختلاط نجمة الصباح/ تأرجحي
ينصرك الناس ثلاثا قبلما يبدأ ديك الفجر في الصياح
تأرجحي............
كدعوة المظلوم تستفز لعنة السماء/ حتى إذا جن المساء
صرت '. مجر الكبش' في عيون مد لجين في سفر"
تأرجحي
( قصيدة: تأرجحي )
وهكذا أنبنى معمار القصيدة عند صلاح احمد ابراهيم، وفي قصيدة اخرى تجلت فيها الدلالات والرمزية عند صلاح تجبرك على التأمل في النص الشعري لما له من خصوصية لكونها محشوة بالثقافة والمعلومات المتنوعة مستفزه بذلك فضولك بالبحث في عصير الكتب عن المزيد من تفاصيلها. وعند صلاح تأخذ العلاقة بين الرمزية والواقع شكلا متجدد وأطر متطورة دوما وشكلها الشعري لا يختلف في كل الأحوال عنه في 'غابة الابنوس ' ومثال ذلك في قصيدته " أشواق سودانية متكررة"
'اخبارنا كما هي بعض نسور صهب
تقاوم العناصر الهوجاء ، في صبر
وكبرياء، والاعاصير تهب...
وها أنا كما ترى
أجيم في مدينة التراث والترف....
أجيم مثل الأسد الحر السجين في " تواريه"
في غرفة قربها النخاس: أمة وحيزبون في الغرف
أنا وكتبي فيها الاثاث والتحف
ضيقة مثل زقاق الحب
عارية وتستضيف القطب
أشبه ما تكون بالوجار"
لجا صلاح احمد ابراهيم في شعرة الى الأسطورة كما فعل ادونيس مع الأساطير في شعره وأكثر ما تناوله ادونيس في الأسطورة هو (العتقاء ) وهي حكاية طائر خرافي يحترق ثم ينبعث من رماده حيّا وهو "الفنينق " عند الآشوريين والإغريق والرمان فجعل ادونيس منه رمزا وقد تجلت الأسطورة في قصيدته " البعث والرماد"، وقد قسمها الى أربعة اجزاء: (الحلم، الغربة، رماد عائشة، ترتيلة البعث) 5. ان النص الشعري عند ادونيس ينأى بالقارئ عن الطابع المفاهيمي الواحد للغة الى اخر تصويري قابل لان يرى من عدة وجوه لا من وجه واحد وهو المعنى كما هو الحال في الشعر القديم . وهذا ناتج عن تأثر الشعر العربي الحديث بالشعر الغربي ولا سيما بشعر إليوت يونج وقصيدته المشهورة ". الارض اليباب" " The waste of Land"( خليل، ابراهيم، 2009 )4 .وقد برع ادونيس في وصف لحظة الابتعاث من الرماد وهذا الوصف ينطبق كلما كتب عن صلاح احمد ابراهيم فهي بمثابة لحظة انبعاث من رماد الحريق. فبدا ادونيس معمار قصيدته من لحظة الفناء والتحول الى رماد الى اللحظة التي دبت فيها الحياة : " فينيق تلك لحظة انبعاثك الجديد،/صار شبه الرماد،/ صار شررا ولعبا كواكبيا/ والربيع دب في الجذور في الثرى،/ أزاح رمل امسنا- العجوز والثلاثة: الركام والفراغ والدجى،/فينيق خل جبهتي اسيرة لديك في علوك البعيد عن جفوننا/ البعيد عن اكفنا/ وخلّني لمرة اخيرة/ الامس التراب في جناحك الرميم/خلني لمرة اخيره/ احلم ان رئتي جمرة/ آتيه على جناح طائر/ من أفق مغامر/ خلني اشم فيها اللهب الهيكلي، ربما لصورة فيها سمة/وربما تجسدت قرطاجة:/ دقائق الغبار فيها لهب/ وخلى لمرة اخيرة/ احلم ان رئتي جمرة/يأخذني بخورها يطير بي/خلني لمرة اخيرة: ها ركبتي حنيتها،/ وها جلست خاشعا/ فخلني لمرة اخيره احلم يافينيق/ احتضن الحريق/أغيب في الحريق/فينيق يافنيق / يا رائد الطريق "
وهكذا حال صلاح احمد ابراهيم كل ما كتب عنه شيء ينبعث من رماد الحريق كما هو حال " الفنينق" عند ادونيس.

المصادر:
1. ادونيس الشعرية العربية محاضرات ألقيت في الكوليج دو فرانس،. باريس، أيار (1984 ) الناشر دار الآداب- بيروت
2. صلاح احمد ابراهيم: غابة الأبنوس ، منشورات دار مكتبة الحياة- بيروت
3.ادونيس . مرايا واحلام حول الزمان المكسور.
http://www.klmat.com available: 9/6/2022
4.خليل , ابراهيم (. 2009). نظر في الأسطورة في شعر ادونيس، صدر عن دار التكوين ، دمشق
Available :( 9/6/2022.: qabaqaosayn.com
5." مجلة شعر" العدد الثالث، حزيران 1957

kargwell65@yahoo.co.uk
/////////////////////////

 

آراء