طبيعة وخصائص الدولة في المهدية
نقلا عن الحوار المتمدن
كانت دولة المهدية تطوراً جديداً في مسار الدولة السودانية المستقلة ، وامتداداً للممالك والدويلات السودانية المستقلة، ولكن دولة المهدية جاءت بخصائص وسمات معينة تميزها عن الشكل والمحتوى الذي نشأت بهما الممالك والدويلات السابقة.
وإذا أخذنا الشكل الذي كانت تنشأ به الممالك والسلطنات السابقة، نجد أنها كانت تظهر لصعود سلالة جديدة للحكم سواء كانت هذه السلالة من داخل أو خارج السودان على سبيل المثال: السلالات التي أنشأت الممالك السودانية المستقلة السابقة جاءت نتيجة لاستيلاء أو اغتصاب السلطة من سلالة معينة بعد أن وحدت القبائل وكونت جيشاً وأسست ممالك كان نظام الحكم فيها وراثياً ، وهذا النمط عرفته شعوب العالم الأخرى في العصور التاريخية القديمة والوسيطة.
وبقيام دولة المهدية نجد أنفسنا إمام حالة جديدة ومتطورة في مسار تطور الدولة السودانية تتميز بالخصائص التالية:
1 - جاءت دولة المهدية نتاج ثورة شعبية مسلحة ، وضمت قياداتها أشخاصا من قبائل متعددة ”نيلية وغير نيلية” أي أن القيادة لم تكن محصورة في البداية في قبيلة أو سلالة معينة.
2- جاءت قيادات الثورة المهدية من أوساط الشعب ومن فئاته وقواه الاجتماعية المتعددة فمثلا :نرى أن الأمام محمد احمد المهدي انحدر من أسرة كانت تعمل في صناعة المراكب إضافة لتعليمة الديني وعمله لاكثر من عشرين عاما في طريقة السمانية الصوفية ، أي انه جاء من داخل المؤسسة الصوفية وبعد أن تجاوزها ، والخليفة عبد الله انحدر من أسرة دينية” كان والده شيخاً في خلوة”.
هذا إضافة إلى من كانوا يعملون بالتجارة من أمثال: عثمان دقنة وكركساوي ، ومن كانوا يعملون في جهاز الدولة التركي مثل : إبراهيم عدلان ومحمد خالد زقل...الخ. ومن كانوا يعملون شيوخا أو معلمين في خلاوي مثل: محمد الخير عبد الله خوجلي “أستاذ المهدي”...الخ، أي أن قيادات الثورة المهدية ضمت أفراداً من أصول اجتماعية متباينة .
وبالتالي يمكن القول ، إذا أردنا أن نؤرخ من هذه الزاوية للدولة السودانية المستقلة الحديثة ، أنها تبدأ بدولة المهدية رغم أنها كانت دولة دينية .
3- من حيث طبيعة الدولة المهدية ، نري أنها جاءت بعد القضاء علي دولة الحكم التركي التي كانت دولة مدنية إستبدادية وحلت محلها دولة المهدية ذات الطبيعة الدينية والتي استمدت نموذجها من الدولة الإسلامية التي قامت في عهد النبي “ص” من بيت مال ودار قضاء وإفتاء وجيش .... الخ ، واصبح المهدي علي راس الدولة باعتباره خليفة رسول الله ، ويليه خلفاؤه وأمناؤه الذين كان يستعين بهم في تصريف الشئون المدنية.
والإدارية والعسكرية والقضائية وغيرها.
هذا بالإضافة ألي أن الأمام المهدي ومن بعده الخليفة جمع بين السلطة الدينية والزمنية وكان مصدر التشريع ، وبحكم انه خليفة رسول الله وله صلة مباشرة به ، وهذه الصلة قد تتم في حضرة، في يقظة أو منام.
وكانت وظائف هذه الدولة متعددة ومتنوعة فهي دولة عسكرية أي أنها كانت في حالة حروب داخلية وخارجية مستمرة ، وكان لها وظائفها الاقتصادية وكانت الدولة عن طريق بيت المال لها أراضيها “ملكية الدولة” التي تؤجرها للمزارعين بنسب معينة من المحصول وكانت مصادر دخلها من الغنائم والضرائب والزكاة والعشور.
