طلب لجوء الي تشيلي … بقلم: د. حسن بشير محمد نور – الخرطوم
تابعت منذ الصباح الباكر اليوم 13 أكتوبر 2010م عمليات الانقاذ التي تتم لعمال المناجم التشليين. لقد تم طمر ثلاثة وثلاثين عاملا في منجم علي عمق 700 متر تحت سطح الأرض اثر حادث انهيار المنجم الذي يعملون فيه. بعد حدوث تلك الكارثة التي ألمت ب(33) شخصا من العمال منهم (32) عاملا تشيليا وواحدا من بوليفيا، منذ تلك اللحظة هبت البلاد بأثرها لإنقاذ الثلاث والثلاثين المدفونين تحت الأرض. لم ينم الحكام والمسئولين في بيوتهم ولم يركنوا للاستمتاع بامتيازات السلطة وانما عمل كل من له علاقة بالأمر علي التعامل مع كارثة الثلاث وثلاثين باعتبارها كارثة قومية وأزمة ألمت بأمة عليها التعامل معها وإدارتها بنجاح للسيطرة عليها. قام الرئيس التشيلي بالإشراف المباشر علي إجراءات الحل ووقف أمام مخرج الكبسولة يستقبل أول الناجين من الكارثة، محتضنا ابنه الذي كان يبكي ملهوفا علي مصير والده. لم يرتاح الوزير ولم يسافر او يذهب الي مؤتمر في فندق ما،وإنما عمل مع فريق كامل التخصص في إدارة الأزمة. تم إحضار المختصين بالإنقاذ الخاص بالحالة التي يتم التعامل معها، تم استخدام حفارات النفط لحفر مخرج الإنقاذ، تم تدعيم المخرج بعد أن تم تجهيزه لاستيعاب كبسولة الإنقاذ التي تم تجهيزها بواسطة وكالة الفضاء الأمريكية ناسا(NASA )، بعد إجراء الاختبارات اللازمة باشر الفريق المختص عمليات الإنقاذ وعند كتابة هذه السطور يجري استخراج العامل السادس. عملية إنقاذ الشخص الواحد تستغرق تقريبا ساعة كاملة. قبل كل ذلك تم العثور علي العمال في مدفنهم والتواصل معهم ومدهم بجميع مستلزمات البقاء أحياءا تحت الأرض لشهرين كاملين ودعمهم وأسرهم بكل ما يلزم ويحافظ علي الصحة البدنية والنفسية.
يفسر ما تم ماهية الدولة. يعلمنا ذلك ان الدولة، عندما تكون دولة حقيقية تهتم بجميع المواطنين علي قدم المساواة وتعمل علي صيانة أرواحهم ورعايتهم، كما ان الدولة هي التي تستطيع التعامل مع الأزمات والكوارث بحكمة وإدارتها بنجاح محققة أفضل النتائج. مثل هذه الدولة تستحق ان تعيش وان تحترم وان ترفع لشعبها وقادته القبعات احتراما. لكن كل ما جري في تشيلي ليس غريبا علي شعب هذه البلاد متعددة الأعراق. لقد ابتدع هذا الشعب أول الديمقراطيات قبل ان يغتالها الانقلاب الفاشي لبينوتشه بمشاركة مباشرة من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ( CIA)،التي لم تترك وشاحا للعار في العالم الا وتلفحت به. كان ذلك كما تعلمون في العام 1973م. لكن الشعب التشيلي لم يستسلم لجلاديه وانما قاد مقاومة شرسة انتهت بدفن الديكتاتور حيا وهو متدحرج علي كرسيه النقال، وذهبت به الي مزبلة التاريخ، مدفونا تحت جبال النحاس التي تمتلئ بها شعاب التشيلي. بعد ذلك انتخب هذا الشعب اول رئيسة امرأة في الجزء الغربي من الكرة الأرضية، وها هو يستعيد حريته وديمقراطية تعتبر نموذجا يفخر به العالم. الا ان كل ذلك ليس مهما، اعني ليس مهما في رأي من هو الرئيس التشيلي، رجلا كان ام امرأة، ليس مهما من أي حزب او تيار كان. السبب في هذه القناعة هي ان أي شخص كان لن يستطيع الوصول الي درجة الترشح لرئاسة الجمهورية(ناهيك ان يصبح رئيسا)، ولن يستطيع ان يتقلد منصبا عاما اذا لم يكن مستحقا له، ان سلوك الشعب التشيلي وطريقة تعامله تثبت ذلك. في الحقيقة فحتي دكتاتورية اوغستو بينوتشيه، بالرغم من كل دمويتها وبشاعتها وقتلها لأهم رموز الديمقراطية التشيلية (سلفادور ايندي) واهم المبدعين في البلاد من امثال (بابلو نيرودا)، الذ عاد من الخارج علي رحلته العادية المبرمجة بالطائرة بالرغم من حدوث الانقلاب، وهو يعلم ان الإعدام في انتظاره، ومن أمثال المغني الثوري الشاب (فكتور هارا) والعشرات غيرهم، بالرغم من كل تلك البشاعة والدموية الا ان انجازاتها الاقتصادية كانت مبهرة باعتراف الجميع وبما سجلته الإحصاءات والدراسات الاقتصادية. يعني ذلك ان الشعب عندما يكون عظيما فحتي اعتي الطغاة لن يستطيعوا التلاعب بمصيره والنيل من حياته الكريمة وتدنيس كرامته.