4- ورثت دولة المهدية جهاز دولة الحكم التركي، كما استعانت بالموظفين والكتبة الذين كانوا عاملين في جهاز الدولة السابق، واصلت دولة المهدية النظام المركزي الذي ساد في فترة الحكم التركي ،ويمكن القول وفي سياق تطور الدولة السودانية المستقلة من حيث اتساع الرقعة الجغرافية ، أن دولة المهدية هي أول دولة سودانية مستقلة شملت تقريباً حدود السودان الحالية “عدا المناطق التي كانت يستولي عليها الأتراك والمصريون مثل : سواكن وبعض مديريات الجنوب” وهكذا كانت حدود مروي أكبر من حدود نبتة وحدود ممالك النوبة المسيحية أكبر من حدود مروي وحدود دولة الفونج أوسع من حدود ممالك النوبة المسيحية . وجاءت دولة الحكم التركي لتضم دارفور وكردفان والمديريات الجنوبية ، ثم حل محلها دولة المهدية السودانية المستقلة لتضم تلك الدولة الواسعة الحدود، أي حدود السودان الحالية تقريباً “ قبل إنفصال الجنوب”.
استفادت دولة المهدية من المؤسسات الإنشائية والاقتصادية التي أقامتها دولة الحكم التركي مثل :المطبعة الحكومية “مطبعة الحجر “ مصنع الذخيرة ،الترسانة البخارية ، واستطاعت أن تديرها وتستفيد منها، كما ضمت بعض المؤسسات التجارية والصناعية لملكيتها مثل: العصاصير والطواحين ومصنع الصابون واستطاعت أن تشغلها عن طريق تأجيرها للتجار، ولكن دولة المهدية ألغت التعليم المدني “ المدارس الابتدائية والمدارس التبشيرية” ورجعت ألي نظام الخلاوي فقط ، رغم أن الشكلين كانا موجودين منذ أيام الحكم التركي المصري. كما ألغت المهدية القانون المدني الذي كان سائداً في العهد التركي وحلت محله الشريعة الإسلامية والتشريعات المستمدة من الأمام المهدي والتشريعات الأخرى المستمدة من الأعراف المحلية .
أبقت المهدية علي الهيكل الإداري لدولة الحكم التركي - المصري ،واستبدلت منصب الحاكم العام أو الحكمدار بالإمام المهدي خليفة رسول الله "ص" ، ومن بعده الخليفة عبد الله ، كما استبدلت مناصب مديري المديريات بعمال الأقاليم “ أو ولاة الأقاليم”.
كما أصدرت عملة وطنية مستقلة ، ويمكن القول أن دولة المهدية هي أول دولة سودانية في تاريخ السودان الحديث تصدر عملة وطنيه مستقلة.
5- لاول مرة في تاريخ السودان الحديث تطرح دولة المهدية مسألة الأرض أو الإصلاح الزراعي حيث أن المهدي في أول منشور له في غرب السودان الغي الملكية الخاصة للأرض وطرح شعار الأرض لمن يفلحها من منظور أيديولوجية المهدي وهي أن الأرض لله ، وكان هذا في الفترة “ 1881-1884م” عندما كان غالبية الثوار من الفقراء والمعدمين من الرعاة والمزارعين، ولكن في الفتر”1884-1885” تراجع الأمام المهدي واقر الملكية الخاصة، كما قامت ملكية الدولة للأرض بعد مصادرة أراضي” الترك والنصارى”، وكانت علائق التوزيع في أراضي الدولة تتم بين الدولة والمزارعين :أما بالربع أو الثلث أو النصف ، أما علائق الإنتاج العبودية فقد بقيت كما هي.
ويمكن القول أن دولة المهدية أحدثت تغييراً جزئياً جديداً في علاقات الإنتاج.
6- عرفت دولة المهدية التفاوت الاجتماعي والطبقي، وعرفت فئات وشرائح مثل :الحكام والأمراء والتجار وقادة الجيش، والمزارعون ، والرعاة والعاملين باجر ، والرقيق.
7- تطورت التجارة الداخلية واستمرت التجارة الخارجية والارتباط بالسوق الرأسمالي العالمي رغم الحواجز الأيديولوجية ورغم محاصرة المهدية تجارياً، ولكن بدرجة أقل عما كان علية الحال أيام الحكم التركي - المصري ، كما شهد السودان في تلك الفترة تطور النظام التجاري واتساع الطبقة التجارية، وتزايد الإنتاج من أجل السوق وظهرت الأسواق المستديمة ،إضافة للأسواق الموسمية ،كما تطورت الصناعة الحرفية وجمعت الطبقة التجارية ثروات طائلة ،أي حققت تراكماً كبيراً في رأس المال التجاري ، ولولا تخلف الزراعة والحصار العالمي، كان من الممكن أن تلج الطبقة التجارية ميدان الصناعة وخاصة أن بعضها كان ناجحاً في إدارة مصنع الصابون ومشاريع الدولة التجارية الأخرى مثل :المشارع والطواحين والعصاصير. ولكن الاستعمار الإنجليزي قضى على الصناعات الحرفية التي كانت مزدهرة أيام المهدية “نسيج، أحذية ، حدادة، نجارة ...الخ “ كما توضح خريطة سوق امدرمان أيام المهدية.
وبدخول البضائع الإنجليزية الجيدة الصنع وبكميات كبيرة،وبدون جمارك من أقمشة وأدوية وأدوات منزلية وبأسعار رخيصة تم القضاء على الصناعات الحرفية . وعليه ومنذ تلك اللحظة بدأ التخلف الاقتصادي والاجتماعي من خلال تخصص السودان في إنتاج محصول نقدي واحد” القطن” وبالمقابل اصبح السودان مستهلكاً للبضائع الأوروبية ، وتم تدمير الصناعة الوطنية وتوقف التنوع في زراعة المحاصيل الغذائية الأخرى.
8- عرفت دولة المهدية المؤشرات العامة للتخلف التي يحددها الاقتصاديون مثل :انتشار الأوبئة والأمراض والمجاعات التي فتكت بالناس، أي ضعف الخدمات الصحية وتخلف المواصلات وضعف القوى المنتجة في الزراعة التي بسببها لم تستطع المهدية تأمين فائض كافئ من الغذاء تواجه به المجاعات والكوارث الطبيعية ،كما تراجعت البدايات والأسس العلمية التي أدخلتها الحكومة التركية في مكافحة الجراد الذي كان يهدد الإنتاج والمحاصيل الزراعية.
إضافة إلى تمويل الجيوش غير المنتجة ، وكل ذلك قلل من الإنتاج الزراعي ومن فائض الإنتاج الزراعي والذي يعتبر مهما لانطلاق الصناعة والتجارة. ولكن دولة المهدية لم تعرف مشكلة أو مؤشرات الانفجار السكاني بالعكس فان السودان في نهاية دولة المهدية كان يعاني من مشكلة نقص سكاني حيث قضت حروب المهدية على ثلاثة أخماس سكان السودان حسب تقدير نعوم شقير، والذين كان يقدر عددهم في السنوات الأخيرة لفترة الحكم التركي ب9 ملايين نسمة أي تقلص إلى حوالي سبعة مليون.
كما عرفت فترة المهدية هجرات واسعة من الريف إلى المدن لأغراض اقتصادية وحربية ،أي زادت نسبة التحضر.
ولكن ظلت الغالبية العظمى من السكان تعيش على الزراعة والرعي واكثر من 90% من السكان كانوا يعيشون في القطاع التقليدي (المعيشي). ، أي أن الاقتصاد في جملته ورغم دخول اقتصاد السلعة النقد وبروز الرأسمالية التجارية والصناعية ظل في غالبيته العظمى اقتصاداً تقليدياً (معيشياً)عندما غزت قوات كتشنر السودان عام 1898م.
9- مع اتساع حروب المهدية الداخلية والخارجية تطور تنظيم الجيش حسب اختلاف وتطور المراحل المختلفة للثورة المهدية ، وكانت المراتب القيادية للجيش تتكون من رأس الميه – المقدم – الجهادي – الملازمين – الأنصاري أو الجندي”2”.