لم تكن معرفتي بالشعب التشيلي وإعجابي به وليدة لحظة او حدث عابر في الحياة العامة في تلك البلاد البديعة، كما يحدث اليوم في حادثة المنجم، وإنما تعرفت عليه عن قرب من خلال عملي في فريق عمل لدعم كفاح الشعب التشيلي ضد الديكتاتورية. كان ذلك في ثمانينات القرن الماضي بالاتحاد السوفيتي. عملنا في فريق عمل باسم (فكتور هارا)، كان ذلك في منطقة القوقاز في إقليم ستافرابول، بمدينة كيسلافودسك (المياه الحلوة)، تلك المدينة الساحرة. استمتعنا في عملنا ذاك بوجودنا بالقرب من مدينة بيتي غورسك (الجبال الخمسة) و مينفودي (المياه المعدنية) وبالقرب من سلسلة جبال البروس، اجمل جبال أوربا وجبال الدونباي، أي في منطقة تقع فيها واحدة من اهم منتجعات العالم. يا له من سحر زاد من روعته الشباب التشيلي الذي كان بالإضافة لحبه غير الاعتيادي للعمل والتفاني فيه وإتقانه له، كان كل فرد فيه ، صبي او فتاة، اذ كنا في ريعان الشباب، يتمتع بموهبة إضافية. كان التشيليون يجيدون شيئا ما، إما الكتابة الأدبية او الغناء، العزف علي آلة موسيقية او التمثيل، بالإضافة لإجادتهم جميعا وبدون استثناء لرقصهم الفلكلوري المتنوع، ابتداء من الرقصات التي تعبر عن التراث الهندي وصولا الي الفن اللاتيني بجميع أنواعه.
استغربنا في ذلك الوقت من شيء واحد هو: كيف لمثل هذا الشعب ان تحكمه ديكتاتورية وتقهر مواهبه تلك وروحه المتوثبة التواقة للإبداع والتميز. لكن بالمقابل ترسخت لدينا قناعة هي: ان هذا الشعب لمقتلع لتلك الحالة الشاذة، الديكتاتورية، من حياته من جذورها والي الأبد. ولقد كان، استعاد هذا الشعب ديمقراطية برونق خاص، وقد فعل ذلك دون عنف وبدون ان يعرض بلده لويلات الصراع العنيف او لتدخل قوي خارجية تمتص ثرواته وتترك شعبه، ليس ليموت فقط وهو مطمور في المناجم، وإنما ان يموت من الجوع والفاقة.
في حالة الضياع التي يمر بها وطننا علينا استلهام العبر من مآثر الشعوب ولنا في شعوب بلدان مثل تشيلي، البرازيل وجنوب افريقية أمثلة تحتذي. في حالة أي هروب جماعي جديد بحثا عن (وطن بديل)، كما يقول البعض، مع قناعتي بان الأوطان لا تستبدل ولا تعوض بآخري مثل قطع الأرض السكنية او قطع الأثاث المنزلي، لكن مع ذلك انصح الهاربين بان يتجهوا للبحث عن لجوء (جاذب) في بلد مثل تشيلي ، حتى ينعم أحفادهم بوطن يفخرون به، يغنون بنشوة نشيده الوطني ويعتزون بعلمه حد الموت دفاعا عنه، ينطبق ذلك بشكل خاص علي الذين يفضلون التعامل مع الشعوب اللاتينية، التي أجدها، أفضل عشرة وأكثر إنسانية وابعد من العنصرية بشكل لا يقارن مع شعوب اخري تدعي الديمقراطية والحرية ولكنها تفعل العكس. الكثير من تجارب الشعوب، صغيرها وكبيرها تعلم الدروس والعبر وتدخل في التاريخ بشكل ايجابي، عسي ان يكتب الله لشعبنا السوداني ان ينعم بتاريخ مماثل.
hassan bashier [hassanbashier141@hotmail.com]
Dr.Hassan.