10- كما استنبطت دولة المهدية النظم للإدارة والكتابة في الإدارات المختلفة مثل: كاتب الخليفة وكانت الراية الزرقاء وكتاب المحاكم وكتاب بيت المال في العاصمة والأقاليم وغير ذلك من أعمال السكرتارية مثل استلام الرسائل وتحديد مواعيد للمقابلات والقيام بعمليات التوثيق"3" ، هذا إضافة لاستفادتها من مطبعة الحجر في طبع منشورات المهدية والخليفة وطباعة الوثائق والمرتكزات الفكرية والدينية للمهدية مثل الراتب ومؤلفات كتاب المهدية مثل حسين الزهراء وإسماعيل عبد القادر الكردفاني صاحب مؤلف كتاب "سعادة المستهدي بسيرة الإمام المهدي"
كما عرفت دولة المهدية السجون واشهر السجون كان سجن امدرمان “الساير” والذي كان عبارة عن حوش متسع محاط بسور حصين وفي وسطه بعض أكواخ من الحجر والطين. كما كان يمارس التعذيب الوحشي في هذه السجون"4".
11 - عرفت دولة المهدية المعارضة من المنطلقات الدينية والقبلية والطبقية ، كما عرفت الصراع على السلطة ، وكان نتاج ذلك الصراع أن فقدت المهدية اغلب قياداتها التاريخية نظراً لان الصراع كان يداربالقمع والاستبعاد والسجن والإعدام مما أدى إلى تآكل دولة المهدية من الداخل الأمر الذي كان من أسباب هزيمتها أمام قوات كتشنر.
12- اتخذت دولة المهدية قرارات تتعلق بالبنية العلوية الثقافية والاجتماعية للقبائل وذات جذور راسخة في حياة وتقاليد الناس مثل :منع الغناء والرقص و”الدلاليك” وحجر النساء ومنع النحاس وضرب المزامير ومنع الألعاب مثل :الطاولة والطاب ، بالإضافة لمنع التنباك والتبغ. ورغم الجلد والقمع إلا أن الواضح إن تلك العادات كانت مستمرة مما يشير إلي أن القضايا التي تتعلق بشئون الناس الخاصة والمتعلقة بالبنية العلوية من المستحيل أزالتها بقرارات وقوانين عقوبات وانما تحتاج مواجهتها بتنمية وتطوير عادات ثقافية بديلة .
13- أما عن حالة الفكر والثقافة في المهدية فقد كانت بائسة من جراء حروب المهدية المتواصلة وأيديولوجية المهدية نفسها التي لم تكن متسامحة مع الآراء الاجتماعية والدينية الأخرى لكونها هي الإسلام الصحيح الوحيد ، وتم إلغاء المذاهب والطرق الصوفية والدينية وإحراق الكتب ألا الكتاب “القرآن “ والحديث الصحيح وتم إلغاء التعليم المدني والعودة لنظام الخلاوى، كما أن المهدية شهدت ثقافة منحازة لها وثقافة معارضة.
هوامش ومراجع:
1- للمزيد من التفاصيل عن الطبقة التجارية ، راجع د.محمد سعيد القدال : السياسة الاقتصادية للدولة المهدية ، دار جامعة الخرطوم للنشر، 1986 .
2- للمزيد من التفاصيل عن تنظيم الجيش راجع المصدر السابق .ملحق رقم (2) ص 218 ـ 219 .
3- للمزيد من التفاصيل عن نظم الإدارة في المهدية راجع د. محمد ابر أهيم آبو سليم : الحركة الفكرية في المهدية ، دار جامعة الخرطوم 1970 ، ص 81 وما بعدها .
4- للمزيد من التفاصيل راجع حسين سيد احمد المفتى : تطور نظام القضاء في السودان ، الخرطوم 1959) ـ الجزء الأول ـ ص 159 .
5- تاج السر عثمان : دراسات في التاريخ الاجتماعي للمهدية ، مركز عبد الكريم ميرغني ، 2010م.
نقلا عن الحوار المتمدن